وضع داكن
30-11-2024
Logo
الدرس : 73 - سورة البقرة - تفسير الآية 215 أهمية السؤال وقيمة الإنفاق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

السؤال علامة المؤمن الصادق:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الخامسة عشرة بعد المئتين، وهي قوله تعالى: 

﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)﴾

[ سورة البقرة ]

أيها الإخوة؛ حينما تهتم بموضوعٍ ما تسأل عن تفاصيله، هذه قاعدة، حينما تقتني آلةً غاليةً، معقَّدةً، عظيمة النفع، تعكف على كُتيِّبها فتقرؤه كلمةً كلمة، أو تُتَرجمه كلمةً كَلمةً، وقد تُرسل إلى الشركة رسالة: ماذا تعنون بهذه العبارة لم أفهمها؟ وكيف ينبغي أن أصون هذه الآلة؟ وكيف ينبغي أن أعتني بها؟ وكيف ينبغي أن أرفع من مردودها؟ هذا شيء طبيعي بالإنسان، حينما يهتمُّ بشيء يسأل عنه، علامة المؤمن الصادق يسأل؛ هل هذا العمل حرام أم حلال؟ هل يُرضي الله أم لا يرضي الله؟ هل أكون عند الله مسؤولاً؟ هل يقبلني الله بهذا العمل أم يرفضني؟ علامة الصدق السؤال، علامة السيْر في طريق الحق أن تستوْضح، أن تسأل، والله عزَّ وجل يقول:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾

[ سورة النحل ]

في شؤون الدنيا ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ ، في الشؤون المتعلقة بالله عزَّ وجل:

﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)﴾

[ سورة الفرقان ]

لابد لك من جهتين هما مرجعان لك، جهة ترجع إليها في أمور الدنيا، وهذا الذي علَّمنا إياه النبي عليه الصلاة والسلام، علَّمنا الاستخارة، وعلَّمنا الاستشارة، ينبغي أن تسأل أهل الخبرة من المؤمنين في شؤون الدنيا، وينبغي أن تسأل العلماء الصادقين، المخلصين، العاملين في شؤون الآخرة. 
 

السؤال دليل الصدق:


أنت لمجرَّد أنك تهتم بشيء تسأل عن دقائقه، وتفاصيله، ومَداخله، ومخارجه، وأخطاره، وأبعاده، وملابساته، إلى آخره، لذلك علامة صدق أصحاب رسول الله أنهم سألوا النبي عليه الصلاة والسلام . 
﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ فالسؤال دليل الصدق، حينما لا يسأل الإنسان هناك احتمال جيِّد لصالحه، قد يكون الأمر واضحاً جداً له فلا يسأل، قد يلقي أستاذٌ درساً، ويسأل الطلاب: هل هناك من سؤال؟ فإذا كان الدرس واضحاً جداً، والطلاب استوعبوا دقائق هذا الدرس لا أحد يسأل، هذه حالة، أما الطالب البعيد عن موضوع الدرس، الطالب الشارد، الذي يعيش بجسمه في قاعة الدرس، وفي قلبه خارج الدرس، هذا لو قيل له: أتسأل؟ يقول: لا، لا يوجد سؤال، لا يسأل، فالذي لا يسأل إما لوضوحٍ شديدٍ عنده، أو لعدم اهتمامٍ بأصل الموضوع.
على كلّ العلم مِفتاحُه السؤال، ولئن تسأل فتكون في نظر الآخرين جاهلاً أفضل ألف مرة من أن تُخطئ ولا تسأل، وليس العارُ أن تكون جاهلاً، ولكن العار أن تبقى جاهلاً، وليس العار أن تخطئ، ولكن العار أن تبقى مُخطئاً، والمؤمن الصادق يسأل، ولا يعبأ كثيراً بمكانته، لأن هناك رجلين لا يسألان؛ المُستحيي والمُتَكَبِّر، والحياء في العلم جهل، والكبر في العلم جهل.
لكن بقي موضوع دقيق في موضوع السؤال، هذا الإنسان الذي يُسأل، إذا علَّق تعليقاً قاسياً على سائلٍ منع السؤال، فينبغي له أن يتقبَّل السؤال بصدرٍ رحبٍ واسعٍ، وأن يحترم السائل، وأن يُثني عليه، حتى يشجِّع غيره أن يسأل. 
 

مفتاح العلم السؤال:


أحياناً يسأل الابن أباه سؤالاً، قد يكون سخيفاً، فيصب الأب جام غضبه على ابنه، ولم يدر الأب أنه أجرم في حق ابنه، لن يسأله بعد ذلك سؤالاً، لا، مهما بدا لك السؤال سخيفاً تافهاً يجب أن تحتفل بالسائل، وأن تثني عليه، وأن تقول له: بارك الله بك، هذا دليل اهتمامك، وهذه النقطة التي أثرتها جوابها: كذا وكذا وكذا، فموقف المسؤول سوف يُسأل عند الله يوم القيامة، مفتاح العلم السؤال، كم من إنسان كره مادةً في التعليم من أستاذٍ قاسٍ في ملاحظته! فاسأل ما بدا لك، ورد في الأثر أن: تواضعوا لمن تعلِّمون، وتواضعوا لمن تعلَّمون منه.
يجب أن تتواضع لمن تُعَلِّم، طبعاً هناك قصص تُروى، وهي للتَنَدُّر ولا يؤخذ منها حكمٌ شرعي؛ تروي الكُتب مثلاً أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يعاني من ألمٍ في مفاصله، وكان يلقي درساً أمام تلامذته المقرَّبين، وكان ماداً رجله، فدخل رجلٌ عظيم الهيئة، طويل الجثّة، عريض المَنكبين، يرتدي عمامةً، يبدو أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى استحيا منه فرفع رجله، فجلس في مجلسه، وبعد أن انتهى المجلس سأل -الموضوع كان حول صلاة الصبح-قال له: يا إمام كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ قال له: عندئذٍ يمدُّ أبو حنيفة رجله. 
طبعاً هذه قصة للتنَدُّر، أما أن يؤخذ منها حكمٌ شرعي، الحكم الشرعي نأخذه من موقف رسول الله عليه الصلاة والسلام، الحكم الشرعي نأخذه من الكِتاب والسنَّة، هذا هو الحق، النبي مُشرِّعٌ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، كان يُسأل بغلظة: أعطني من هذا المال يا محمد، فهو ليس مالَك ولا مال أبيك، وكان بإمكان النبي أن يلغي وجوده، المؤمن متواضع لمن يسأله، مهما بدا لك السؤال سخيفاً، تواضع لمن تتعلَّم منه، وتواضع لمن تُعلِّم، هذا التعليق على كلمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ فاسأل، أنت حينما تسأل تستعير خبرة المسؤول، وقد تزيد عن خمسين سنة، خبرات متراكمة خلال عمر طويل، تأخذها مجَّاناً بسؤال مؤدَّب، اسأل ما بدا لك، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ .
 

الذين سخَّرهم الله لنشر دينه يعملون لحساب الله ويرجون رحمته:


أيها الإخوة الكرام؛ حينما يصحُّ الإيمان يتحرَّك الإنسان، لا يوجد إنسان مؤمن سكوني، حينما ينعقد الإيمان في قلب المؤمن، أو حينما تستقر حقيقة الإيمان في قلب المؤمن، تُعبِّر عن ذاتها بحركة نحو الخَلْق، ماذا أفعل؟ ماذا أُنْفق؟ ماذا أقول؟ مع مَن أجلس؟ مَن أصاحب؟ كيف أمضي وقتي في البيت؟ الصادق يسأل، أنت إنسان محدود الإقامة في الدنيا، وخُلقت لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، وحُمِّلْتَ أمانة التكْليف، فوقتك ثمين جداً، إنه وعاء عملك، فكل شيء تفعله محاسبٌ عليه، كل شيءٍ مسجلٌ عليك، إنك تحت المُراقبة.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾

[ سورة النساء ]

فحينما تستقرُّ حقيقة الإيمان، وهي أن الله خلق الكون وخلق الإنسان ليجعله في أعلى مقامٍ في الجنة، وأن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، وأن هذه الدنيا دار تكليف لا دار تشريف، وأن هذه الدنيا دار عمل لا دار جزاء، حينما توقن تؤمن بالله، وتؤمن بسرِّ وجودك، وغاية وجودك، وتؤمن بمنهج ربك، تسأل إذاً.
النقطة الدقيقة أنك لن تستطيع أن تدخل إلى أيّ مكتبٍ في البلد إلا وفي جيبك مال، لن تستطيع أن تدخل إلى عيادة طبيبٍ إلا وفي جيبك ثمن المُعاينة، أجور الطبيب، ولن تستطيع أن تُقابل محامياً إلا وأجور الأتعاب في جيبك، سأل أحدهم محامياً: أأدخل بهذه القضية في القضاء؟ هل هي رابحة أم خاسرة؟ قال له: خاسرة، قال له: شكراً، قال له: أين الأجر؟ قال له: خاسرة، قال له: هذه نصيحة قدَّمتها لك، فضجر فذهب إلى محامٍ آخر، قال له: هكذا فعل معي، قال له: معه حق، فانصرف قال له: أين الأجر؟ لن تستطيع أن تدخل إلى مكانٍ إلا وفي جيبك أتعاب هذه الاستشارة إلا في المسجد، اسأل ما بدا لك، هؤلاء الذين سخَّرهم الله لنشر دينه يعملون لحساب الله عزَّ وجل، يرجون رحمة الله..

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)﴾

[ سورة الإنسان ]

لن تجد هذا إلا في الحقل الديني. 
 

الحق ميسَّر ليكون واضحاً بين الناس:


شيء ميسَّر.

﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)﴾

[ سورة القمر ]

يسَّرنا هذا الدين للنشر، يسرنا الحق ليكون واضحاً بين الناس، ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ .

﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)﴾

[ سورة الفرقان ]

﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾
 

بالأعمال السلبية تسلم ولكنك بالإيجابيَّة ترقى:


الحقيقة يوجد بالإسلام حركة سلبيَّة، وحركة إيجابيَّة، الامتناع هو الاستقامة، امتنع عن الكذب، جيد، صادق، امتنع عن الغيبة، امتنع عن أكل المال الحرام، امتنع عن الإيقاع بين الناس، امتنع مثلاً عن محاكاة الآخرين، تقليدهم، فالذي يقول: أنا لم أغتب، ولم أزنِ، ولم أسرق، ولم أقتل، ولم ولم، هناك مئة ألف بند تسبقها لَم، معنى هذا أنت مستقيم، الاستقامة تؤدي إلى السلامة، ولكن الأعمال الأخرى أعمال إيجابيَّة؛ إنفاق، طلب علم، تعليم العلم، الإصلاح بين الناس، رعاية الأيتام، رعاية الأرامل، رعاية طُلاب العلم، هذه أعمال إيجابيَّة، بالأعمال السلبية تسلم، أما بالإيجابيَّة ترقى، وتحتل عند الله مقعد صدقٍ عظيم، بالأعمال السلبية تسلم، بالإيجابيَّة تسعد، والسلامة والسعادة مَطْلَبَان أساسيان عند كل إنسانٍ كائناً من كان. 
لدينا الإنفاق، ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ الإنفاق عندنا هنا في الآية بديهي، ما سألوا النبي: ننفق أو لا ننفق؟ قال: ماذا نُنْفِق؟ كم ننفق؟ ولمَن ننفق؟ وما نوع الذي ننفق؟ أما الإنفاق كإنفاق مقطوعٌ به، هذا المعنى أحياناً يُستشف من آية أخرى:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

[ سورة الملك ]

لا ليبلوكم أتنجحون أم تسقطون؟ لا ليبلوكم أتُحسنون أم تسيئون؟ لا، ينبغي أن تكون محسناً، وهذا مفروغٌ منه، أما الامتحان: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ الجامعات الراقية جداً، والتي اختارت طُلابها بعنايةٍ فائقة، وبمجموعٍ عالٍ جداً، هذه الجامعات تجري امتحاناً لا ليفرز الناجحون مِن الراسبين، لا، كلهم ناجحون، ولكن ليُصنَّف الناجحون في مراتب، امتحانات الجامعات الراقية لتصنيف الناجحين في مراتب، لا لفرزهم إلى ناجحين وراسبين، الرسوب ليس وارداً إطلاقاً.
وفي هذه الآية عدم الإنفاق ليس وارداً إطلاقاً، أما الذي هو ينبغي أن يكون هو الإنفاق، لم يُسأل النبي عن الإنفاق، ولكن سئل: ماذا ننفق؟ ولمَن ننفق؟ 
 

معنى الإنفاق:


الحقيقة الإنفاق له معنىً موسَّع جداً؛ أن تُنفق مما رزقك الله، لا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يوجد عنده شيء، إنسان عنده عِلْم، إنسان عنده خِبْرَة، إنسان عنده قُدْرَة، إنسان عنده مهارة، إنسان عنده مال، إنسان عنده مكانة وجاه، إنسان عنده قدرة على الإقناع، ماذا تُنفق؟ أنفق مبدئياً مما رزقك الله:

﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

[ سورة البقرة ]

أيْ شطر الدين الأكبر الإنفاق، شطره أن تعرف الله، وشطره أن تستقيم على أمره، وشطره أن تُنْفِق، فإنسان لا ينفق إنسان لا يُؤكِّد صِدْقَهُ، لماذا سمَّى الله الصدقة صدقةً؟ لأنها تؤكد صدق المؤمن، هناك أشياء لا تُكلِّفك شيئاً، أي أن تأتي إلى بيت من بيوت الله شيء لطيف، الإنسان قد يستمتع بدرس، قد يلتقي مع أخوانه، أن تتوضأ وتصلي في الصيف، الصلاة نشاط، أن تذهب إلى العمرة شيء لطيف، سفر مريح، تسكن في فندق، تأكل، وتشرب، وتطّلع، وتطوف حول البيت وتأتي، وعملنا عمرة، أما حينما تُؤْمَر أن تنفق من مالك، المال محبَّب، وطبعك يقتضي أن تأخذه لا أن تُنفقه، فحينما تنفق المال هذا يُؤكِّد صدق المؤمن، الحقيقة الصدق يظهر في الأعمال المُتْعِبَة، لذلك سمىَّ الله عزَّ وجل التكليف تكليفاً لأنه ذو كُلْفَة.
 

إن أردت أن تنفق من مالك فيجب أن يكون هذا المال مالاً حلالاً:


إذاً الإنفاق مفروغٌ منه، لم يُسأل عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن سُئل: ماذا ننفق؟ فجاء الجواب إجابةً للسؤال وزيادةً عليه، ما هي الزيادة؟ فقال الله عزَّ وجل: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ ، ﴿خَيْرٍ﴾  يجب أن تنفق خيراً، أي تنفق مالاً حلالاً، أن تعطي علماً نافعاً، لا أن تُعَلِّم السحر، أن تُعلّم علماً نافعاً، أن تنفق من مالٍ حلال، أن تُطْعم طعاماً طيِّباً تأكله أنت وتُقبل عليه، لا إنك إذا كرهت الطعام أنفقته، هذه كلمة  ﴿خَيْرٍ﴾ واسعة جداً، إن كانت بالجاه يجب أن تُعين مظلوماً بجاهك، لا أن تُعِين ظالماً على أكل مال الناس بالباطل، أخي أنا وضعت مركزي كله، لا، وضعت مركزك كله لنصرة الظالم لا المظلوم، ﴿خَيْرٍ﴾ إن أردت أن تُنفق من جاهك يجب أن يكون هذا الإنفاق خيراً لنُصرة المظلوم، إن أردت أن تنفق من مالك فيجب أن يكون هذا المال مالاً حلالاً، جمَّعته مِن كَدِّ يمينك وعرق جبينك، إن أردت أن تُنفق علماً يجب أن تُنفق علماً نافعاً ينتفع به المتعلم في الآخرة، لا أن تُنفق علماً يُفسد حياة المسلمين.
 هناك مِهَنٌ كثيرة أساسها إفساد أخلاق المسلمين، أساسها إفساد البيوت؛ أنا أعلِّمك تصليح هذه الأجهزة، أنت ما فعلت شيئاً، أنت ما أنفقت، هذا العلم الذي تعلَّمته والذي تُعلِّمه للآخرين أساسه إفساد البيوت المُسلمة، الإنفاق يجب أن يكون إنفاقاً خَيّراً؛ إنْ في المال، أو في العلم، أو في الجاه، أو في أيّ شيء آخر. 
هذه الزيادة، أجابهم الله عزَّ وجل عن سؤالهم، وزاد عن إجابتهم بشرطية أن يكون الإنفاق من خيرٍ.
 

ربنا عزَّ وجل رفع برَّ الوالدين إلى مستوى عبادته:


﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ أقرب الناس إليك، أقرب إنسانين إليك في الدنيا هما والداك، اللذان هما سبب وجودك، الله عزَّ وجل جعل وجودك في الدنيا بسببهما، لذلك ربنا عزَّ وجل رفع برَّ الوالدين إلى مستوى عبادته، قال تعالى: 

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)﴾

[ سورة الإسراء ]

أعظم مظهر صارخ في حياة المسلمين بِرُّ الوالدين، بينما في بلاد الغَرْب يُقيمون يوم الأم، لأن الأم مهجورةٌ سنةً بأكملها فينبغي أن يذكرها ابنها في السنة كلها يوماً واحداً، أما عندنا -والحمد لله-إذا لم يرَ الأب والأم ولدهما كل يوم هناك مشكلة، ليس من المعقول، ولا المقبول، ولا اللائق بإنسان كان أبوه وأمّه سبب وجوده أن يهملهما،  ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يُغْفَر له، ولا تُشارك عاقاً لوالديه، لو كان فيه خيرٌ لكان لوالِديه، ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ والحقيقة الحياة فيها دروس بليغة، البارُّ بوالديه موفقٌ في الدنيا، قدَّم شيئاً لوالديه اللذين كانا سبب وجوده، وكانا يتمنيان أن يجوعا ليشبع، وأن يعريا ليكتسي، كم من أب يُهْمِل شراء حاجاته الشخصيَّة من أجل أولاده؟! كم من أب يخرج من دمشق –البلدة-إلى ريفها ليزوِّج أولاده بفرق سعر البيوت بين الشام وبين ريفها؟! هؤلاء الآباء أبطال، فهذا الأب الذي عاش من أجل أولاده، ألا يقتضي أن يكون أولاده طَوْع بنانه وفي خدمته؟
 

صلة الرحِم مِن أعظم الأعمال في الإسلام:


قال تعالى: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ .
أيها الإخوة؛ يوجد شيء في الإسلام دقيق جداً، إذا اهتم كل إنسان بوالديه، واهتم بإخوته الذكور والإناث، واهتم بأعمامه وأخواله، وعمَّاته وخالاته، وأولادهم جميعاً، صار هناك دائرة ضمان اجتماعي، إذا اهتم كل واحد بوالديه، وإخوته الذكور والإناث، وأخواله وأعمامه، وخالاته وعماته وأولادهن، يكون المجتمع بأكمله دون أن نشعر في ضمانٍ اجتماعيٍ موحَّد، أي هذه الدوائر تتصل فتشكِّل المجتمع بأكمله، هذا نظام الإسلام، الأقربون أولى بالمعروف، لا تُقبَل زكاة إنسانٍ وفي أقربائه محاويج، لأن الناس أنت لهم وغيرك لهم، أما أقرباؤك المُقَرَّبون إليك، لأنك تعلم سرَّهم ونجواهم، تعلم أوضاعهم، ومعيشتهم، وحاجتهم، وكل ظروف حياتهم، مَن لهم غيرك؟ فهذا الذي يُهْمِل أهله، يُهمل والديه، يُهمل أقرباءه، يهمل ذَوي قرابته ويهتم بالغرباء، هذا إنسان توازنه مختل، ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ لذلك صلة الرحِم مِن أعظم الأعمال في الإسلام، إنّ صلة الرحم مغطَّاة بأربعين حديثاً صحيحاً، لعلَّها تزيد في الرِزق -كما قال عليه الصلاة والسلام-وتنْسأ في الأجل، أي يمتلئ عمرك بالأعمال الصالحة فكأنه زاد، بهذا المعنى تقريباً.
 

هناك دعوةٌ إلى الله خاصة لأقربائك:


صلة الرحم أيها الإخوة تبدأ بزيارة، وتُتابِع هذه الصلة بتفقُّد أحوال من حولك، ثم بالمُساعدة، ثم بالدعوة إلى الله، أي هناك دعوةٌ إلى الله خاصةٌ لأقربائك، قال تعالى: 

﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾

[ سورة الشعراء ]

إذا اهتم كل واحد بأخواته، وأصهاره، أولاد عمِّه وعماته، وأولاد خاله وخالاته، وزارهم، ودعاهم إلى الله، قدَّم لهم شريطاً، قدَّم لهم هدية، عاونهم، عمل لقاء أسبوعياً شرح لهم فيه آية أو حديثاً، إذا اهتم كل واحد بأقربائه دعونا إلى الله بأعلى درجة من الدعوة، ولا تنسَ أيها الأخ الكريم أن الدعوة إلى الله فرض عين، لا تُعفى من الدعوة إلى الله إطلاقاً لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾

[ سورة يوسف ]

كلام الله عزَّ وجل، علامة اتباعك لرسول الله أنك تدعو إلى الله، إما أن تتكلَّم، وإما أن تُقدِّم للناس شريطاً، أو أن تدعوهم إلى مسجد، لابد من أن تقدِّم شيئاً لهؤلاء، هذه دعوة إلى الله في حدود ما تعلم، ومع من تعرف هذه فرض العين، أساساً الدعوة إلى الله رُبْع النجاة:

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾

[ سورة العصر ]

﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أما اليتيم، وهو الذي فَقَد والده، أو فَقَد أمه، أو فَقَدهما معاً، حينما يُهمله المجتمع، ويرى رفاقه في بحبوحة، وفي بِشْر، وفي سعادة، آباؤهم معهم، يُغدق آباؤهم عليهم كل خير، يحقد على المجتمع، وقد يحقد على القدر الذي أفقده والده، وقد يكفر بالله، أما إذا وجد اليتيم رعاية كافية مِن عمِّه، مِن خاله، مِن جده، مِن صديق والده، وجد رعاية كاملة، صلة، إكراماً، حُلَّت المشكلة، فاليتيم أي يتيمٍ يحتاج إلى أن تنفق عليه؛ إما من وقتك، وإما مِن اهتمامك، وإما من مالِك، من أجل أن تنسيه فقده لوالده.
 

المسكين وابن السبيل من أولى الناس الذين ينبغي أن يأخذوا من مالك:


﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ المسكين هو الذي لا يستطيع أن يَكسِب رزقه، هذا أولى الناس بأن يأخذ من مالك الذي تنفقه في سبيل الله.
﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ المنقطع، عظمة هذا الدين إذا كنت مسافراً وسُرقت محفظتك، أنت الآن فقير فقراً طارئاً، لك بلد، ولك محل تجاري، ولك شركة، وتملك ما تملك، أما هنا لا تملك شيئاً، جعل الله لهذا نصيباً من الزكاة، نصيباً من الصدقة، أرأيت إلى هذا التضامن؟ ولو كنت مسافراً في أيّ بلدٍ إسلاميّ، وفقدت مالك فجأةً بعملٍ عدواني، أنت مَعْنِيٌّ بهذه الآية الكريمة: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ دققوا حينما تنفقون فيما بينكم، حينما يشتري أحدٌ منَّا هديةً ليقدِّمها لصديق، أهم شيءٍ يَحْرَص عليه أن يعلم هذا الصديق أن هذه الهدية منه، خطأ كبير جداً أنني أنا قررت أن أهدي فلاناً هذه الهدية، ألقيها في البيت أرسلها مع ابني، يدفعها وينتهي، هذا الذي قُدِّمت له الهدية ينبغي له أن يشكرك عليها، لكنه لا يعرف مَن أنت، يسأل: من جاء بهذه اللوحة؟ والله لا نعرف، طفل دفعها وراء الباب وذهب، ولم يقل لنا أية كلمة، هذا خطأ كبير:

(( عن ابن عمر رضي الله عنهما: من صنع إليكم معروفاً، فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له. ))

[ صحيح أبو داود ]

يا أخي، جزاك الله خيراً على هذه الهدية، أما لا تعرف من أين جاءت؟! والله هذه مشكلة، فدائماً المُنْفِق يُحبّ أن يُعلِم الذي أنفق له أن هذه منه، هذه المشكلة عند الله محلولة.
 

حجمك عند الله بحجم عملك الصالح فقط:


قال تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ حجم عملك بالضبط، مقدار التضحية، ثمن الشيء، الوقت الذي بُذِلَ من أجله، العقبات التي زُلِّلت، الصوارف التي تجاهلتها، كله عند الله معلوم، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ لذلك سبب سعادة المؤمن أن علاقته مع الله، والله يعلم، الله عزَّ وجل لا يحتاج إلى بطاقة، ولا إلى إيصال، ولا إلى قَسَم، ولا إلى يمين، ولا إلى شهود، يعلم السر وأخفى، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ (من) لاستغراق أفراد النَوْع، أيْ إذا أنت قدَّمت كأس ماء لإنسان عطشان هذا خير، أجلست امرأة متقدِّمةً في السن مكانك في السيّارة العامَّة، هذا العمل عند الله محفوظ، سقيت قطةً، أصغيت الإناء لهرَّة، أطعمت كلباً، تلافيت أن تقتل نملةً، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ كل أعمالك سوف تُعْرَض عليك يوم القيامة عملاً عملاً، هذا العمل هو الذي يرقى بك عند الله عزَّ وجل، والعمل الصالح يرفعك، بل إن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح فقط:

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾

[ سورة الأنعام ]

 

الإنفاق هو السمَة البارزة للمؤمن:


أيها الإخوة؛ السمَة البارزة للمؤمن الإنفاق، مخلوقٌ ليُنفق لأن الإنفاق ثمن الجنَّة، وحجمك عند الله عزَّ وجل بحجم عملك الصالح، وكل إنسان له مكانة عند الله بحسب عمله الصالح، والعمل يُقبل بشرطين: إذا كان صواباً وخالصاً؛ صواباً ما وافق السنَّة، وخالصاً ما ابتُغي به وجه الله عزَّ وجل، ونحن في الدنيا من أجل العمل الصالح لأن الإنسان عند الموت يقول: 

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

والعمل الصالح إيجابي، الإسلام إيجابي، لا يوجد إسلام سَلْبي، ليس هناك مؤمن متقَوْقِع، لا يوجد مؤمن مُنْسَحِب مِن الحياة، لا يوجد مؤمن يعيش وحده، الإسلام إيجابي والإسلام متحرِّك، والإيمان حركة نحو الله عزَّ وجل ونحو الخلق، نحو الله عبادة ونحو الخلق إحساناً:

﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)﴾

[ سورة مريم ]

أيها الإخوة، آيات الدرس القادم متعلقةٌ بالقتال:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾

[ سورة البقرة ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور