الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الخامس والأربعين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية التاسعة والخمسين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾
أيها الإخوة الكرام، لا بد من تمهيد لهذه الآية، النبي عليه الصلاة والسلام بيّن للناس ما نُزِّل إليه، الأحكام الكلية التي جاءت في القرآن الكريم بيّنَها النبي عليه الصلاة والسلام وفصّلها، هذه سُنّته، من سُنته أقواله، ومن سنته أفعاله، ومن سنته إقراره، ولكن كيف عامل أصحابه؟ كيف عاملَ من حوله؟ كيف دعا إلى الله؟ وكيف كان سلوك النبي مع من دعاهم إلى الله؟ هذه سنة تربوية، أيّ عالمٍ من بعده تبِعه في سنته التربوية نجح وأفلح، وأيّ داعية إلى الله خالفَ سنته التربوية أثار حوله جدلاً كثيراً.
إذاً الدعاة إلى الله في شتى أقطار المسلمين ينجحون ويتفوقون ويفلحون إذا اتبعوا سنة النبي التربوية، كيف دعا أصحابه، وكيف عاملهم؟ فكل داعية لا يفلح، ولا ينجح، ولا يلتفّ الناس حوله إلا إذا قلّد النبي في أصول دعوته، فقضية الأحكام الشرعية شيء آخر، قضية بيان النبي عليه الصلاة والسلام لكليات القرآن، قال تعالى :
﴿ بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)﴾
شيء آخر، لكن كيف عاملهم؟ منعهم أن يسألوا، صادر شخصياتهم، استعلى عليهم، سخَّرهم لصالحه، كيف عاملهم؟ هذه الآية أيها الإخوة إحدى الآيات التي تبيّن أصول الدعوة إلى الله، يقول الله عز وجل: ﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ﴾
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
1 ـ لين النبي لأصحابه سببه رحمة الله:
هذه الباء في الآية باء السببية، أيْ بسبب رحمة في قلبك لنت لهم، إذاً هناك علاقة بين لِين الجانب، وبين الرحمة المُودَعة في القلب، ما لم يكن في القلب رحمةٌ مشتقة من رحمة الله لن تستطيع أن تكون ليّنَ الجانب، ولا أن تكون سهل العريكة، هذه صفة أساسية في مَن دعا إلى الله، ليِّن ورحيم، ﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ﴾ أيْ بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد، من خلال اتصالك بنا، أيّ اتصال بالله يُشتَق من خلاله من كمال الله، إذا كنت مع الرحيم فأنت رحيم، إذا كنت مع الحكيم فأنت حكيم، إذا كنت مع اللطيف فأنت لطيف، هذا الكمال الذي جاء به الأنبياء، وعلى رأسهم رسول الله يسبي العقول، يملأ القلوب محبة، قال أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً، لِمَ هذا الحب؟ من كماله، من رحمته، من لِين جانبه، مِن تواضعه، من حكمته، من لطفه، إذاً لن تستطيع أن تؤثر في إنسان على وجه الأرض إلا إذا كنت مشتقاً من كمال الله كمالاً.
2 ـ الخلق الحسن يجذب الناس إلى الدين:
ما الذي يجذب الناس إلى الدين؟ الكمال الذي يتحلى به المؤمنون.
(( كنَّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ،ونَقطَعُ الأرحامَ ونُسيءُ الجِوارَ، ويَأكُلُ القَويُّ منَّا الضَّعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه، فدَعانا إلى اللهِ لنُوَحِّدَه ونَعبُدَه، ونَخلَعَ ما كنَّا نَعبُدُ وآباؤنا مِن دونِه مِن الحِجارةِ والأوْثانِ ، وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانة، وصِلةِ الرَّحمِ، وحُسنِ الجِوارِ، والكَفِّ عن المَحارِمِ والدِّماءِ. ))
[ تخريج سير أعلام النبلاء ]
وهناك جاهلية أشد من هذه الجاهلية، حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)﴾
معنى ذلك أن هناك جاهلية ثانية، والجاهلية الثانية ليس فيها إساءة إلى أفراد، بل فيها إساءات إلى شعوب، ليس فيها عبودية فرد لفرد، بل فيها عبودية شعوب لشعب، ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ﴾ (نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ،ونَقطَعُ الأرحامَ ونُسيءُ الجِوارَ، ويَأكُلُ القَويُّ منَّا الضَّعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه) إذا عاملناه فهو أمين، وإذا حدّثنا فهو صادق، وإذا وُضِع في موطن شهوة كان عفيفاً، (فدَعانا إلى اللهِ لنُوَحِّدَه ونَعبُدَه، ونَخلَعَ ما كنَّا نَعبُدُ وآباؤنا مِن دونِه مِن الحِجارةِ والأوْثانِ ، وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانة، وصِلةِ الرَّحمِ، وحُسنِ الجِوارِ، والكَفِّ عن المَحارِمِ والدِّماءِ) .
3 ـ النبي يأمر بالخلق الحسن ويتصف به:
بماذا أمر النبي؟ بمكارم الأخلاق، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ))
من زاد عليك في الخُلُق زادَ عليك في الإيمان، الإيمان حسن الخلق، فعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إنَّ أقربَكم منِّي مجلسًا أحاسنَكُم أخلاقًا الموطَّؤونَ أَكْنافًا الَّذينَ يألفونَ ويؤلفونَ. ))
[ تخريج الإحياء للعراقي ]
أكثر من عشر أحاديث صحيحة في البخاري ومسلم تؤكد هذه الأحاديث أن الإيمان يعني حُسن الخلق، فلذلك بيّن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه الكرام فقال:
(( تواضَعوا لمن تعلَّمون منه، وتواضَعوا لمن تُعلِّمونه، ولا تكونوا جبابرةَ العلماءِ. ))
[ الألباني بسند ضعيف جداً ]
والتواضع من صفات المؤمن، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ﴾ لأن في قلبك رحمة جاءتك من إقبالك على الله، فكنت ليِّناً، سَمْحاً، سهلاً، لطيفاً، متواضعاً، يدخل عليه رجل فترتعد مفاصله من شدة هيبته، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ :
(( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ. ))
كان مع أصحابه في بدر ثلاثمئة، والرواحل قليلة، قال: كل ثلاث على راحلة، أمر من قائد الجيش، وأنا، وعلي، وأبو لبابة على راحلة، فما ميّز نفسه عن جندي في الجيش، ركب النبي ناقته، فلما جاء دوره في المشي توسّل صاحباه أن يبقى راكباً، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( كنَّا في غَزوَةِ بَدرٍ كلُّ ثلاثةٍ منَّا على بَعيرٍ، كان عليٌّ وأبو لُبابةَ زَميلَيْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإذا كان عُقْبةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالا: اركَبْ يا رسولَ اللهِ حتى نَمشيَ عنك، فيقولُ: ما أنتما بأقوى على المَشْيِ منِّي، وما أنا بأغنى عن الأجرِ منكما! ))
هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام، خدمه ربيعة سبعة أيام، فقال له: يا ربيعة سلني حاجتك، وكأنه رأى هذه الخدمة ديناً عليه، لا فرضاً عليه.
السيدة فاطمة طلبت منه خادمةً قال: والله لا أعطيك خادمةً، وفي المسلمين فقراء، عدّ ابنته كأحد فقراء المسلمين، حتى نلبي حاجات الفقراء.
عن عليٍّ رضِي اللهُ عنه أنَّه قال لفاطمةَ رضِي اللهُ عنها ذاتَ يومٍ:
(( قد جاء اللهُ عزَّ وجلَّ أباكِ بسَعَةٍ ورَقِيقٍ فَأْتِيهِ فاسْتَخْدِمِيهِ فأَتَتْهُ فذكَرتْ ذلك له فقال :واللهِ لا أُعطِيكُما وأَدَعُ أهلَ الصُّفَّةِ تَطْوَى بطونُهم، ولا أجِدُ ما أُنفِقُ عليهم، ولكنِّي أبيعُها وأُنفِقُ عليهم، ألَا أدُلُّكُما على خيرٍ ممَّا سألتُما! علَّمَنِيهِ جبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تُكبِّرانِ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ عشرًا، وتُسبِّحانِ عشرًا، وتَحمَدانِ عشرًا، وإذا أوَيْتُما إلى فِراشِكُما ))
بقدر ما يتّبع الدعاة إلى الله منهج النبي في تربية أصحابه، منهج النبي في معاملة أصحابه، منهج النبي في تواضعه، منهج النبي في رحمته يلتف الناس حوله،.
﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ﴾ فلما لنت لهم التفوا حولك، أشيروا علي أيها القوم، في معركة بدر:
(( قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبر في الحرب، صُدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك. ))
[ السيرة النبوية لابن هشام ]
4 ـ النبي أحسن الناس أخلاقا:
لماذا التف أصحابه حوله؟ لأنه ما ميز نفسه عليهم أبداً، ما ميز نفسه عليهم أبداً، لا في سِلْمٍ، ولا في حرب، ولا في ضائقة مادية، ولا في جوع، ولا في خوف، أبداً، لو أن مَن يتولى شؤون الدعوة في العالم الإسلامي درسَ بعناية فائقة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف كان يعامل أصحابه، كيف كان يتفقدهم، كيف كان يمشي مع المرأة المسكينة تسأله كل حاجتها، كيف كانت الجارية البنت الصغيرة تأخذه من يده فتقوده، وكيف كان يركب الحسن والحسين على ظهره في البيت، فقد ارتحلاه.
كيف؟ كيف كان يخطب، فرأى الحسن أو الحسين يمشي، ويتعثر فنزل من على المنبر، وحمله، وصعد به المنبر، وتابع خطبته.
كيف كانت رحمته بالأطفال؟ كيف كان يصلي صلاة الفجر؟ وقد علمنا أن نقرأ الآيات الطِّوال في صلاة الفجر، قال ﷺ:
(( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي؛ مما أعلم من وَجْدِ أمِّه من بكائه. ))
كيف؟
وأحسنُ منكَ لمْ ترَ قطُّ عيني وأجملُ منكَ لمْ تلِدِ النِّساءُ
خُلِقْتَ مُبَرّءًا مِنْ كـلِّ عَيــبٍ كأنّكَ خُلِقْتَ كمَـا تشـــــاءُ
بماذا مدحه الله عز وجل؟ مدحه بفصاحته، فكان فصيحاً، بل كان أفصح العرب، لكن القرآن لم يمدحه بفصاحته، مدحه بقيادته؟ كان من أحنك القادة، مدحه بفِطنته، فقد كان من أفطن البشر، بماذا مدحه؟ قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾
دخل مرة أحدٌ على ملك ليَعِظَه، قال: سأعِظُك، وأُغْلِظُ عليك، قال له: ولمَ الغِلْظة؟ لقد أرسل الله من هو خير منك إلى مَن هو شر مني، أرسل موسى إلى فرعون، فقال:
﴿ فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ(44)﴾
لماذا التف الناس حول رسول الله؟ لأخلاقه فقط، لخُلُقه، كان واحداً من أصحابه، وما سحب يده من مصافِح، ولا رُئي مادّاً رجليه بين أصحابه قط، وكان لا يمدح طعاماً، ولا يذمه، وكان يقبل العذر، ويأكل مع الخادم، وكانت توقفه امرأة مسكينة في الطريق فيقف معها طويلاً.
رأى رجلاً في المسجد قال: من أنت؟ قال: أنا عَدِيّ بن حاتم، ملك من ملوك الجزيرة، أخذه إلى بيته صلى الله عليه وسلم، ودفع له وسادة من أَدمٍ محشوة ليفاً قال: اجلس عليها، قال: أنا، قال: بل أنت، قال: فجلست عليها، وجلس هو على الأرض، قال: إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسياً، وهو دين بين النصرانية والمجوسية؟ قال: نعم، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، أرأيت إلى هذا المنطق الصارم؟ يناقشه بدينه قال: يا عدي، لعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، أصحابه فقراء، وايم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، كما هو الآن، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف، وايم الله لَيوشِكَنّ أن تسمع بالقصور البابلية مفتحةً للعرب، ولقد عاش عدي ورأى كل ذلك.
(( خرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاسترقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك؛ قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقذفها إلي؛ فقال: اجلس على هذه، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض؛ قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيا؟ قال: قلت: بلى. قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك؛ قال قلت: أجل والله، وقال: وعرفت أنه نبي مرسل، يعلم ما يجهل؛ ثم قال: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخده؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم؛ قال: فأسلمت. ))
[ السيرة النبوية لابن هشام ]
﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ﴾ هذا الإنسان كيف يحبك؟ كيف يحترمك؟ كيف يتعلق بك؟ كيف يصغي إليك؟
كنت أقول دائماً: الإحسان قبل البيان، لا تطمع بهداية أحدٍ قبل أن تُحسِن إليه، لا تطمع بهداية أحد قبل أن تكون له قدوة، لا تطمع بهداية أحد قبل أن تتواضع له، لا تطمع بهداية أحدٍ قبل أن تكون مطبقاً قبله: ﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ﴾
5 ـ هذا ما تفعله أخلاق النبي في أصحابه:
كنت ليِّناً بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد من خلال اتصالك بنا، فالتفوا حولك، وأحبوك، وفدوك بأرواحهم وأنفسهم.
رجل على وشك أن يُقتَل، خُبيب بن عدي سأله أبو سفيان: يا خبيب أتحب أن يكون محمد مكانك، وأنت معافى في أهلك، ماذا قال خبيب وهو على وشك أن يموت صلباً؟ انتفض وقال: والله لا أحب أن أكون في أهلي وفي ولدي -يعني وأنا جالس في بيتي، وزوجتي وأولادي أمامي- وعندي عافية الدنيا ونعيمها -طعام، وشراب، وبيت مدفأ شتاءً، مكيف صيفاً، ألوان الأطعمة، ألوان الأزهار- والله لا أحب أن أكون في أهلي وفي ولدي، وعندي عافية الدنيا، ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة، عندها قال: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً، كيف؟
تفقّد أحد أصحابه صلى الله عليه وسلم في أُحُد، سعد بن الربيع أرسل إليه أحد أصحابه رآه بين القتلى لكن لم يمت بعد، قال له: يا سعد هل أنت بين الأحياء أم من الأموات؟ قال له: أنا مع الأموات، ولكن أقرِئ رسول الله مني السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل لأصحابه: لا عذر لكم إذا خُلِص إلى نبيكم، وفيكم عين تطرف.
(( عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بت أبي صعصعة أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: مَن رجلٌ ينظُرُ لي ما فعلَ سَعدُ بنُ الرَّبيعِ أفي الأحياءِ هوَ أم في الأمواتِ ؟ فقالَ رجلٌ منَ الأنصارِ: أنا فنظرَ فوجدَهُ جريحًا في القَتلى وبِهِ رمَقٌ فقالَ لَهُ: إنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ أمرَني أن أنظُرَ أفي الأحياءِ أنتَ أم في الأمواتِ .فقالَ: أنا في الأمواتِ فأبلِغْ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ سَلامي وقل لَهُ: إنَّ سعدَ بن الرَّبيعِ يقولُ لَكَ: جزاكَ اللَّهُ عنَّا خيرَ ما جزى نبيًّا عن أمَّتِهِ .وأبلِغ قومَكَ عنِّي السَّلامَ وقل لَهم: إنَّ سعدَ بنَ الرَّبيعِ يقولُ لَكم: إنَّهُ لا عُذرَ لَكم عندَ اللهِ إن خُلِصَ إلى نبيِّكُم وفيكُم عينٌ تطرَفُ.))
[ فقه السيرة، وإسناده معضل ]
ما هذا؟ إنسان على وشك الموت، يمتلئ قلبه محبة لرسول الله، من أخلاقه العالية، من رحمته بأصحابه، وبالتعبير الدقيق كانت مشكلة أصحابه مشكلته، وكانت أفراحهم أفراحه، وأتراحهم أتراحه، نحن بحاجة إلى الحب أيها الإخوة، بحاجة أن يحب بعضنا بعضاً، بحاجة إلى التعاون، بحاجة إلى البذل، إلى التضحية، بحاجة أن تشعر أنك لست وحدك في الحياة، كل المؤمنين لك، وأنت للكل، كلهم لك بإمكاناتهم، بخبراتهم، بمالهم، وأنت لهم جميعاً.
هذا المجتمع كل شيء مادي موجود بشكل صارخ؛ جامعات، مؤلفات، محاضرات، مؤتمرات، مساجد، مطبوعات، كل شيء مادي في الإسلام موجود بشكل صارخ، لكن روح الإسلام هذا الحب بين المؤمنين، هذه التضحية والإيثار.
مد يدك لأبايعك، كذا قال الصديق لسيدنا عمر، قال عمر: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا كنت أميراً على قوم فيهم أبو بكر، قال له: أنت يا عمر أقوى مني، قال: أنت يا أبا بكر أفضل مني، قال: قوتي إلى فضلك.
أيعقل أن يكون سيدنا عمر مع أصحابه، وأن يقول أحدهم تقرباً إليه: والله يا أمير المؤمنين ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله، فإذا به يُحِدّ بصره إليهم، إلى أن قال أحدهم: لا والله قد رأينا من هو خير منك، قال: من هو؟ قال: أبو بكر، فقال هذا الخليفة العظيم: كذبتم جميعاً وصدق، عدّ سكوتهم كذباً، قال: كنت والله أضل من بعيري، وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك، ما هذه الموضوعية؟
(( عن جبير بن نفير: أن نفرًا قالوا لعمر بن الخطاب: ما رأينا رجلًا أقضى بالقسط، ولا أقول للحق ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله. فقال عوف بن مالك: كذبتم والله، لقد رأينا بعد رسول الله. فقال: من هو؟ فقال: أبو بكر. فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي. ))
يقف على منبر، وينزل درجة، ويقول: ما كان الله ليراني أرى نفسي في مقام أبي بكر، ماذا فعل النبي؟ ربّى صِحَاباً، ربى أبطالاً الواحد منهم كألف، الآن المسلمون مليار ومئتا مليون، لذلك حينما يسقط المسلمون من عين الله يأتي من يتحكم بهم، ومن يذلهم، ومن يأخذ أموالهم، ومن يوقع بينهم، وكأنهم ليسوا موجودين، المسلمون غائبون عن الساحة، أين هم المسلمون؟
أيها الإخوة الكرام، الأنبياء العِظام تركوا أصحاباً عظاماً، ونحن نريد أن يكون المسلم شيئاً كبيراً، كبيراً بطاعته لله، كبيراً بمحبته لله، كبيراً بإخلاصه لله.
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
الفظاظة والغلظة تنفران الناس:
﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ﴾ لو كنت منقطعاً عنا يمتلئ قلبنا قسوة، وإذا امتلأ قلبك قسوة كنت فظاً غليظاً، فيك قسوة، وفظاظة، وكِبر، ولا يوجد رحمة: ﴿وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ﴾ معادلة رياضية: اتصال؛ رحمة، لِين، التفاف، انقطاع؛ قسوة، غِلظة انفضاض، أليس هذا درساً لكل داعية على وجه الأرض؟
من أصول الدعوة : التزكية الأخلاقية:
﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾ أيها الإخوة الكرام، أرجو أن يتتبع أحدكم الآيات المتعلقة بأصول الدعوة، مثلاً:
﴿ هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّۦنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ(2)﴾
منهج الدعوة أن تُعرِّف بالله من خلال آياته، وأن تزكوَ النفوس، أن ترقى النفوس، أن تتصعّد الميول: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ﴾ أي القرآن ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ السنة، هكذا قال علماء التفسير.
إذاً: دعوة بلا تزكية لا قيمة لها، وتزكية بلا علم لا قيمة لها، لا بد من دعوة إلى الله، لا بد من تعريف بالله من خلال آياته، ولا بد من تزكية للنفس من خلال الاتصال به، ثم لا بد من معرفة المنهج الكتاب والسنة.
حبذا لو تجمعوا الآيات المتعلقة بأصول الدعوة إلى الله، ويجب أن تعلموا علم اليقين أنه ما من واحد من المسلمين إلا والدعوة إلى الله في حقه فرض عين، لا يُعفا منها أحد، فإن لم تفكر في الدعوة إلى الله فأنت لا تتبع رسول الله، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى ۖ وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ(108)﴾
فإن لم تكن مُتّبعاً لرسول الله معنى ذلك أنك لا تحب الله، والدليل قوله تعالى:
﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(31)﴾
إن لم تتبع لا تحب، وإن لم تدعُ لا تتبع، ولكن تدعو إلى ماذا؟ إلى ما تعلمت، ومع من تعرف، في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، وهذا معنى حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ))
أن تحضر درس علم، خطبة جمعة، ما أخذت شيئاً منها؟ ولا آية، ولا حديثًا، ولا فكرة؟ هذه الآية، والحديث، والفكرة انشرها في الأسبوع، لك صديق، لك زميل، لك جار، لك قريب، كنت في دعوة، في وليمة، في سفر، في نزهة، في سهرة، لا يوجد أحد ليس له عدة لقاءات في الأسبوع، لا يوجد أحد على الإطلاق إلا وله لقاءات عديدة في الأسبوع مع من يلوذ به، لذلك: ﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ﴾ .
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أي فاعفُ عنهم يا محمد زلّتهم، لذلك صلى عليهم، وصلى على من عصاه، وقد فُسِّر هذا بأن هذه معصية لأمر تنظيمي سببت هزيمة، ولكنها ليست معصية لأمر تشريعي، والفرق كبير بين الأمر التنظيمي، وبين الأمر التشريعي: ﴿فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ﴾ أي خطأهم.
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر
سيد الخلق أمره ربُّه بمشورة أصحابه:
﴿وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾ المشاورة فيها رفع معنويات كبيرة جداً، النبي سيد الخلق، وحبيب الحق، النبي سيد ولد آدم، النبي معصوم، النبي يُوحَى إليه، ومع ذلك أُمر أن يشاورهم في الأمر، من أنت حتى لا تستشير؟ من أنت؟ إذا كان سيد الخلق، وحبيب الحق قد أُمر أن يشاور أصحابه، أشيروا علي أيها الناس، حتى في حديث الإفك قال: أشيروا عليّ ماذا أفعل؟ أعلمها عفيفة ماذا أفعل؟ أنت حينما تشاور تستعير عقول الرجال، مَن شاور الرجال استعار عقولهم، بل إن المجتمع المسلم وصفه الله عز وجل بأن:
﴿ وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ(38)﴾
لا يوجد استبداد، لا يوجد فرض رأي، لا يوجد إرهاب فكري، ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ ، أشيروا عليّ أيها الناس: ﴿وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾ وأنت سيد الخلق، وأنت المعصوم، وأنت قمة البشر، ﴿وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾ ، استشار زوجته في صلح الحديبية، فالصحابة الكرام تعلقوا بالعمرة، ثم مُنِعوا منها، فتألموا ألماً شديداً، حتى إن عمر رضي الله عنه قال:
(( فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أَلَسْنَا علَى حَقٍّ وَهُمْ علَى بَاطِلٍ؟ قالَ: بَلَى، قالَ: أَليسَ قَتْلَانَا في الجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟ قالَ: بَلَى، قالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا؟ ))
ومع ذلك الصحابة تلكؤوا في الحلق، والذبح، فتألم النبي عليه الصلاة والسلام، سأل أم سلمة: ماذا أفعل؟ قالت: احلق أنت، واذبح، ما إن فعل حتى تبعه أصحابه، علّمنا أن نستشير أحياناً زوجاتنا، هذا شيء ثابت في السنة، والقصة صحيحة، حتى إن القرآن الكريم قال:
﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمْلٍۢ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍۢ ۖ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُۥٓ أُخْرَىٰ(6)﴾
أي تأمره بالخير، ويأمرها بالخير، من صفات المؤمن المشاورة: ﴿وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾ ولي أمر المسلمين اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يستشير ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ ﴿وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ﴾ لكنه حينما يستشير، ويأخذ الآراء، ويُريه الله الطريق الصحيح قال: ﴿فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ﴾
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه
من دون بلبلة، من دون اضطراب، من دون تمييع للقضايا: ﴿وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ يا محمد، ومن ينوب مكانك في ولاية أمر المسلمين: ﴿فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ﴾
إذاً : من خلال هذه الآية الكريمة تتضح لنا أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف التف الناس حوله، واجتمعوا عليه، وكيف فدَوه بأنفسهم وأموالهم، وكيف كانوا قدوة للعالمين:
﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا ۖ سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًۢا(29)﴾
كيف هم أشداء على الكفار، لأن محمداً والذين معه، أرأيت إلى هذا التعاون، ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ لذلك المؤمن في مجتمع المؤمنين موصوف بآية:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍۢ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ(54)﴾
﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾
وأن تعيش بين المؤمنين، وأن تكون وفيّاً لهم، وأن تكون متواضعاً لهم، وأن تقدم لهم كل ما تستطيع، وأن تسألهم حاجتك أحياناً، يجب أن نعلم أن المجموع لواحد، وأن الواحد للمجموع.
أيها الإخوة، هذه الآية منهج لنا في أصول الدعوة إلى الله عز وجل: ﴿فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ﴾
الملف مدقق