وضع داكن
30-11-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة البلد - تفسير الآيات 2 - 7 افتقار الإنسان إلى الله تعالى.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

ملخَّص لما ورد في الدرس الماضي :


أيُّها الإخوة المؤمنون: نُتابع السورة التي بدأناها، وهي سورة البلد: 

بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2)﴾

[ سورة البلد ]

وضَّحْنا في الدرس الماضي أنَّ هذا الشيء الذي أقْسَم الله به البلد، لها معْنيان: إمّا أن تعْني الأرض كُلَّها وما توافر فيها من حاجات الإنسان، صغيرِها وكبيرها، جليلها وحقيرِها، أو أنْ تعْنِيَ مكَّة المُكَرَّمة، وقد تمَّ الحديث عن هذا بِفَضْل الله عزَّ وجل.
(وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ) إنْ فَسَّرْنا البلد الأرض فأنت أيُّها الإنسان تسْكن على سطْح الأرض، وترى بِعَيْنَيْك السماء وما فيها، والأرض وما فيها، وما بين السماء والأرض ترى المشارق والمغارب، ترى أنواع النباتات والحيوانات، ترى رِزْقَكَ الكريم، ترى أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق لك من نفْسِك زوْجةً تسْكُنُ إليها، ترى أوْلادك بين يدَيْك، ترى الجبال والأنهار والبحار والطيور والأسْماك: (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ) ، أنت على هذه الأرض هذه الآيات التي يذكرها الله لك، ليسَتْ بعيدةً عن سَمْعِكَ وبصَرِك! إنها بين يدَيْك إنك تعيشُها كُلَّ يوم، (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ) .

مِمَّا يزيد حُرْمَةَ الكعْبة أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام فيها زادَها حُرْمَةً على حُرْمَة:


إنْ فَسَّرْنا البلد مكَّةَ المُكَرَّمة، البلد الحرام التي جعلها الله مثابةً للناس وأمْناً

﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)﴾

[ سورة البقرة ]

منع فيها المُنازعات، منع فيها الحُروب، منع فيها سَفْك الدِّماء، منع فيها الصَّيْد، وجعلها مثابةً له، عَوْدَةً إليه، و جعلها آمِنَةً، (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ) ، ومما يزيدُ حُرْمَتَها أنَّكَ فيها يا محمَّد، في آياتٍ أُخْرى يقول الله عزَّ وجل:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾

[ سورة الأنفال ]

بعضهم فَسَّر هذه الآية بأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُعَذِّبُ أُمَّةً تُحِبُّ رسولها، ما دامتْ محبَّةُ النبي عليه الصلاة والسلام فيهم فإن الله لن يُعَذِّبَهم، ومِمَّا يزيد حُرْمَةَ الكعْبة أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام فيها، زادَها حُرْمَةً على حُرْمَة، والله سبحانه وتعالى حينما قال:

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)﴾

[ سورة الواقعة ]

ومواقِعُ النجوم مسافاتٌ قد لا يسْتطيعُ العقْلُ إدْراكَها، عَشْرَةُ آلاف مليون سنة ضَوْئِيَّة! (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) حينما لم يُقْسِم الله تعالى بهذه الآية الكبيرة.

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)﴾

[ سورة الحاقة ]

أَقسْم بِعُمُرهِ الثمين فقال:

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾

[ سورة الحجر  ]

ما هذا العُمُر؟ ثلاثٌ وسِتون عاماً أفاضَتْ على البَشَرِيَّة هُدىً وسعادَةً، الأرض بِأَكْمَلِها سادَتْها الفضيلة والسعادة، والتوحيد، إنْسانٌ واحد قلبَ المقاييس كُلَّها، جاء الحياة فأعْطى ولم يأخذ، قدَّسَ الوُجود كُلَّهُ، رعى قَضِيَّةَ الإنسان، زكَّى صِياغة العقْل، نهْنه غريزة القطيع، وعاش واحداً بين الجميع، وكان بِإمْكانه أن يعيش واحداً فوق الجميع، لذلك استحَقَّ النبي الكريم وهو سيِّد البشر، أن يُقْسِمَ الله عزَّ وجل بِعُمُرِهِ الثمين، (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)

للآية التالية ثلاث معانٍ :


فإذا قال الله عزَّ وجل: (لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ ) أيْ مِما يزيد هذا البلد الحرام الذي جعله الله قياماً للناس، الذي جعله الله مثابةً للناس، الذي جعله للناس منافع لهم، الذي جعل فيه آياتٍ بَيِّنات، الذي جعل فيه الهُدى، واعلموا أنَّ الله يعلم مما يزيد حُرمة هذا البيت الحرام أنَّكَ فيه يا محمّد.
وبعض المُفَسِّرين قالوا: (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَد) أيْ أنَّ هؤلاء المُشركين الذين لا يسْتحِلّون في الأشهُر الحُرُم، سفْكَ دَمٍ، ولا قِتالاً، ولا صيداً، كَيْفَ يسْتحِلّون أنْ يؤْذوك؟! وكيف يسْتحِلّون أن يُخْرِجوك؟
وبعض المُفَسِّرين قالوا: (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَد) بُشْرى للنبي عليه الصلاة والسلام في أنَّ الله سبحانه وتعالى سَيَفْتَحُ عليه مكَّة، وسَتَكون حِلّاً له ساعَةً من نهار، إنَّ الله عزَّ وجل حَرَّمَها منذ أن خلق السماوات والأرض وإلى قيام الساعة، إلا ساعَةً من نهار أحَلَّها لِنَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام، ثلاث معانٍ يعْنيه قوله تعالى: (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَد).

نظام التوالد والحكمة منه :


يعني يا أيُّها الإنسان هذه الآيات بين يديْك وتحت سَمْعِكَ وبصَرِك، ترى النِّعَم، تأكل الطعام، تنام على فِراش، رزقك أُذُنَيْن، (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَد) ، كُلُّ حاجاتك موفورةٌ في الأرض تراها بِعَيْنِيك، أنواع المعادن، أشْباهُ المعادن، أنواع المزْروعات، طبيعة الأرض، تُرْبَتُها، أنواع الأخْشاب، أنواع الحديد، أنواع النحاس(وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَد) .
لكنَّ الآية الثالثة، الله سبحانه وتعالى خلق الأرض، وخلق فيها من كُلٍ زَوْجَيْن اثنين، لولا نِظام التوالد على مُسْتوى الإنسان والحيوان والنبات لانْقَرَضَتْ المخْلوقات، كيف رَتَّب الله سبحانه وتعالى نِظام التوالد؟! لو وَقَفْنا عند الإنسان! كيف جَهَّزَ الله عزَّ وجل المرأة بِأَجْهِزَةٍ خاصة، بِرَحِمٍ ومِبْيَضَيْن وثَدْيَيْن؟ وخصائص تُعينُها على الحمْل والوِلادة والرَضاع؟ وكيف جعل المرأة بشكلٍ مرْغوبٍ عند الرجُل؟ وكيف زرع في قلب الرجُل هذا المَيْل نحوَ الأُنْثى؟ مَن زرع هذا الميل؟ ومن زرعَ فيها مَيْل التطلُّع وإظْهار ما عندها؟ من الذي جعل الزوجة سَكَناً للزوْج؟ أليس الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق العباد كلهم دفعةً واحدة؟ هو قادر، لماذا جعل نظام التوالد؟

﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)﴾

[ سورة البلد ]

العلماء يقولون: هو حفظ النوع، الغريزة التي أودعها الله فينا من أجل حفظ النوع، ولولاها لانْقَرَض النوع البشري من على سطح الأرض.

نِظام التوالد هو الذي يحْفظ لنا حياتنا:


من جعل هذا المَيل؟

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾

[ سورة آل عمران ]

من زرع مَيْل حُبِّ الأولاد في النساء؟ تريد أن تكون أُمّاً وتحْرِص على ذلك، مع أنَّ الوِلادة والحَمْل وَهْنٌ على وهن، من فعل هذا؟ (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) ، يعني الله سبحانه وتعالى يُشير إلى هذا النظام البديع، نظام التوالد، سواءٌ على مُستوى الإنسان أو على مُسْتوى الحيوان، هذه الدجاجة من ألْهَمَها أنْ تجْلس على البيض، عِشْرين يوماً، وأن تُدافع عنهم دِفاعاً مستميتاً؟ مَن ألْهَمَها هذه العادات والتصرُّفات؟! ألْيس الله سبحانه وتعالى هو المُلهِم؟ هذه الطيور كيف تتوالد؟ توالدٌ عن طريق البيض، توالدٌ عن طريق الوِلادة، الأسْماك تبيض بيضاً، والحيتان تلِدُ وِلادةً، (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) مُطلقة، نظام التوالد، في الأسْماك مِبْيَض فيه أُلوف الملايين من البيوض، وكل بيضةٍ تصبح في المُستقبل سمَكَةً، وبعض الأسماك يُغادر أعالي الأنهار في أمْريكا مُتَّجِهاً إلى المُحيط الأطْلسي، وبعدها تعود الأسماك إلى مسْقط رأسِها لِتَضَعَ البيض هناك وتموت، نظام التوالد كلُّ حيوانٍ له طريقةٌ في الوِلادة، وكُلُّ حيوانٍ جَهَّزَ الله ذَكَرَهُ وأُنْثاه بِصِفاتٍ مُتباينة، بأجْهزةٍ مُتباينة، بعاداتٍ مُتباينة، بطِباعٍ مُتباينة، لولا هذا التفْريق والتمييز بين الذكر والأُنثى على مستوى الحيوان لانْقَرَضَتْ الحيوانات! لو أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الحيوان الذي نأكله، ثمَّ أكلْناهُ وانتهى الأمر، انتهت حياة الإنسان، فَنِظام التوالد هو الذي يحْفظ لنا الأنواع المنوعة من الحيوان، الذي نرْكَبُهُ، والحيوان الذي نأكله، والحيوان الذي نسْتخْدِمُهُ في اسْتِخْداماتٍ شتى.

التوالد في النبات :


هذا العَرْنوس كما يقولون في نِهايتِهِ خُطوطٌ دقيقة، من مِنْكم يُصَدِّق أنَّ كل خيْطٍ من هذه الخُيوط هو أُنبوب مُفَرَّغ يتَّصِل بِحَبَّةٍ من حبّات العَرنوس، وأنَّ غُبــار الطَّلْع يَمُرّ في هذا الأنبوب إلى ذرَّة الذُرة، وفي داخل الأُنبوب أهْداباً وأشْعاراً تتَحَرَّكُ حَرَكَةً مُستمرَّة نحو الأسفل، من أجل أن تنقل غُبار الطلْع عبر هذا الأُنبوب الدقيق الذي لا يُرى بالعَيْن، فمن جعل هذا النِّظام؟! ومن خلق في القمْح رُشَيْماً؟ فهذا الموضوع يحْتاج إلى سنوات للإحاطة به، نظام التوالد:

﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ (46) ﴾

[ سورة النجْم ]

نِظام الذكر والأنثى، في النبات، في القمح، في الحُمِّص، في الأشْجار المُثْمرة، الرِّياحُ لواقح فلولاها لما انعَقَدَتْ الثِّمار، من مِنْكُم يُصَدِّق أنَّ مُهِمَّة إنتاج العسل في النحْل مُهِمَّةٌ ثانَوِيَّة، بينما مُهِمَّتُهُ الأساسية تلْقيحُ النباتات! النحْل يقوم بِأخطر وظيفةٍ في الأرض وهي تلْقيح النباتات المُؤَنَّثة بالمُذَكَّرة، ولولا هذه الحشرات وفي مُقَدِّمَتِها النَّحْل لما انعَقَدَت الثِّمار، والله سبحانه وتعالى يجعل بعض الثِّمار كالصَّنَوْبر والتين لا يُثْمِر إلا إذا لَقَّحَتْهُ يدُ إنْسان، فالإنسان أحْياناً يُلَقِّحُ أشْجار التين كي تُثْمر، ولولا أنَّهُ يشتري  أغصاناً من أشْجارٍ مؤنَّثَةٍ  ويضعها على أشْجارٍ مُذَكَّرةٍ لمَا انْعَقَدَت الثِّمار ولمَا أكلْتُم هذه الفاكِهَة، فربنا عزَّ وجل حينما قال: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) ، معنى ذلك نِظامُ التوالد، نظام التكاثُر، نظام اللِّقاح على مُسْتوى الإنسان والحيوان والنبات، ولولا نظام اللقاح لما كنا نحن جميعاً على مُستوى سطْح الأرض، ولما أكلْنا قمْحاً ولا خُبْزاً ولا طحيناً، ولا فاكِهَةً ولا لحْماً، فَكُلُّ ما نتمتَّعُ به في حياتنا الحالية بِفَضْل (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) .

نظامُ التوالد والتكاثر والانقِسام والوِراثة في الخلايا مُوَحَّدة:


لو دَقَّقْتُم في خلْق الإنسان، الجنين وهو في بطْن أُمِّه كيفَ يتغَذى؟ وكيف يُصَفّي دَمَهُ؟ وكيفَ يُخَزِّنُ السُّكَر؟ العلماء قالوا: المشيمة، وهي الخلاص الذي يرْميه الناس بعد الوِلادة في الأنهُر قديماً، أو يدفنوه في التراب، وهي قِطْعةٌ من اللَّحْم مُمْتَلِئةٌ بالدِّماء، من منكم يُصَدِّق أنَّ هذه المشيمة تقوم بِدَوْر عَشْرة أجْهِزَة مُعَقَّدَةٍ في الإنسان! أوَّلاً تقوم بِدَوْرِ الرئتين لأنَّ رئتي الجنين مُعَطَّلَتان إذْ ليس في الرحِم هواء،  والجنين لا يتنفَّسُ إنما دمُ الجنين يذهب إلى بُحَيْراتٍ من الدَّم في المشيمة ويتبادل وإياها الأُكْسجين بِحَيْث يُعْطيها غاز الفحْم ويأخذ منها الأُكْسجين، والإعْجاز في كُرياتِ دمِ الجنين التي لا تختلط بِكُرَيات دَمِ المشيمة التابِعَةِ للأمّ، لذلك فزمرة الأمّ تكون زمرة، وقد يكون ابنها له زمرةٌ أُخْرى، فدم الجنين يتخلى عن غاز الفحم، ويأخذ كما يقولون مولِّد الحموضة الأكسجين من دم المشيمة المُتعلق بدم الأم، دون أن تختلط كريات الجنين مع كريات المشيمة.
 إذاً هذه المشيمة تقوم بِدَوْر الرِّئَتين للجنين، هذه الشرايين الدموِيَّة التي يُدْلي بها الجنين إلى المشيمة فيها أشْعار ماصَّة تمْتَصُّ الغِداء من المشيمة، فهي تقوم إذاً بِوَظيفة الجِهاز الهَضْمي، فالمشيمة تُؤمِّنُ للجنين كلَّ أنواع الطعام والمواد الغذائية والسكريات والنشَوِيات وما إلى ذلك، فَهُوَ يأخذ حاجته من المشيمة عن طريق أشْعارٍ ماصَّةٍ مُتَّصِلَةٍ بِشَرايين الجنين، فالمشيمة تقوم بِدَوْر جِهاز الهَضْم للجنين، (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) .
ثمَّ إنَّ هذه المشيمة قد تأتيها الشُّحوم والدُّهون بِحَيْث لا تسْتطيع أن تصِلَ إلى شرايين الجنين، فالمشيمة تُحَوِّل بعض الدهون والشحوم إلى مُرَكَّباتٍ أبْسط، إذاً المشيمة تقوم بِدَوْر الكَبِدِ، كما تقوم هذه المشيمة بِدَوْر الطّحال فَهِي مُسْتَوْدعٌ للغذاء والدم لِصالحِ الجنين، والمشيمة تُفْرِزُ بعض الهرْمونات المُتَعَلِّقَة في بُنْيَةِ الجنين، تَوْجيهُهُ نحو الذكورة والأُنوثة، والصِّفات الثانَوِيَّة والفرْعِيَّة، هذه كُلُّها تتوَلاها هُرمونات تُفْرِزُها المشيمة، فهذه قطعة  اللحم التي يرْميها الناس في الأرض، أو في طبق الولادة، أو في النهر، أو يدفنوها في الأرض، من مِنْكم يُصَدِّق أَنَّها كائِنٌ مُعْجِز؟ رئتان ومعدة وأمْعاء، وغُدد صماء، وكبد وطحال، وغدة نُخامِيَّة تُفْرز هرمونات، لو دَقَّقْنا في خَلق الإنسان وحده كيف تُصْبحُ هذه النطْفة إنْساناً سَوِياً (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) .
 هذا عند الإنسان وفي كُلِّ حيوانٍ، النِّظامُ مُوَحَّد، نظامُ الخلق واحد، نظام التوالد واحد، نظامُ الانقِسام واحد، نظام التكاثر واحد، نظام الوِراثة في الخلايا، نظام الجينات، تعني أنَّ هذه الآية الكبرى لولاها لما كنا نحن الآن، ولما كان لنا أهلٌ وأوْلاد، لولا هذا النظام (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) ، وهذه الآية لا يسْتقِلّ بها الإنسان بل إنَّ كل المخلوقات بما فيها النباتات، أنواع الأسماك المنوعة،  أنواع الأطيار المنوعة، كل أنواع النباتات تدخل في هذه الآية، نظام التكاثر، يعني الله سبحانه وتعالى خلق فَسَوى وقَدَّر فَهَدى، وجعل الحياة مُسْتَمِرَّة، كيف جعلها مُسْتَمِرَّة؟ عن طريق هذا التكاثر، عن طريق (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) ، هذا إذا فَهِمْنا البلد الأرض وما فيها من حاجات، وإذا فَهِمْنا أنَّ البلد هي الأرض فهذا نظام التكاثر، وإذا فَهِمْنا أنَّ البلد البيت الحرام، وبيْتُ الله الذي اتَّخَذَهُ الله تعالى لِنَفسه بيتاً، ودعانا لِزِيارته وأن نؤمَّهُ ونَحُجَّهُ، (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) .
قال بعض المُفسرين: سيّدنا آدم وذُرِّيَتَهُ، وقال بعضهم الآخر: سيّدنا إبراهيم الذي بنى هذا البيت وذرِّيَّتُه، وقال بعضهم الثالث: سيّدنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلّم سيّد البشر وذُرِّيَّتَهُ،(وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) ، ولماذا  التنكير؟ لم يقل الله عزَّ وجل: والوالد الذي ولد، قال هذا تنْكير التعْظيم وتنْكير العجَب.

طبيعة الحياة مجْموعة صُعوبات وهذه لِحِكْمَةٍ أرادها الله عزَّ وجل:


﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)﴾

[ سورة البلد ]

(في كَبَد) هذه حال، يعني خُلق الإنسان في مَشَقَّة، هناك حِكْمَةٌ بالغة، الإنسان يكون في بادئ الأمر نُطفَةً تُلَقِّحُ بُوَيْضَة، ينقسِمانِ في أُنبوبٍ بين المِبْيَضِ والرحِم إلى عَشْرَة آلاف جُزَيْء، هناك مَشَقَّةُ أن تعْلَقَ هذه النطْفة على جِدار الرَّحِم، هذه مَشَقَّة وصُعوبة، وكثيراً ما تُسْقِطُ النِّساء، هناك نِساءٌ لا تعْلق هذه البويضة المُلَقَّحَة على جِدار الرَّحِم، هناك صعوبة أن تعلق هذه البويضة على جدار الرحم،، لذلك تنْغَمِسُ فيه، وينْمو لها أرْجُل لِكَيْ تمْتَصَّ الغِذاء، ويُنْصَحُ للمرأة في هذا الوقت الحَرِج بعد الحَمْل بِأيامٍ، أنْ تعْتَنِيَ عِنايةً فائِقَةً بِحَرَكَتِها لِكي لا يسْقط الحَمْل، فهناك مَشَقَّة أن تعلق البويضة على جدار الرحم، والوِلادة مَشَقَّة كبيرة، يعني حمل الطفل مشقَّة.

﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)﴾

[ سورة لقمان ]

ووَضْعُهُ صُعوبةٌ بالغة، إذْ تتَحَرَّكُ عِظام الحَوْض، وتتنَبَّهُ عضلات الرَّحِم تنَبُّهاً دوْرِياً لطيفاً كي يخرج هذا الجنين من ضيق الرَّحِمِ إلى سَعَةِ الدنيا، فلا بُدّ من عِظامٍ تتَحَرَّك بِأوامر زَمَنِيَّة، ولا بُدَّ من برْمَجَةٍ لهذه العَمَلِيَّة، قبل يوْمَيْن ينْقلبُ الغُلام، وبعد يومٍ يتَّسِعُ عظْمُ الحَوْض، هُرْمونٌ يذْهب إلى الكبد لِيَطْرَحَ كَمِّياتٍ كبيرة من الدم في الشرايين، وهُرْمون آخر يعمل على تصنيع الحليب، يعني قَضِيَّةٌ في منتهى التعقيد، لا نذكر في هذا المسجد إلا جزءاً يسيراً يسيراً مما يقرأه الطلاب في كليات الطب.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) ينزل إلى الأرض يبْكي، كيف سَيَتَناوَلُ الغِذاء؟ كيف سَيَلْتَقِمُ الثَّدْي؟ كيفَ سَيُخْرِجُ ما في أمْعائِهِ؟ وهكذا تبدأ الصُّعوبات صُعوبَةً بعد صُعوبة، حينما تظهر أسنان الطفل(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) ترتفع حرارته، ويتعكَّر مِزاجُهُ، ويتألَّم ويبْكي ويحارُ أهْلُهُ فيه، وإذا أراد أنْ يمْشي كان هناك صُعوباتٌ أُخْرى، فإذا كَبِر الغلام ودخل المدْرسة فهُناك صُعوبات المدْرسة والتعلُّم والوظائِف والمُعَلِّم، فإذا انتقل إلى مدرسة أعلى الصُّعوبات تُلاحق الإنسان منذ أن تتلقَّحَ البُوَيْضَة بالحيوان المَنَوي إلى أن يموت، أذْكُر أننا كُنا بِجَنازةٍ فدخلْنا المقْبرة وما وَجَدْنا أين ندفنه! هناك أزْمَة قُبور، يعني بعد أن يموت أيضاً أزمة،  فَربنا عزَّ وجل قال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) يعني طبيعة الحياة مجْموعة صُعوبات لِحِكْمَةٍ أرادها الله عزَّ وجل.

(( أَيُّها الناسُ إنَّ هذه الدنيا دارُ التِوَاءٍ لا دَارُ اسْتِوَاءٍ ومَنْزِلُ تَرَحٍ لا مَنْزِلُ فَرَحٍ فَمَنْ عَرَفَهَا لمْ يَفْرَحْ لِرَجَاءٍ ولَمْ يَحْزَنْ لِشَقَاءٍ ألا وإِنَّ اللهَ تَعَالَى خلق الدنيا دارَ بَلْوَى والآخِرَةَ دَارَ عُقْبَى، فَجَعَلَ بَلْوَى الدنيا لِثَوَابِ الآخِرَةِ سَبَبًا وثَوَابَ الآخِرَةِ من بَلْوَى الدنيا عِوَضًا فَيَأْخُذُ لِيُعْطِيَ، ويَبْتَلِي لِيَجْزِيَ، وإِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ وشِيكَةُ الانْقِلابِ فَاحْذَرُوا حَلاوَةَ رَضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا واهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِهَا لِكَرِيهِ آجِلِهَا ولا تَسْعُوا في عُمْرَانِ دَارٍ وقَدْ قَضَى اللهُ خَرَابَهَا ولا تُوَاصِلُوهَا وقَدْ أَرَادَ اللهُ مِنْكُمُ اجْتِنَابَهَا فَتَكُونُوا لِسَخَطِهِ مُتَعَرِّضِينَ ولِعُقُوبَتِهِ مُسْتَحِقِّينَ ))

[ أخرجه الديلمي ]

وأوْحى ربُّك إلى الدنيا أن تَكَبَّري وتَمَرَّري وتَضَيَّقي وتَشَدَّدي على أوْلِيائي حتى يُحَبّوا لِقائي.

للآية التالية معنيان :

 

1 ـ طبيعة الحياة فيها مَشَقَّة لِحِكْمَةٍ بليغةٍ أرادها الله وهي أنْ يُكْشَفَ الإنسان على حقيقته:

المعنى الأول: قال المُفَسِّرون: فيه تسْلِيَةٌ لِرَسول الله، ألم يُعاني صلى الله عليه وسلم من كُفارِ قُرَيْش ومُعارَضَتِهم، وتآمُرِهِم، وتكْذيبِهم إياهُ، وإخْراجِهِم إياهُ من مكَّة المُكَرَّمة، فَحينما عانى النبي صلى الله عليه وسلَّم ما عانى، سلّاهُ الله عزَّ وجل وقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) ، فإذا أراد الإنسان أن يكون طبيباً، فَمَرْتَبَتُهُ الاجتماعِيَّة جيدة مقْبولة، لكن يدرس أكثر من خمسٍ وثلاثين عاماً، فَهَل بَقِيَ في حياته بِقَدْر ما مضى؟! من أجل أن يصبح طبيب معه بورد خمسٍ وثلاثين عاماً، ومتاعب شراء العيادة ومتاعب الأجْهِزة، فالحياة فيها صُّعوبات، هذا إذا كان مُتَفَوّقاً في دِراسَتِهِ وعلى مُسْتوى عالٍ من الذكاء، وأُتيح له أن يدخل الطب، وإن دخل فروع أُخرى هناك متاعب العمل، وعدم إيجاد العَمَل، فربنا عزَّ وجل لِحِكْمَةٍ بالغة جعل الحياة

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

[ سورة الملك ]

جعلها مجموعةً من الصُّعوبات وجعل لِكُلِّ شيءٍ ثمناً، وجعلَ كسْبَ الحلال مُتْعِباً

(( مَن بات كالًّا مِن طلبِ الحلالِ باتَ مغفورًا له ))

[ الألباني ضعيف الجامع ]

حِكْمَةٌ بالغة أنَّ في الحياة صعوبة، هذا الذي يتَزَوَّج، بعد الزواج إذا عاد إلى البيت ووجد حرارة ابنه مُرْتَفِعَة، لا ينام الليل قلقاً على ابنه، يخْطُر في باله التهاب سحايا، يخْطُر في باله مرض عُضال، ويخْطُر في باله موت ابنه، إذاً مع أنَّ الطفل نِعْمَةٌ كبرى، إلا أنَّهُ يجْلبُ لأُمِّه وأبيه مجموعةً من المتاعب، و بعد الزواج قد لا يكون وِفاقٌ بين الزوْجَيْن، وقد تكون الزوْجَة عنيدةً، وقد لا يتوافق طبْعُها مع طبع زوجها، وقد تنشأ مُشاحنات، ما حِكْمة ذلك؟(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) .
السيارات بكل أنواعِها بالطريق المُنْحَدِر تنْطلقُ بِسُرْعةٍ فائقة، ولكن الطريق الصاعِد تفرِزُها، هذه جيدة وهذه سيّئة، فلولا الطريق الصاعد لما عَرَفْتَ الجيِّدة من السيئة، لذلك صُعوبة الحياة كشفٌ لمَعدن الإنسان، لولا الأزمات لما ظهر الحِلْم، فلا يظْهر الحِلْم إلا في الأَزْمات، الصبر لا يظهر، كيف يكْشِفُ الله عزَّ وجل عبْدَهُ الصبور من عبْدِهِ اللجوج؟ بِضائِقَةٍ مُوَحَّدَة على الاثْنين، هذا يكفُر وهذا يصبِر(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) ، هذا المعنى الأول، يعني هناك حكمةٌ بالغة من أنَّ الحياة شاقَّة، مشاقُها كشفٌ لحقيقة الإنسان، الكرم لا يبدو في الرخاء يبدو في الشدَّة.

(( أحبُّ ثلاثاً، وحبي لثلاث أشدّ: أُحب الطائعين، وحُبّي للشاب الطائع أشدُّ، وأُحب الكرماء، وحُبّي للفقير الكريم أشدُّ، وأُحب المتواضعين، وحُبّي للغنيِّ المتواضع أشدُّ، وأكره ثلاثاً، وكرهي لثلاث أشدّ: أكره العُصاة، وكرهي للشيخ العاصي أشدُّ، وأكره المتكبِّرين، وكُرهي للفقير المتكبِّر أشدُّ، وأكره البخلاء، وكُرهي للغني البخيل أشدُّ))

[ مسند الإمام أحمد ]

تعيش أيام الشهر الأخيرة بشكلٍ مُتعِبٍ جداً، لولا هذا الدخل المحدود لما ظهر معدنك النفيس (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) ، على الإنسان أن لا يقول لماذا هذه المتاعب في الحياة، هذه المتاعب كُلِّها من أجل أن نرْقى في الجنَّة، لا جنَّة بلا متاعب، لا جنَّة بلا ضيق، بالضيق يظْهر صبر الإنسان، يظهر حلمه، يظهر يقينه بالله عزَّ وجل، تظهر حِكْمته، ما منطلق هذه الزوجة للزوج، هناك من يُطلِّقها، هناك من يصبِر عليها، هناك من يُكرمها، هناك من يجعلها تهتدي على يديه،(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) هذا المعنى الأول.

2ـ خلق الله الإنسان بِحاجَةٍ إلى ملايين الأشْياء ووَفَّرَها له حتى تظْهر يدُ العِناية الإلهيَّة:

المعنى الثاني: أنَّ خلْقَ الإنسان بهذه الصُّعوبة وتوفير كُلِّ حاجاتِه، يعني لوْلا أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الحاجة وخلق ما يُلَبّيها لما عَرَفْتَهُ، ولو أنَّ الله عزَّ وجل خلقنا كالخشب الأصم، بلا أجْهزة، فلا حاجة للطعام والشراب والنوم، أنت مُحْتاج للنوم فَخَلَقَ لك صوفاً وقُطْناً لِتنام عليه، أنت مُحْتاجٌ للطعام فَخَلَقَ لك طعاماً مُنوَّعاً وفواكه وثِمار وحُبوب وبقول، أنت مُحْتاجٌ إلى سائِل تُحَلُّ فيه هذه المواد فَخَلَقَ الماء وجعله عذْباً فُراتاً، أنت بِحاجَة إلى مواد قاسِيَة تصْنع بِها حاجاتِك فَخَلَقَ لك الحديد، أنت بِحاجة إلى أرض تزْرَعُها فَتُنبِت فَتأكل، خَلَقَ لك التُربة ولم يجْعلْها صخْراً، فالإنسان خُلِقَ بِحاجةٍ إلى أشْياءٍ كثيرة، وكُلُّ هذه الحاجات وفَّرَها الله سبحانه وتعالى من أجل أنْ تعْرِفَهُ، هذا المعنى الثاني، فلولا أنَّ الله سبحانه وتعالى خَلَق في هذا البلد الأرض، كُلُّ حاجات الإنسان لكانت حياته شقاءً في شقاء، ولكنَّ هذا الشقاء تلاشى، خَلَق لك الخشب كي تُشعله، خلق لك المواد النفطيَّة كي تبعث في الجسد الدفء، خَلَق البرد و خَلَق الطاقة، خَلَق الحر وخَلَق الأماكن المرتفعة، خَلَق الجوع وخَلَق الطعام، خَلَق العطش وخَلَق الماء، من أجل الاستمرار خَلَق الذكر والأنثى، خَلَق الأولاد من نسلك تُربِّيهم، فإذا كبروا أعانوك بقدر ما أعنتهم، نظام مُتكامل. 

الإنسان كلما نظر إلى ضَعْفه ازداد قُوَّةً عند الله وكلما نظر إلى قُوَّتِه ازداد ضعْفاً عند الله:


فالمعنى الأول: هو أنَّ طبيعة الحياة فيها مَشَقَّة لِحِكْمَةٍ بليغةٍ أرادها الله عزَّ وجل وهي أنْ يُكْشَفَ الإنسان على حقيقته، أنْ يظهر الكريم، و أنْ يظهر اللئيم، و أنْ يظهر الحليم، و أنْ يظهر الشحيح، وكُلُّ هذه المعادن التي ينطوي عليها البشر إنما تنْكشِف لأنَّ الإنسان خُلق في كبد، يعني في مشَقَّة، فالإنسان لو أراد أنْ يأكل وجْبَةً واحدة تحتاج إلى إعْداد، قد تحتاج إلى ذهابٍ إلى السوق، قد تحتاج إلى ساعةٍ من إعداد من أجل أن تأكل لُقيمات، إذا أردْتَ أن تتنزَّه، تحتاج إلى إعداد ساعات (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) ، هناك أعمال، هناك حِرَف، هناك مِهَن.
المعنى الثاني: الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بِحاجَةٍ إلى ملايين الأشْياء، وهذه الأشياء كُلُّها وَفَّرَها له حتى تظْهر يدُ العِناية الإلهيَّة، وحتى يبْدُوَ للناس أنَّ لهم خالقاً مُرَبِّياً، إلهاً،حكيماً، عليماً، قديراً، غَنِياً، (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) ، والإنسان كلما كان أعْقَل كلما نظر إلى ضَعْفِهِ وافْتِقاره إلى الله عزَّ وجل، أنت مُفتقرٌ إلى الله عزَّ وجل بِكُلِّ شيء، أنت ماذا تعمل؟ إذا كُنْتَ مُدَرِّساً، لو سُلِبت الذاكرة لما بقيت في التدْريس ولا ساعَة، يُجامِلونك أسبوع ثمَّ يجْعلونك مُتقاعِداً، إذا كان لك خمسٌ وعشرون سنة، أقل تعويض وانتهى الأمر، فإذا كنت تكسبُ قوتك من التدْريس، لولا هذه الذاكرة التي منَّ الله بها عليك، لما كنت كاسِباً لِقوتِك، ماذا تعمل؟ طبيباً، هذه الخبرات المُخَزَّنَة في ذاكرتك، الله سبحانه وتعالى يسْتطيع أنْ يسلِبُها منك في ثانِيَة، هذه المُسْتَشْفَيات التي تمتلئ بأُناسٍ فَقَدوا عُقولَهم أَلَيْسوا بشراً؟‍ وهذا البيت الذي اشْتَرَيْتَهُ، والذي رَتَّبْتَهُ وأَحْسَنْتَ اخْتيار مَوْقِعِه، وفَرَشْتَهُ بأَجْمَلِ الأثاث، لو سَلَبَ الله لك عقْلَكَ، لما أبْقاك أهْلُكَ في بيْتِكَ ساعَةً، فَعَلامَ التكَبُّر؟‍ لو أن نقطْةً من الدم تَجَمَّدَتْ في بعْض شرايين الدِّماغ لَفَقَدْتَ الحَرَكة وأصْبَحْتَ عِبْأً على الناس، هو مُحْتَرَمٌ بِقَدْر ما هو خفيف الظِلّ، فإذا جلس في الفراش وخدمهُ أهْلُهُ، واضْطَروا إلى أنْ يُنَظِّفوه في فِراشِه، بعد أُسْبوعٍ يبْدأ الملل.
 لي قريبٌ أُصيبَ بِالفالِج فكانت خِدْمَتُهُ في الأُسْبوع الأوَّل من أرْقى الخَدَمات، وفي الأُسْبوع الثاني بدأ التَملمُلَ! وفي الأُسْبوع الثالث أصبح هناك غِياب عن البيت، يسْأل عن فُلان ليس في البيت، وفي الأُسْبوع الرابع بدأ أوْلاده يغيبون عنه، كل مكانة الإنسان إذا الله عزَّ وجل أَفْقَدَ له الحَرَكَة فقط، إذا أَفْقَدَ له الذاكرة، إذا أَفْقَدَ له نِعْمة البَصَر، نعمة السَّمْع، نعمة التوازن، هناك جِهاز توازن مُعَقَّدٌ جداً في الأُذُن، لو اخْتَلَّ لما اسْتَطَعْتَ المَشْيَ وَحْدَك أبداً،(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) فالإنسان كلما نظر إلى ضَعْفه ازداد قُوَّةً عند الله، وكلما نظر إلى قُوَّتِه ازداد ضعْفاً عند الله.

اختلاف المؤمن عن غير المؤمن :


﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)﴾

[ سورة البلد ]

هنا يختلف المؤمن عن غير المؤمن، المؤمن يرى افْتِقاره المستمر إلى الله عزَّ وجل، ولا يعتدُّ بقوّته العَضَلِيَّة، يعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يسْلبها منه في ثانِيَة، ولا يعتدُّ بحِدَّة بصره، ولا برهافة سمْعه، ولا يتباهى بِذَكائِه، فالذكاء منحةٌ من الله عزَّ وجل، فكم من شخْصٍ عاد إلى بلده وهو يحمل أعلى شهادة، الدكتوراه، فإذا به يفْقِدُ عقْلَه وصار يصيح في الطرقات، ويُزعج الناس، ويُخيفهم! ويحمل دكتوراه في الذرَّة، فالله سبحانه وتعالى قدير على أنْ يسلِب صاحب الذكاء ذكاءه، وصاحب القوّة قوَّته، وصاحب البصر الحادّ بصره، وصاحب السمع المرُهف سمعه، ويستطيع أن يحرم الإنسان كُلّ هذا الطعام بمَرَضٍ عُضال في الأمعاء، فالإنسان تحت رحمة الله، وكُلُّ جِهازٍ من أجْهِزَتِهِ يعْمل بِقُدْرة الله، فلو عَطَّل الله بعض الأجْهزة، تنْقلب حياة الإنسان جحيماً، والله جلسْتُ مع إنْسانٍ، شَعَرْتُ أنَّ فيه هُموماً لو وُزِّعَتْ على أهْل بلَدٍ لَكَفَتْهُم، كُلْيَتاهُ مُعَطَّلتان عن العمل، وعليه أنْ يذهب إلى المُستشفى مرَّتين كُلّ أُسبوع، ويدفع المبالغ الطائلة، وينتظر دَوْرَهُ ساعاتٍ طويلة، ويجْلس تحت الكُلْيَة الاصْطِناعِيَّة أربع أو خمْس ساعات، ولم يعُد يحتمل! قال لي: خمسون مكان فُتح في الشريان، لم يعُد يحتمل، وبعد شهر في الأرجُل،(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) لا يتكبَّر، فالإنسان لو دخل بيْت الخلاء وخرج

(( الحمدُ للهِ الذي أَذْهَبَ عني الأذى وعافاني ))

[  أخرجه ابن ماجه  ]

لو تعَطَّلَتْ هذه الكُلْيَة فما العمل؟! تصبح الحياةُ جحيماً، لو تعطَّلت بعض الأجهزة، الحياةُ جحيماً فالآية: (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) فالمُتَكَبِّر أحْمق، والمُعْتَدّ بِقُوَّتِهِ غَبِيّ، من أنت؟ مهما كان الإنسان عظيماً، فقد يسْلِبُهُ الله شيئاً من صِحَّتِهِ فَيُصْبِحُ عاجِزاً، والقِصَّة المشْهورة وهي أنَّ أحد المُلوك سأل وزيرهُ وقد طلب كأس ماءٍ فقال له الوزير: يا أمير المؤمنين بِكَم تشْتري هذا الكأس لو مُنِعَ عنك، فقال الأمير: بِنِصْف مُلكي، فقال الوزير: وإذا مُنِعَ إخْراجُهُ، فقال الأمير: بِنِصْف مُلْكيَ الآخر، فقال الوزير: إنَّ مُلْكَكَ يعْدِلُ هذا الكأس من الماء، (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ).

الله قادرٌ علينا في الدنيا والآخرة وفي أيَّةِ لحْظةٍ من لَحَظاتِ حياتنا كيْ يُرِينا ضعْفنا:


إذا كان تحت يَدِكَ غُلامٌ يعْمل في مَحَلِّكَ التجاري فلا تظْلِمْهُ ولا تسْتعلِ عليه، لا تُخَوِّفَهُ بالطَّرْد من العمل دائماً، لا تسْتغِلّ حاجته لك وتعطيه أجراً لا يساوي شيئاً، سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لبعض الصحابة وكان أحد الصحابة يضْرِب غُلامه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (اِعْلَم أبا ذرّ أنَّ الله أقْدر عليك منك عليه)

(( كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِن خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هو حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقالَ: أَما لو لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ. ))

[ صحيح مسلم ]

فإذا كان للإنسان زوْجةٌ جيِّدة وهو جاهل، لا يسْتعلي عليها، ربما ليس لديها أهْل، مقْطوعة، أقَلُّ كلمةٍ يقول لها مع السلامة اذهبي لبيت أهلك، أحدهم يرجع للبيت كل يوم في الساعة الثانِيَة صباحاً، فقالت له زوجته: نحن أهْلك أيضاً اسهَر معنا، فقال لها: اِفْتَحِي الدُّرْج وخُذي مهركِ ومع السلامة! استعلاء (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) .
أحْياناً المال يكون عَدّواً للإنسان، المال يُعْطي عظمةً فارغة، وتضَخُّم للشخصية كبير جداً، (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) ، فالله قادرٌ عليه في الدنيا وفي الآخرة، وفي أيَّةِ لحْظةٍ من لَحَظاتِ حياته، يُرِيَه ضعْفَه، وهذا الإنسان 

﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6)﴾

[ سورة البلد ]

أنا أقَمْتُ عُرْسي بالفُندق الفُلاني، ودَفَعْت ثمانين ألف ليرة، أنا أقمت حفْلَةً كَلَّفَتْني كذا، ربنا عزَّ وجل قال: (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا) من دون عد، فُلانٌ لا يَعدُّ أمواله ولكنَّهُ يزِنُها بالميزان.

الإنسان مرْزوقٌ من الله عزَّ وجل إذ يسوق الناس إليه:


﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)﴾

[ سورة البلد ]

حينما جمع هذا المال، أليْسَ الله يراهُ كيف جمعَهُ ومن أين جمعه؟! بالكَذِب بالحرام بالغِشّ بالرِبا بالغصْب، (أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ) ألا يعْلم هذا الإنسان أنَّ الله بالمِرْصاد، وهناك معنىً آخر، أيَحْسَبُ الإنسان وقد جمع هذا المال أنْ لم يرهُ أحد، وأنَّ جمْعَ هذا المال تمَّ بِفَضْل الله، ونعمة الله، وتوْفيق الله، كم من إنْسانٍ مُتَّقِدٍ ذكاءً ولا يمْلكُ قوتَ يومِهِ:

ولو كانت الأرزاق تجْري مع  الحِجا          هَلَكْن إذاً مِن جهْلِهِنَّ البهائِمُ

[ أبو تمام ]

الإنسان مرْزوقٌ من الله عزَّ وجل، الله تعالى يسوق الناس إليه، فلو أنَّهُ صَرَفَهُم عنه فماذا يفعل؟ يُغْلِقُ المحل ويضَعُهُ بِرَسْم التسْليم، فمن جعل الناس يُقْبِلون عليه؟! كسْبُ المال بِفَضْل الله، والشيءُ الآخر أنَّ الله سبحانه وتعالى يعْرِف كيف كسِبْتَ هذا المال؟ فإذا قلتَ: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا) فهذا كلام لا يقوله إلا الجاهلون، إنْ أنْفَقُوهُ أنْفَقوهُ إسْرافاً وتَبْذيراً، وإنْ منعوه مَنعوه بُخْلاً وتقْتيراً، (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) .
لذلك الحديث القدسي: (أحبُّ ثلاثاً، وحبي لثلاث أشدّ: أُحب الطائعين، وحُبّي للشاب الطائع أشدُّ، وأُحب الكرماء، وحُبّي للفقير الكريم أشدُّ، وأُحب المتواضعين، وحُبّي للغنيِّ المتواضع أشدُّ، وأكره ثلاثاً، وكرهي لثلاث أشدّ: أكره العُصاة، وكرهي للشيخ العاصي أشدُّ، وأكره المتكبِّرين، وكُرهي للفقير المتكبِّر أشدُّ، وأكره البخلاء، وكُرهي للغني البخيل أشدُّ) .
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ) كيف جمع المال؟ وكيف أنْفَقَهُ؟ وبِأيِّ أُسْلوبٍ وصل إليه؟ عن طريق الكذِب أم الغِشّ أم الخِداع أم السرِقَة أم الاغْتِصاب.
في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نتابع تفسير قوله تعالى:

﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)﴾

[ سورة البلد ]

 المقطع هذا متكامل سأرجئه للدرس القادم. 

الملف مدقق

والحمد لله ربِّ العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور