وضع داكن
29-11-2024
Logo
الدرس : 8 - سورة الجن - تفسير الآيات 22-28 مهمة الرسول
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثامن والأخير من سورة الجن ومع الآية الثانية والعشرين، وهي قوله تعالى:

﴿  قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً(22)﴾

[  سورة الجن  ]

  الآية التي قبلها تقول:

﴿  قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً(20)﴾

[  سورة الجن  ]

 أي: لو أنني أشركت واتبعت أهواءكم وداهنتكم فلن يجيرني من الله أحد.
 

قصة:


أريد أن أروي لكم قصةً مختصرةً عن والي البصرة الذي جاءه كتابٌ من يزيد يأمره بأمرٍ لا يرضي الله عزَّ وجل، وكان عنده الحسن البصري، فوقع في حَيرةٍ من أمره، فإن هو نفَّذ أمر يزيد أغضب الله عزَّ وجل، وإن لم يعبأ بأمر يزيد أغضب يزيد وربما عزله، فقال للحسن البصري: ماذا أفعل؟ فأجابه بكلمة ينبغي أن تكون أمام كل واحد منا، وأمام كل مسلم، وأمام كل مؤمن، لقد قال له الحسن البصري: "إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله" .

لا أحد يمنعك من الله:


﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ من منا يملك سيولة دمه؟ قد يتجمد الدم في عروقك في أية لحظة، فمن من البشر يستطيع أن يمنع عنه خثرة الدم في الدماغ؟ ومن منا يملك دوام عمل صمامات قلبه، من منا يملك دوام عمل كليتيه، من منا يملك دوام عمل كبده؟ ومن منا يملك أن يبقى عقله في رأسه؟ ومن منا يملك ألا يخسر أحد أعضائه في ثانيةٍ واحدة؟ إننا في قبضة الله، ولن يجيرك من الله أحد، اذهب أينما شئت، كل مكان في العالم له أدوية خاصة، كلُّ بلدٍ بحسب ظروفه لله عزَّ وجل أدوية خاصة يؤدِّب بها عباده في كل بلد، فلو انتقل الإنسان من بلدٍ إلى بلد لينجو من تأديب الله كان الله معه أينما كان، فالله تعالى لا منجى منه إلا إليه، ولا ملجأ منه إلا أن يتوب المرء إليه، فلا ملجأ من الله إلا أن تصطلح معه لا ملجأ من الله إلا أن تطيعه، فيجب أن تخاف منه، وأن تفرّ إليه، كما يجب عليك أن تتحصَّن به منه، وبطاعته من عذابه ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ والقصص على هذه الآية لا تعدُّ ولا تحصى، فقد يعتمد الإنسان على ماله فتأتي مصيبةٌ فلا يستطيع المال أن يفعل شيئاً، وقد يعتمد الإنسان على جماعته فتأتي مصيبةٌ فلا يستطيع مَن حوله أن يفعلوا معه شيئاً، وقد يعتمد الإنسان على مكانته، ثم لا تنفعه مكانته في مكانٍ ما أو في ظرفٍ دقيق، وقد يعتمد الإنسان على علمه فيَحْجُب الله تعالى عنه علمه في لحظةٍ ما فيرتكب حماقةً ما بعدها حماقة، فأي شيءٍ تعتمد عليه من دون الله لن ينجيك من عذاب الله، فقد يعتمد بعض الاختصاصيِّين في بعض الأمراض على علمهم، فيمرضون باختصاصهم، وقد يعتمدُ المحامون على سعة اطلاعهم في القانون، فيخسرون دعوة وهم أربابٌ في هذا الاختصاص، لمجرد اعتمادك على غير الله فإنك لن تنجو من عذابه، فنحن في قبضة الله، وشعور المؤمن أن الله عزَّ وجل على كل شيء قدير يؤدِّبه، فيجعله أديباً في حركاته وسكناته وكلامه.
﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ فلا ينفع مال ولا مكانة ولا علم ولا ذكاء، إذا أراد ربُّك إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لبٍّ لبَّه، فيعطِّل له خبرته، وذكاءه، وعقله، وإمكاناته، فإن أردت أن تكون قوياً فكن مع الله، كن مع القوي، وإن أردت أن تكون غنياً فكن مع الغني، وإن أردت أن تكون عزيزاً فكن مع العزيز.

اجعل لربك كلَّ عـزّك يستقرُّ ويثْبُتُ   فإذا اعتززتَ بمن يموت فإن عزَّك ميِّتُ

[ عائض القرني ]

 قال عليه السلام:

((  سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت. ))

[ صحيح أبي داوود ]

 وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ فكم من آياتٍ باهراتٍ لله عزَّ وجل، كانت مع أُناسٍ اعتمدوا على غير الله فخيّب الله ظنَّهم، وكان اعتمادهم على غير الله كمَن يبني قصراً أساسه ملح، فإذا جاء المطر ذاب الملح، والحياة الدنيا مليئة بالمواعظ، ولكن ما أكثر المواعظ وما أقل المتَّعظين! وما أكثر العبر وما أقل المُعْتَبرين!

أفعال الله تدل على منهج متكامل:


 لقد قلت لكم أيها الإخوة، لو أننا تصورنا تصوراً أنه ليس في حياتنا قرآنٌ ولا سنة، ثم تأمَّلنا أفعال الله لاستنبطنا من أفعال الله منهجاً كاملاً، فالله عزَّ وجل يوفِّق المستقيم، ويؤيَّده، ويحصِّنه، ويحفظه، ويدْعمه، ويدافع عنه، ويخيِّب كل من أشرك به، ويجعل الله تدميره في تدبيره، ويجعل الدائرة تدور عليه.
﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ سبحان مَن قهرَ عباده بالموت، ونحن لا نعلم متى يأتي الموت، ولا من أي سبب، فقد يأتي من أتفه الأسباب، وقد يأتي من جهةٍ لم نكن لنتوقعها، فما دامت حياتنا وصحتنا وقوتنا بيد الله فكيف نعتمد على غير الله؟ وكيف نطيع غير الله؟

الحاجة إلى الله تعالى:


﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ أي: أن الله عزَّ وجل إذا أراد أن ينصرك نصرك على سببٍ صغيرٍ جداً، وإن أراد أن يدمِّر إنساناً فإنه يدمِّره على سببٍ صغيرٍ جداً، فقد لا يصدق أن هذه الخسارة الكبيرة كانت بسبب هذا (( السبب الصغير، فلذلك قال عليه السلام:

((  لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. ))

[ صحيح أبي داوود  ]

يجب عليك أن تفرَّ إليه منه، لأنك كائن به، اللهم نحن بك وإليك، وإن من أبلغ أدعية النبي عليه الصلاة والسلام قوله:

(( الخيرُ كلُّه في يدَيْكَ والشَّرُّ ليس إليكَ أنا بكَ وإليكَ تبارَكْتَ وتعالَيْتَ أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ. ))

[ صحيح ابن حبان ]

 لأنك ما دمت تمشي على قدميك فقوتك بالله، وما دام عقلك برأسك يحترمك الناس، فاحترام الناس لك سببه أن عقلك برأسك، ولأن الله سمح لهذا العقل أن يعمل عملاً صحيحاً، لكن إذا اختلَّ العقل، أقرب الناس إليك يتوسط ليجعلك في مستشفى المجانين (أولادك، زوجتك)، فأنت محترم لأن العقل في الرأس، كما أنك محترم لأنك تمشي على قدمين، فلو كان الإنسان طريح الفراش تمنى أقرب الناس إليه بعد عدة سنوات موته، وقد يسمعونه هذه الكلمة بأذنه، فيقولون له: خفف الله عنك، فمكانتك تأتي من استقامة عقلك، مكانتك تأتي من قوتك، مكانتك تأتي من سماح الله لك بأن تكتسب رزقاً وتنفق على من حولك، فلو ألجأك إليهم لاختلف الأمر، فكم من أبٍ يقف أمام ابنه ذليلاً ليأخذ منه ما يأكل، وكم من رجلٍ كان غنياً فافتقر، وصار يتمنى أن يأخذ أقل دخلٍ في الشهر.

 وسائل العلاج الإلهية:


 إن ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ والوسائل التي قد يعالجك الله بها لا تعدُّ ولا تحصى، ماذا أقول لكم؟ في الجسم وحده مئات الألوف بل عشرات مئات الألوف من الأجهزة والخلايا والأعضاء، لو أصابها خللٌ بسيط لاختلّ هذا الجسم، فلو أن قناة الدمع سُدَّت لكنت مضطراً إلى أن تمسك منديلاً وتمسح دمعك الذي يفيض على خدِّك طوال النهار والليل، إلى أن يحفر الدمع أخدوداً في الخد، ماذا حصل؟ قناة من أدق القنوات انسدّت، لو أصبح في العين خللاً لنسيت كل شيء، ولو أصبح في حركتك بُطْئاً لنسيت كل شيء، لو شعرت بشعورٍ لم تكن تشعر به من قبل لنسيت كل شيء، ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ ، فكل إنسان يتحرك في الحياة حركة مع المعصية وكان قوياً شديداً صحيح البنية فهذا استدراج من الله عزَّ وجل له، وإذا رأيت الله يتابع نِعَمه عليك وأنت تعصيه فاحذره، لأن هذا استدراج.

﴿  سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45)﴾

[  سورة القلم  ]

 

ضعف الإنسان:


 أيها الإخوة، إن المتانة في اللغة هي صفةٌ تُوصَف بها قِوى الشد، أما القساوة فهي تقاوم قوى الضغط، فالصفة التي تقاوم قوى الشد المتانة، وحبال الفولاذ أمتن عنصر في الأرض، والألماس أقسى عنصر، فالقساوة مقاومة قِوى الضغط، والمتانة مقاومة قِوى الشّد، وإن ربنا قال تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ فالإنسان مربوط بحبل لكن الحبل مُرْخى، فيتوهم الإنسان لجهله أنه طليق، وقد يشدُّ الحبل في أية لحظة، ومهما تحرك الإنسان فإن الحبل لن ينقطع، وذلك لأن الحبل متين جداً قال تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾
أيها الإخوة، إن هذه الرؤية يجب أن تكون مستمرة، لأنها تحملك على طاعة الله، كما تحملك على أن تكون كاملاً، تحملك على أن تتصل بالله لترى ضعفك، وإن كمالك في ضعفك، فقد قال الشاعر:

مالي سِوى فَقري إليـك وسيلة    فبالافتقارِ إليك فقري أدفـعُ

مالي سوى قرعي لبابك حيلـةً    فلئن طُرِدت فأيّ بابٍ أقرعُ

[ الإمام الشافعي ]

 فإن أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وإن أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله، وإن أردت أن تكون أكرم الناس فاتّقِ الله.
 

لا تعتمد إلا على الله:


﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ﴾ أي: لن يجيرني زوجة ولا ولد ولا أموال مكدَّسة في أكثر من جهة، فهناك أناس يضعون في كل بلد رصيداً كبيراً، وقد تأتي مصيبة فلا تنفعهم كلُّ هذه الأموال، وهناك إنسان يقيم علاقات متينة جداً مع أقوياء ليشعر بالأمن، فلا ينفعه كلُّ هؤلاء الأقوياء في لحظة واحدة، فقد يضعه الله عزَّ وجل في ظرفٍ لا يستطيع فيه أن يتصل بواحدٍ منهم، وذلك لحكمةٍ يريدها الله عز وجل، وهذا هو التوحيد، وديننا هو دين التوحيد، فلن يجيرك من الله إلا أن تكون على منهجه، ولن يجيرك من الله إلا أن تكون في طاعته، ولن يجيرك من الله إلا أن تكون مقبلاً عليه، خاضعاً لحكمه، فلو جاءك ضرٌّ فمن ينجيك؟ قال:
﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ الملتحد: الملجأ، وقد أُوتي النبي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلَم، وهناك قول قصير مختصر جداً لسيدنا علي عليه السلام يقول: "لا يخافَنَّ العبد إلا ذنبه، ولا يرجوَنَّ إلا ربه"
 فالشيء الذي يسبب لك المتاعب هو الذنب فقط، أما كل قِوَى الأرض فلن تستطيع أن تصل إليك إذا كان الله معك، وكل القوى الشريرة لن تستطيع أن تنالك بأذىً إذا كنت مع الله وكان الله معك، كما أن أقرب الناس إليك قد يسبب لك من المتاعب ما لا يعدُّ ولا يحصى إذا لم تكن مع الله، وهذه المعادلة دقيقة جداً.

كُنْ معَ اللهِ تَرَ اللهَ معَك    واترُكِ الْكُلَّ وحاذِرْ طَمعَك

وإذا أعطاكَ فمَنْ يمنعُهُ     ثمَّ مَنْ يُعطِي إذا مَا مَنعَـك

[ عبد الغني النابلسي ]

 فمن يعطيك سوى الله؟ ومن يرحمك إذا أبعدك عن رحمته؟ ومن يدْعمك إذا خذلك الله عزَّ وجل؟ ومن يُعِزُّك إذا أذلك الله عزَّ وجل؟ ومن يشفيك إذا أمرضك الله عزَّ وجل؟

إنّ الطبيبَ له علمٌ يُدِلُّ بــــــه    إنْ كانَ للمرْءِ في الأيّام تأخيرُ

حتّى إذا ما انتهت أيّامُ رِحْلَتِه    حارَ الطبيبُ وخَانتْهُ العَقاقِيــرُ

[ الرشيد ]

 هذا هو الإيمان، أن ترى أنك بيد الله، فإذا أعطاك الله حرفة تكسب منها مالاً ثم سُئلت ماذا تعمل؟ فقل بفضل الله ورحمته أعمل كذا، والله مكَّني من وظيفة من اختصاص في طب، في هندسة، من المحاماة أو بالتجارة أو بالصناعة أو بالخدمات، والله عزَّ وجل أعانني على إتقان حرفة ويسَّر لي سبيل الرزق منها، وهذا الكلام الصحيح، فإذا لك بيت وكان معك مفتاح بيت، وكان في البيت زوجة وأولاد لك فهذا شيء ثمين جداً.

نعمة الزواج:


 أريد أن أقول لكم أيها الإخوة: لا تكفروا بنعمة الزواج، فعلى الزوج ألا يستهين بنعمة الزوجة، كما إنني أخاطب الزوجات فأقول لهن: لا ينبغي للزوجة أن تكفر نعمة الزوج، فهناك عددٌ كبير من النساء يتمنَّيْنَ أن يكنَّ زوجاتٍ لأزواج، فنعمة الزوج نعمةٌ عظمى، ونعمة الزوجة نعمةٌ عظمى، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: 

(( إني لأبغضُ المرأةَ تخرج من بيتِها، تجرُ ذَيْلَها، تشكو زوجَها. ))

[ ضعيف الجامع ]

 وقال

(( لا يَنظُرُ اللهُ إلى امرأةٍ لا تَشكُرُ لزَوْجِها وهي لا تَسْتغنِي عنْ زوْجِها. ))

[ المستدرك على شرط الصحيحين ]

 وقال:

((  أيما امرأةٍ سألت زوجها الطلاق من غير بأسٍ حرام عليها رائحة الجنة. ))

[ تخريج المسند لشعيب ]

فلا أحد يكفر نعمة الزوج لا امرأة ولا رجل.
 

لا تخف إلا ذنبك:


 قال تعالى: ﴿وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ لا يوجد ملجأ غير الله، فقد تجد الطبيب أحياناً يده بيد الله، فإن أراد الله لهذا المريض شفاءً وفَّق الطبيب، وإن أراد له عقاباً أخطأ الطبيب، والخطأ كله موظَّف في الخير المطلق، وقد قال سيدنا علي عن هذه الآية بشكل مختصر "لا يخافن العبد إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه" فمهما يكن في الحياة الدنيا قِوَى شريرة فلا تخفْ منها، فإنك قد تنام في مكانٍ خالٍ فيه عقارب وأفاعٍ، وهذه المخلوقات كلها بيد الله، وقد تجد إنساناً شريرأً يستطيع أن يفعل بك ما يفعل لكنه لا يستطيع لأنه مُلْجَم.

التوحيد:


يجب أن تؤمن أن الله:

﴿ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ(62)﴾

[ سورة الزمر ]

فهو الذي خلق، والزِّمام بيده، كما يجب عليك أن تؤمن أن الله:

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54)﴾

[  سورة الأعراف  ]

 كل شيء خلقه أمره بيده، كما يجب أن تؤمن، بهذه الآية:

﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(2)﴾

[  سورة فاطر ]

 هذا هو التوحيد، وديننا دين توحيد، بل إن فحوى دعوة الأنبياء جميعاً واحدة.

﴿  وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

 فإن أردت أن تضغط الدين كله بل أن تضغط كل الأديان في كلمتين؛ اعتقِد أنه لا إله إلا الله واعبده، وَحِّد، وأطِعْ، فالسلوك طاعة، والاعتقاد توحيد، وهذا هو الدين كله.
﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ إنني أعيد هذا وأقوله كثيراً: إنك حينما تعتمد على مالك أو على أولادك، أو على زوجتك، أو على ذكائك، أو على حرفتك، أو على علمك أو على من حولك من الأتباع، فإن الله تعالى يجعل تأديبك في أن يخيِّب هذا الذي اعتمدت عليه ظنك فتُفاجَأ، وذلك لحكمةٍ أرادها الله، فلا تُفاجأ لأن هذا هو تأديب الشرك الخفي ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ .

الاستثناء في هذه الآية:


 مهمة الرسول:

﴿ إِلَّا بَلَٰغًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦۚ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا (23)﴾

[ سورة الجن ]

 الحقيقة أن هذا الاستثناء ليس من هذه الآية بل من آيةٍ قبلها، كما قال المفسرون، وهي:

﴿  قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً(21)﴾

[  سورة الجن  ]

 لقد ذكرت في الدرس الماضي أن الرسول عليه الصلاة والسلم لا يملك لأحد ضراً ولا نفعاً ولا غَيَّاً ولا رشداً، وهذه الأشياء الأربعة قد اختُصرت في كلمتين، ﴿لَا أَمْلِكُ لَكُمْ﴾ أن أضرَّكم فأنا بيد الله، ولا أملك لكم أن أنفعكم، لأن الضر والنفع بيد الله، كما أني لا أملك لكم أن أضلَّكم ولا أن أهديكم، فقد قال تعالى:

﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)﴾

[  سورة البقرة ]

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(56)﴾

[  سورة القصص ]

﴿ قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍۢ (104)﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ لِلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)﴾

[  سورة الغاشية  ]

 إذاً ما الذي يملكه لنا؟ إنه لا يملك لنا نفعاً لا ضراً ولا غياً ولا رَشَدَا، والرُشْد: مصدر أيضاً، أما الآية فقد ورد فيها الرَشَد، فما الذي يملكه لنا؟ قال: ﴿إِلَّا بَلَٰغًا﴾ هذا استثناء من هذه الآية ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾ ﴿إِلَّا بَلَٰغًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦ﴾ إنه يقول: إن مهمتي هي التبليغ، مهمتي أن أبلغكم، أما الهدى فهو بيدكم، وهو قرار من اختياركم، فأنتم تختارون الهدى أو غير الهدى، أما أنا أبلغكم: ﴿إِلَّا بَلَٰغًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِ﴾ فهذا البلاغ من الله، لذلك كان الأنبياء مؤَيَّدون بالمعجزات، مؤيَّدون بالوحي، مؤَيَّدون بالعصمة، فهم معصومون، ويُوحَى إليهم، ومعهم معجزاتٍ تؤَكِّد أنهم أنبياء.
﴿إِلَّا بَلَٰغًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِ﴾ فالله عزَّ وجل يبلغنا أنه هو خالقنا عن طريق الأنبياء، فقد خلقنا لنعبده، والمصير إليه، ثم أعطانا رسالة مفصَّلة؛ افعل ولا تفعل، فقد قال لك: أنا موجود وهذا منهجي، لذلك كان عليك أن تؤمن بالله وتتعرف إلى منهجه، وأنت بالكون تعرفه، وبالشرع تعبده، هناك شيئان؛ فيجب عليك أن تعرفه وأن تعرف أمره، كما يجب عليك أن تعرفه من خلال خلقه، أن تعرفه من خلال أفعاله، أن تعرفه من خلال كلامه، ثم عليك أن تطيعه من خلال تشريعه.

أشياء لا بد للمؤمن من أن يعرفها:


 وكما قلت في الخطبة اليوم: يجب ألا يعلو شيء في حياة المؤمن على أن يعرف المنهج التفصيلي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فلو قلت لك مثلاً: يجب أن تتقرب من فلان بطاعته، فإنك تسأل: أين أمره ونهيه، إن هذا شيء يسمونه تحصيل حاصل، فما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا تتم السنة إلا به فهو سنة، فلو أنني قلت لواحد من الناس: أطع الله، فإنه يقول لك: علِّمني أمره ونهيه حتى أطيعه، فهذا شيء بديهي جداً بالنسبة لك إن استقرت حقيقة الإيمان في قلبك، فماذا بقي عليك؟ لقد بقي عليك أن تتعلم أمره ونهيه كي تطيعه، فمن لوازم طاعة الله معرفة أمر الله، لذلك كانت معرفة الحكم الشرعي فرض عينٍ على كل مسلم.
 وقد ذكرت في خطبة سابقة أن المظلي يحتاج إلى معرفة مجموعة معلومات عن المظلة، وبعض هذه المعلومات ضروري كما أن بعضها غير ضروري، فهل المظلة دائرية أم مربعة أم مستطيلة؟ وما نوع قماش المظلة؟ هل هو من خيوط صناعية أم طبيعية؟ يا تُرى ما لونها؟ وكم حبل بها؟ وما قطر هذه الحبال؟ وما ألوان هذه الحبال؟ وممَّ صنعت هذه الحبال؟ إن هذه معلومات لو جهلها المظلي لنزل سالماً، أما كيف نفتحها؟ فهذه حقيقة مصيرية، حقيقة أساسية، وهذه حقيقةٌ يجب أن تُعْلَمُ بالضرورة، حقيقة خطيرة إن لم يعرفها المظلي نزل ميِّتاً، ففي الدين أشياء إذا عرفها البعض سقطت عن الكل، وهناك أشياء علمها فرض عين على كل مسلم؛ سواء أكان مثقفاً أو غير مثقف، وسواء كان اختصاصه عالياً أم متوسطاً، أمي أو متعلم، غني أو فقير، أي إنسان بصرف النظر عن جنسه؛ ذكراً كان أم أنثى، كبيراً أم صغيراً، مثقَّفاً أم غير مثقف، اي إنسان عليه أن يعلم أشياء بالضرورة، وهذه الأشياء هي الحلال والحرام، الأمر والنهي، التشريع، فطلب الفقه حتمٌ واجبٌ على كل مسلم، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً*إِلَّا بَلَٰغًا مِّنَ ٱللَّهِ﴾ لقد أبلغني الله من خلال الأنبياء والرسل أنه موجود وواحدٌ وكامل، وهذه الرسالة منهج، فإذا فتحت كتاب الفقه وجدت أحكام الزواج والطلاق، وأحكام الخطبة، وأحكام البيع؛ كبيع الغَرَر، وخيارات البيع، وهذه كلها مستنبطة من الكتاب والسنة أساساً، فالطلاق، والزواج والإيجار، والأمانة، والحوالة، والكفالة، واللُقْطة وأحكامها، وكل أحكام الفقه هي تنظيم لحياتنا، فإذا سار الإنسان على منهج الله عزَّ وجل ضَمِنَ توفيق الله له.
 

جزاء الإشراك:


﴿إِلَّا بَلَٰغًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦۚ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا﴾ أي: إن من يعص الله ورسوله ويمت عاصياً لله عزَّ وجل، والمقصود بالمعصية هنا بالشرك، لأن:

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًۢا بَعِيدًا(116)﴾

[ سورة النساء ]


 مثل:


لقد ضربت مرة مثلاً، وفي إعادة هذا المثل فائدة..
 إذا كان هناك إنسان له مبلغ كبير جداً في حلب يبلغ الملايين، وكان عليه أن يكون في هذه المدينة في الساعة الثانية عشر، فإذا ركب قطاراً فإنه قد يرتكب في هذا القطار عشرات الأخطاء، فقد يشتري بطاقة من الدرجة الأولى، وقد يجلس في الدرجة الثالثة بخطأ منه، كما أنه قد يجلس عكس اتجاه القطار فيصاب بالدوار، وقد يجلس مع أُناس غير مهذبين فينزعج انزعاجاً شديد، وقد يتلوَّى من الجوع وينسى أن في القطار مطعماً صغيراً، وقد، وقد، ومع كل هذه الأخطاء فإنه لا يزال في الطريق إلى حلب وسيأخذ هذا المبلغ، لكن هناك خطأ قد يرتكبه لا يُغتفر، وهو أن يركب قطار درعا، فهذا الخطأ لا يُغتفر، لأن المبلغ في الشمال، ومهما كان هذا القطار فخماً ومريحاً ومكيفاً، حتى إن كان له نوافذ تُفتح أوتوماتيكاً، فإنه لا يصلح للوصول إلى الهدف، فيجب عليك أن تمشي باتجاه هدفك، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ أن تتجه إلى غيره، أن تعبد غيره، أن تعلِّق الأمل على غيره، أن تخاف من غيره، فإن كنت في هذا الخط فالطريق أمامك مسدود، وليس هناك مغفرة، أما إذا وحَّدْتَه وتعرَّفت إليه فإنه قد يغفر لك بعض الأخطاء مع المعالجة، فيعالجك ويغفر لك، لكن أكبر غلط هو أن تشرك بالله عزَّ وجل، وأن تتجه إلى غير الله.
 

الخوف من علامات العقل:


 ﴿إِلَّا بَلَٰغًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦۚ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا﴾ فأي إنسان يموت عاصياً ويموت مشركاً فإن له نار جهنم خالداً فيها أبداً، فهل يحس الإنسان يا ترى إذا قرأ هذه الآية بخوف؟ إن الخوف من علامات العقلاء، فكلما هبط ذكاء الإنسان، وهبط إدراكه فإنه لا يخاف، والدليل على ذلك أن الفلاح قد يأخذ ابنه الصغير الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات إلى الحصيدة، فيضعه بين سنابل القمح، -وهذه القصة قد وقعت- فيمشي إلى جانب هذا الطفل الصغير ثعبان مخيف طوله خمسة أمتار، فلا يخاف هذا الطفل منه أبداً، بل إنه قد يضع يده عليه، فلماذا لا يخاف؟ لأنه لا يدرك.
 فإذا كنت إنساناً عادياً فأعطاك إنسان أقوى منك تهديداً، إن لم تفعل كذا كان عليك ضريبة كذا، فتجد الناس قبل آخر السنة يتدافعون لدفع الضرائب، لماذا؟ لأن الذي أوعدهم بدفع غرامةٍ كبيرة لا يرحمهم أحياناً، فقراره قطعي، فتجد الناس يتجمعون زُرافاتٍ ووحداناً، وذلك لأنهم صدقوا، يقول الله عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ هذا كلام من؟ هذا كلام خالق الكون فقد تصدق إنساناً مثلك لأنه أقوى منك فلا تحيد عن أمره قيد أنْمُلة، وتعتقد أنه إذا قال فعل، لذلك الشيء الذي يدعو للعجب والأسف في آن واحد أن الناس قد ينضبطون مع إنسان، ولا ينضبطون مع الواحد الديَّان، فنراه ينضبط انضباطاً تاماً مع مخلوق لأنه أقوى منه، فهو يظن أنه لن يتفلَّت من قبضته، فيُطَبِّق الأمر بحذافيره التامة وبأدق تفصيلاته وذلك خوفاً من العقاب، فما بالك بهذا الإله العظيم؟
 

سعة الكون:


 إن مجرَّتُنا درب التبّانة تحوي تقريباً مليونَ مليون مجرة في الكون، وهذه معلومات قديمة، ومجرتنا مجرة متوسطة فيها نقطة واحدة هي المجموعة الشمسية، فإذا كبَّرناها لرأينا أن في المجموعة الشمسية ثلاثة عشر ساعة ضوئية، ومن شهر تقريباً قيل في الأخبار أنهم أرسلوا مركبة إلى المشتري، وهذه المركبة سوف تسير سبع سنوات إلى هذا الكوكب، بسرعة أربعين ألف ميل بالساعة؛ أي: ستين ألف كيلو متر، والطائرات النفاثة سرعتها 900 كيلو، أسرع الطائرات تصل سرعتها إلى تسعمائة أو ثمانمائة أو سبعمائة أو ستمائة تقريباً، فسرعة الطائرة تتراوح بين ستمائة إلى تسعمائة، وأعلى شيء في السرعات هو تسعمائة، أي: أربعين ألف كيلو متر بالساعة، أو ستين ألف كيلو متر بالساعة، وتستغرق سبع سنوات، ولا زلنا في نقطة على درب التبّانة، والمشتري كوكب ليس ببعيد، فنبتون وبلوتو أبعد منه، فخالق هذا الكون يقول لك: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ فأنت تخاف من إنسان أقوى منك بقليل، وإذا أعطاك أمراً فإنك تنفذه بحذافيره، لكنك لا تخاف من خالق الأكوان!

التعامل مع الحقائق البيانية دليل العقل:


﴿ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ أَضۡعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا(24)﴾

[  سورة الجن ]

 هناك دائماً وعد ووعيد، وهناك تأويلٌ لهذا الوعد والوعيد، فالوعد يكون بالخير، أما الوعيد فهو بالعقاب، وبعد الوعد والوعيد هناك تنفيذ لهذا الوعد والوعيد، فالعقلاء يصدِّقون الوعد والوعيد، والأغبياء يخافون بأعينهم فقط، والحيوان يخاف بعينه، فلو أن دابةً مثلاً كانت تسير في طريق، وهذا الطريق بعد عدة ساعات مُغلَق، فمهما أسمعتها أن الطريق مغلق فإنها تظل سائرة، أما إذا وجدت حفرة كبيرة فإنها تقف، أما الإنسان فإذا عرف أن الطريق مغلق فإنه لا يكمل الطريق، لأنه يتعامل مع الفكر، والكلام، فكل إنسان يتعامل مع الفكر والكلام والتنبيه والبيان إنسان عاقل، وكل إنسان لا يخاف إلا بعينه ليس بعاقل، فهناك من الناس مَن لا يقتنع أن الدخان مضر إلا حينما يصاب بالسرطان، فتجده يقول: (الله يلعنها)، فيجب عليك أن تصدِّق الأطباء قبل أن تصاب بمرض، تصدقهم وأنت صحيحٌ، معافى، كل إنسان يتعامل مع الخطر مباشرةً هو إنسان معطل عقله، وكل إنسان يتعامل مع الحقائق البيانية هو إنسان ذكي وعاقل، ومن أرقى مستوى.

 مثل:


وقد ضربت مرة هذا المثل: إذا كان هناك راكب درَّاجة يدوية يسير في طريق، وهو يرى طبعاً أن الطريق الهابط مريح جداً له، وأن الطريق الصاعد متعب جداً، فلو وجد أمامه طريقاً نازلاً مُعَبَّداً وكان على أطرافه حدائق، ووجد طريقاً آخر صاعداً غير معبد وكلُّه آكَام وحفر وغبار، وقد كتبت لوحة إلى جانبه تقول: ينتهي هذا الطريق الصاعد بقصر منيف فيه كل شيء، وينتهي هذا الطريق الهابط بحفرة فيها وحوشٌ مفترسة، فهنا يُمتحن عقل الإنسان، فإذا عطَّل عقله فإنه يرى أن النزول أريح، فهذا الإنسان معطِّل عقله، لأنه يعيش لحظته فقط، وإن معظم الناس على هذه الشاكلة، فإذا رأى أحدهم امرأةً جميلةً ملأ عينيه منها، وإذا رأى دخلاً كبيراً مشبوهاً أخذه، وإذا رأى بيتاً اغتصبه وسكن فيه، فهو يعيش لحظته.
 أما العاقل فينظر إلى ساعة فراق الدنيا وهو في الحفرة، وهو في القبر، عندما يسأله الله لماذا طلقت زوجتك؟ ولماذا أكلت هذا المال الحرام؟ ولماذا ابتززت أموال الناس؟ ولماذا كذبت عليهم؟ لماذا احتلت عليهم؟ فامتحِن عقلك بتعاملك مع التحذير البياني، أم مع الخطر الحقيقي الذي أمامك؟ فما هو العقل؟ قال بعض من عرَّفه: هو أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، فمتى يصلح أكثر الناس مدافئهم؟ عند البرد -وأنا واحد منهم- لكن الإنسان أحياناً قد يهيئ الأمور كلها وهو في شهر الصيف، فكل إنسان يتعامل مع الخطر حين وقوعه يكون ذا تفكير ضعيف.
﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ﴾ فيقول: الآن جاءت المشكلة، جاءت المصيبة، جاء الوعيد.
﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً﴾ اعرف قبل فوات الأوان، ولا تعرف بعد فوات الأوان، وقد قال تعالى: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ ويستنبط من هذه الآية أن خيارك مع الإيمان خيار وقت فقط، لا خيار قبول أو رفض، لأن أكفر كفار الأرض فرعون آمن عند الموت، فقال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[   سورة يونس  ]

 فالذي جاء به الأنبياء والرسل والدعاة الصادقون سوف نعرفه جميعاً حتماً عند الموت، لكن هذه المعرفة لا قيمة لها إطلاقاً، بل تزيد الإنسان ندماً، فالمعرفة المفيدة تكون قبل فوات الأوان.
 فلو قدَّم أحد الأشخاص فحصاً وأخذ صفراً في الامتحان، فذهب إلى البيت وفتح الكتاب فعرف الجواب، فقدَّم طلباً يقول: نظراً لمعرفتي الجواب بعد الامتحان يرجى إدراج اسمي مع الناجحين، إن هذا كلام مضحك، لأن كل طالب رسب يعرف الجواب بعد الامتحان، لكن العبرة أن تعرفه وأنت على مقعد الامتحان في الوقت المناسب، وهذه كلمة دقيقة.
﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً﴾ سيعلمون، والآية الكريمة تقول:

﴿  كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)﴾

[  سورة التكاثر  ]

 أي: تعلمون مرةً عند الموت، ومرة يوم القيامة، فهذه الحقائق التي تُلْقَى، والتي جاء بها الأنبياء، وجاء بها الوحي العظيم، سوف يعرفها أهل الأرض قاطبةً، كُفَّارُهُم، مُلْحِدوهُم، فُجَّارُهُم، فُسَّاقُهُم، عُصَاتُهُم.

﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍۢ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[  سورة ق ]

﴿ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ أَضۡعَفُ نَاصِرٗا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)قُلۡ إِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمۡ يَجۡعَلُ لَهُۥ رَبِّيٓ أَمَدًا(25) عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا (26)﴾

[  سورة الجن  ]

 فلا يعلم الغيب إلا الله، وإن أيُّ إنسان يدَّعي علم الغيب هو دجالٌ وكذَّاب، يقول الله عزَّ وجل لنبيِّه وهو صفوته من خلقه: قل لا أعلم الغيب، كما أنه قال:

﴿ قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوٓءُ ۚ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ(188)﴾

[  سورة الأعراف ]

 أما ما جاء به النبي من أشراط الساعة فهذا غيبٌ أطلعه الله عليه، فهو لا يعلم بذاته إلا أن يُعلِمه الله، قال تعالى:

﴿ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدًا(27)﴾

[  سورة الجن ]

 فلو تنبَّأ إنسان في السبعينات بما سيكون في الشرق من انهيار دول عظمى لوُضِع في مستشفى المجانين، لأن هذا كان غيباً وقتها، أما ما الذي حصل بعد ذلك؟ أكبر قوة انهارت، قال تعالى:
﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ فليس هناك وليٌ عند الله -مهما علا شأنه وأظهر من الكرامات- يعلم الغيب، فالاستثناء هنا للرسل فقط، قال تعالى: ﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ أي أن الغيب الذي يُطلِع الله عليه بعض عباده يجب أن يكون رسولاً، أما ما سوى الرسول فلا يعلم الغيب، ومع ذلك قال الله تعالى عن هذا الرسول ﴿فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدًا﴾ أي: معه ملائكةٌ يحفظون هذا الغيب، ولا يستطيع الجن أن يصلوا إلى هذا الغيب، فلا يستطيع الشيطان أو الجن مثلاً أن يسترقوا من النبي ما أوحى الله به إليه من علم الغيب.
﴿فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدًا﴾ الرصد: الحراس، محروسٌ من قبل الله عزَّ وجل، فإذا وضع أحدهم أسئلة فلن يستطيع أحد أن يأخذ منه الأسئلة، وأحياناً قد تُخَصُّ الأسئلة بإنسان ليضعها في الامتحانات العامة، فلا يستطيع أحد أن يستدرجه لأخذ هذا السؤال. 

﴿ لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا(28)﴾

[  سورة الجن ]

النبي عليه الصلاة والسلام أنه ليس وحده هو الرسول ﴿لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ﴾ إنه نبيٌ من الأنبياء، وهناك أنبياء بلَّغوا الرسالة وأدَّوا الأمانة.
 

الإحصاء:


﴿وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً﴾ إن الإحصاء أعظم من العد. 

﴿ لَّقَدْ أَحْصَىٰهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)﴾

[ سورة مريم ]

فإذا قلنا: كم أخ حاضر هنا؟ فالجواب يكون مائة، وإذا قلنا: كم أخ متزوج؟ وكم أخ غير متزوج؟ كم أخ بيته بعيد؟ وكم أخ مطبِّق ما يسمع؟ فهذه الأسئلة تحتاج إلى إحصاء، فالعد سهل، أما الإحصاء فيحتاج إلى دراسات تفصيلية عميقة جداً، فربنا عزَّ وجل عدهم وأحصاهم.
 

مسؤولية التبليغ:


 قال تعالى: ﴿لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ﴾ إن هؤلاء الأنبياء أدَّوا الرسالة، وأقول لكم كلاماً دقيقاً وفيه مسؤولية كبيرة؛ كل واحد منكم سمع الحق صار مسؤولاً عند الله عزَّ وجل، لأن الله عزَّ وجل أخبرنا عن طريق النبي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(( بلِّغوا عني ولو آية. ))

[ صحيح البخاري ]

 فإذا سمعت آية أو حديثاً أو درساً فتأثَّرت تأثراً بالغاً منه، فأهديت شريط هذا الدرس لأخ صديق فلعلَّ هذا الشريط يكون سبب هدايته، فإذا تأثَّرت من درس فعممه، وإذا سمعت آية فسِّرها للناس، وإذا سمعت حديثاً بيِّنه للناس، وهذا أداء الرسالة، وكل واحد منا يجب أن يكون داعيةً إلى الله في حدود ما يعلم، ومع مَن يعرف، فالحد الأدنى يكون في حدود ما يعلم؛ من الذي سمعه، ومع مَن يعرف؛ خاصة نفسه، أما الدعاة الكبار فلهم دعوة عامة كبيرة جداً، وأنت المستمع وطالب العلم مكلَّف بأن تنقل هذا العلم إلى أخصِّ الناس إليك وأقربهم، أي: أولادك وزوجتك، وأولاد عمك، وأعمامك، وأخوالك، ومن معك في العمل من زملاء مثلاً، وجيرانك، فهؤلاء هم خاصة الناس، ولهذه الآية تفسيرات كثيرة، وأوجهها؛ أي: ليعلم النبي أنه ليس وحده هو النبي، وليس وحده هو الرسول، وليس وحده هو المُبَلِّغ.
﴿لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا﴾ فالله عزَّ وجل عندما يحيط بالإنسان، يحيط بكلامه، يحيط بنيَّته، يحيط بهدفه البعيد، يحيط ببواعثه الخَفِيَّة، فالله يعلم كل شيء. 

﴿ إِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾

[ سورة طه ]

فهو يعلم جهرك، ويعلم سرّك، ويعلم ما خَفِيَ عنك، وهذا شيء دقيق جداً، فهو: عَلِمَ ما كان، وعَلِمَ ما يكون، وعَلِمَ ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور