وضع داكن
30-11-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الصف - تفسير الآيات 10- 14، من تاجر مع الله نجا من عذابٍ أليم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

من يطع الله ورسوله فقد فاز بالجنة:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث والأخير من سورة الصف، ومع الآية العاشرة، وهي قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾

[ سورة الصف ]

الآية الأولى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الخطاب موجَّه للمؤمنين، أي يا من آمنتم بي، يا من آمنتم بي خالقاً، آمنتم بي رباً، مسيّراً، آمنتم بي موجوداً، كاملاً، واحداً، هذا هو المنهج، والارتباط دائماً هو أن الإنسان حينما يؤمن بالله يبحث عن طريقةٍ يتقرب فيها إليه، وما من شيءٍ يقربك من الله عزَّ وجل إلا أن تطيعه:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

 

تعريف الوليّ:


التقرُّب إلى الله بطاعته والتزام أمره، قال بعض العارفين بالله: "ليس الولي الذي يمشي على وجه الماء، ولا الذي يطير في الهواء، ولكن الولي كل الولي الذي تجده عند الأمر والنهي" ، "أن يراك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك" والتعريف البسيط الواضح للولي:

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)﴾

[ سورة يونس  ]

إن آمنت بالله، واتقيت أن تعصيه، إن آمنت به وأطعته فأنت وليٌ لله عزَّ وجل، وإذا كنت ولياً لله حقاً فلا خوف عليك، ولا أنت تحزن، لا خوف عليك مما سيأتي، ولا تحزن عما مضى، لأن خطك البياني صاعد صعوداً مستمراً، حتى لو أن الإنسان أصابته الوفاة، الوفاة نقطة على خطٍ صاعد، والصعود مستمر، العلاقة بين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وبين ما بعد يا أيها الذين آمنوا إن كنت آمنت بالله فلا تبحث عن طريقةٍ تتقرب فيها إليه إلا بطاعته.
أحياناً أنت تؤمن بإنسان، تتقرب إليه بطريقة لا ترضيه، بتمجيده دون أن تطيعه، بتعظيمه دون أن تطيعه، فإذا أردتم التقرُّب من الله عزَ وجل فلا سبيل إلى التقرُّب إليه إلا بطاعته، من هنا جاء قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ .
 

التجارة الرابحة هي التجارة مع الله:


إلا أن هذا الآية فيها شيء لطيف، هذه الآية فيها: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾ أولاً: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ فيها استفهام، استفهام تشويقي، أتريد أن تكون في بحبوحة؟ تقول له: نعم، أتريد أن تكون غنياً؟ تقول له: نعم، وكلمة تجارة محببة، التجارة مظنة ربح، والتجارة مظنة غنى، والتجارة مظنة سعادة، والتجارة مظنة فَوز، والتاجر له رأس مال، وله أرباح، فالله سبحانه وتعالى استخدم العبارة المحببة إلى معظم الناس: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾ .
شيء آخر، التجارة فيها رأس مال وفيها ربح، لكن التجارة المألوفة، الربح بالمئة عشرون، ثلاثون، أربعون، خمسون، ستون، سبعون، لكن لا يوجد في الأرض تجارة تقدِّم فيها ليرة تأخذ ملياراً، هذه التجارة مع الله فقط، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾ .
 

النِّعم مِن رأس مال تجارة المسلم:


رأس المال حياتك، رأس المال الصحة، رأس المال الفراغ، رأس المال نعمة الأمن، رأس المال نعمة الكفاية، عندك ما يكفيك، ما يكفيك فقط، حاجاتك مُغَطَّاة، وعندك صحة، وعندك فراغ، وعندك أمن، لذلك لما قال ربنا عزَّ وجل:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)﴾

[  سورة التكاثر  ]

العلماء قالوا: النَّعِيم هو الغنى، والنعيم هو الفراغ، والنَّعِيم هو الأمن، والنَّعِيم هي الصحة، هذه النعَم التي أعطانا الله إياها في الدنيا لتكون رأس مالٍ لنا نتاجر به مع الله، أنت لا تشكو من شيء، لست مضطراً لإجراء تحليل، ولا تخطيط، ولا أشعة معينة، ولا مرنان، ولا شيء من هذا القبيل، ولا زرع كلية، ولا زرع دَسَّام، ولا تغيير شريان، ولا سفر إلى الخارج، صحيح، الأجهزة تعمل بانتظام، الأعضاء سليمة، هذه الصحة التي تتمتع بها ماذا فعلت بها؟ للنوم؟ للتسلية؟ للسهرات؟ للكلام الفارغ؟ للقاءٍ لا يُرضي الله؟ للغيبة والنميمة؟ هذه الصحة ماذا فعلت بها؟ ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ﴾ رأس مالك الصحة، عندك فراغ، عندك عمل إلى الساعة الثانية ظهراً، تأكل طعام الغداء، وتنام قليلاً، ماذا تفعل بعد أن تستيقظ إلى الساعة الثانية عشرة؟ هذا فراغ، يا ترى هل حضرت مجلس علم؟ هل عُدتَ مريضاً؟ هل زرت أخاً في الله؟ هل رعيت يتيماً؟ هل رعيت أرملةً قريبةً لك؟ هل أمرت بالمعروف؟ هل نهيت عن المنكر؟ هل درست باباً في الفقه؟ هل تلوت القرآن؟ هل تعلَّمت تجويده؟ هل تعلَّمت معانيه؟ هل علَّمته للناس؟ ماذا فعلت؟ يوجد وقت فراغ، ويوجد صحة، ويوجد أمن، لست ملاحقاً، الملاحق لا ينام الليل، ينتقل من بيت إلى بيت، قلبه هواء، لست ملاحقاً، ليس عليك مذكرة بحث، لست محكوماً بجرم، طليق، أمن، عندك وقت فراغ، صحيح، عندك قوت يومك، هذه النعم الأربعة هي رأس مالك، كيف تاجرت بها؟ لذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ هذه الآية تُذَكِّرُنا بآية مشابهة، وهي قوله تعالى: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾

[ سورة التوبة ]

الله اشترى منك، ﴿بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ والثمن هو الجنة، فهناك شارٍ وهو الله جلَّ جلاله، وهناك بائع وهو أنت، وهناك ثمن وهو الجنة: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .
أيها الإخوة الكرام؛ هذه آية دقيقة جداً، ينبغي أن تتاجر مع الله، لأن تجارة الأرض ربحها قليل، وأمدها قصير، والنتائج مُحْزِنَة أحياناً، يقول لك أحدُهم: ثلاث سنوات ولم أربح شيئاً، أو ربحنا ربحاً لا يوازي حاجتنا، ثم ربحنا، ثم أُخذت منا ضرائب كثيرة.

من تاجر مع الله نجا من عذابٍ أليم:


 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾ أول ثمن أو أول ربح ﴿تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأن الحركة بلا منهج، الحركة بدافع الشهوات والغرائز، هذه الحركة تنتهي إلى عمل سيئ، والعمل السيئ ينتهي إلى عذاب، فأول ربح أو أول دفعة من حساب الأرباح هي أن المؤمن الذي تاجر مع الله نجا من عذابٍ أليم: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الربح هو النجاة.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾

[ سورة آل عمران  ]

انظر إلى كلمة زحزح، الشيء ثقيل تزحزحه، أما الشيء الخفيف فتنقُلُهُ، النقل سهل، أما طاولة كبيرة، ثقيلة جداً فتزحزحها، لأن الزحزحة هذا فعل ثنائي مضعف للشيء الثقيل: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ .
 

كلُّ شيء يبدو جليًّا حين العرض على الله:


أيها الإخوة الكرام؛ نحن في الدنيا الأوراق متداخلة، الآن في أي حيّ تجد أُناسًا كثيرين يسكنون البيوت، يأكلون، ويشربون، ويتمتعون، وينامون، ويسافرون، ويتاجرون، ويربحون، ويقيمون الولائم والحفلات والأعراس، إلخ، بعضهم مؤمن، بعضهم منافق، بعضهم يعصي الله، بعضهم مؤمن بالآخرة، الأوراق متداخلة، أما حينما يُفْرَزُ الناس إلى فريقين مؤمن وكافر، مستقيم ومنحرف، طائع وعاصٍ، محسن ومسيء، مخلص وخائن، حينما يفرزون، وحينما يتعذَّب أهل النار بالنار، وحينما ينعم أهل الجنة بالجنة، قال عليه الصلاة والسلام لرجل: كيف أصبحت يا زيد؟ قال: أصبحت مؤمناً ورب الكعبة، قال: إنَّ لكل شيءٍ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: أصبحت وكأني بأهل الجنة يتنعَّمون، وبأهل النار يتصايحون، فقال عليه الصلاة والسلام: عبدٌ نوّر الله قلبه بالإيمان عرفت فالزم.
إدراكه الدقيق والعميق نقله إلى المصير، إذا أنت رأيت إنساناً يسرق ويرتكب الجرائم، تقول: هذا نهايته إلى حبل المشنقة، هذا ليس علم غيب، ولكن علم بالقوانين، فهذا الصحابي الجليل رأى أهل الجنة في الجنة يتنعَّمون، أي شاب يحضر مجلس علم، يضبط جوارحه، يضبط عمله، يضبط لسانه، يصدق ولا يكذب، يتحرَّى الحلال، ينفق ماله في طاعة الله، يبحث عن امرأةٍ صالحة ينجب منها أولاداً طيبين، هذا الشاب الذي يتحرَّى الحلال هذا مصيره إلى الجنة، فكأني بأهل الجنة يتنعمون؛ وإنسان من ملهى إلى ملهى، ومن معصية إلى معصية، ومن فجور إلى فجور، يأكل ما ليس له، يعتدي على الناس بلسانه، ينهش أعراضهم، هذا إلى النار مصيره، فلذلك ليست هناك تجارة على وجه الأرض تربح كالتجارة مع الله عزَّ وجل.
الإنسان عندما يطلب على عمله الصالح أجراً يكون قد أخذ أبخس الأجور، إذا خدمت إنساناً، خدمت مؤمناً، علمته القرآن، علمته شيئاً، وتقاضيت أجراً، هذا الأجر إذا قِيس بما أعدَّه الله لك فهو أبخس أجر، فكلما كان إيمانك بالله أكثر تدخره عند الله عزَّ وجل، تجد المؤمن يبني حياته على العطاء، حياته كلها عطاء، لأنه يطمع برحمة الله، يرجو ما عند الله، المؤمنون يرجون رحمته، ويخافون عذابه.

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص ]

لو أنك لاحظت إنساناً إيمانه بالآخرة ضعيف، أو إيمانه بالآخرة معدوم، لا يتحرك حركة بلا أجر، لا ينطق بكلمة بلا نسبة، بلا عمولة، بلا مكسب، أما المؤمن فيخدم الناس جميعاً، ويبتغي بخدمتهم وجه الله عزَّ وجل، يبتغي بخدمتهم القُرب من الله عزَّ وجل.
فلذلك محور درس اليوم: التجارة مع الله، رأس مالك الصحة، والأمن، والفراغ، والكفاية.

(( عن سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. ))

[ رواه البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي في "السنن"  وقال : حسن غريب ]

الدنيا بحذافيرها، ولا تندم على شيءٍ فاتك من الدنيا، لأنك إذا أردت الخير بحذافيره فكن مع الله، ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء. 
 

العمل الذي ينتهي عند الموت لا قيمة له:


هذه التجارة مع الله رأس مالها معروف، بقي الإنسان يتحرك برأس ماله حركة ينتج عن هذه الحركة ربح فائض عن رأس المال، أما ما قولك بإنسان ينفق من رأس ماله؟ شخص معه مليون ليرة، ممكن بتجارة معقولة هذا الرأسمال أن ينتج له مئة ألف مثلاً، أما لو بدأ ينفق من رأس ماله إلى أن انتهى رأس ماله؟! هذه الحالة أن تنفق من رأس مالك كيف نفهمها؟ فالإنسان يعيش، يأكل، ينام، دخل إلى مركز عمله، حقق ربحاً، اشترى طعاماً، لبس الثياب، ذهب في نزهة، أقام وليمة، هذا الوقت يستهلكه، هذا الذي يُنفق الوقت استهلاكاً هو يأكل من رأس ماله، لأن رأس مالك هو الوقت، والوقت محدود، الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، ما هي إلا أيام تمضي، سنوات تمضي، عقود تمضي، فإذا نعوته على الجدران، انتهى رأس ماله، استهلك عمره استهلاكاً رخيصاً، يقول لك: أكلنا، وشربنا، ولبسنا، وسكنا، وعمَّرنا، وتاجرنا، وربحنا، وزوجنا أولادنا، وسررنا، ثم انتهى، ماذا فعلت للآخرة؟ فهذا الذي يمضي الوقت في المباحات، دعك من المعاصي والآثم، أنا أتحدَّث عن المباحات، لم تقترف معصية، إلا أن هذا الوقت استخدمته وأمضيته فيما لا يعود عليك خيره بعد الموت، اعمل الموت حداً، أيّ حركة في الأرض إن عملتها تنتهي عند الموت هذه من الدنيا، أما أي حركة إن استمرَّت بعد الموت فهذه للآخرة.
لو تعلمت القرآن لِما بعد الموت، لو أمرت بالمعروف، نهيت عن المنكر، لو علّمت القرآن، لو ضبطت كل جوارحك، لما بعد الموت.
دائماً عندنا قاعدة: العمل الذي ينتهي عند الموت من الدنيا، ولا قيمة له مهما كان جليلاً، والعمل الذي يستمر أثره إلى ما بعد الموت هو من الآخرة، من هو الرابح؟ هو الذي يعمل عملاً يستمر أثره إلى ما بعد الموت.
فلذلك التجارة مع الله أن تنفق الوقت إنفاقاً استثمارياً، لا إنفاقاً استهلاكياً، أن تنفق الوقت بعملٍ يعود عليك خيره بعد انقضاء الزمن.
فلذلك حينما يموت الإنسان ينتقل فجأةً من بيتٍ فخمٍ إلى حفرةٍ صغيرة، من كل شيء إلى لا شيء، هذا لا شيء مبدئياً، أما ينتقل من كل شيء إلى المحاسبة على كل شيء، من هنا العلماء فرَّقوا ما بين الرزق وبين الكسب، الرزق ما انتفعت به فقط، والكسب ما كان في حوزتك، ولم تنتفع به، وسوف تحاسب عليه.
 

العاقل من لا يسمح للدنيا أن تستهلكه:


فيا أيها الإخوة الكرام؛ لا تسمحوا للدنيا أن تستهلكم، لأن الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾

[ سورة الفرقان ]

أحياناً عمله يستهلكه، من عمل إلى عمل، من صفقة إلى صفقة، من تجارة إلى تجارة، جاءه خبر مؤلم جداً أصابه بجلطة ومات، من تشعبت به الهموم لم يبال الله بأي أوديتها هلك، تجده يموت لسبب تافه جداً، أما المؤمن الذي اقتطع من وقته الثمين وقتاً لمعرفةً الله هو الذي يمشي على الأرض هوناً، لا يسمح للدنيا أن تستهلكه، لا يسمح لهموم المعاش أن تسحقه، لا يسمح لمتاعب الدنيا أن تصرفه عن الآخرة، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، فلذلك العبد المؤمن يمشي على الأرض هوناً، يتأمَّل، يفكر، تجد شخصاً مسحوقاً بالهموم، الهموم كابوس سحقته حتى العَظْم، أما المؤمن فيعرف الله عزَّ وجل، يرضى من الدنيا بالقليل، لكن يطمع في الآخرة بالكثير، ما هي التجارة؟ ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ .
﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾ رأس مالها عمركم، رأس مالها الوقت الذي أنتم فيه، ظرف أعمالكم، رأس مالها الصحة، رأس مالها الفراغ، رأس مالها الأمن، رأس مالها الكفاية، هذا رأس المال، الربح الأولي: ﴿تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ هناك دفعة ثانية تأتي بعد قليل.

  الإيمان مرتبة عالية:


 لكن ما هذه التجارة؟ قال تعالى: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ بربكم، إنسان ما فكر لحظة في حياته أن يؤمن بالله، عادي، هذا الشيء الذي يأتيك عفو الخاطر، كنت بعقد قِران سمعت كلمة من خطيب، حضرت خطبة الجمعة، لحقت الركعة الأخيرة، هذا السلوك لا يصنع إيماناً، هل هناك إنسان في الأرض صار طبيباً من دون جامعة؟ من دون دوام؟ من دون قراءة؟ من دون متابعة؟ من دون مذاكرة؟ مستحيل، مرتبة الإيمان مرتبة عالية جداً، هناك مَن يدرس ثلاثاً وثلاثين أو أربعين سنة، حتى يضاف لاسمه حرف الدال، دكتور، أحياناً ينسون أن يقولوا له إياها فينزعج أشد الانزعاج، يقولون له: الأستاذ فلان، فيقول: أنا دكتور، ولست أستاذاً، كأنهم أهانوه، ثلاث وثلاثون سنة دراسة لكي يضاف إليه حرف الدال، وهذه تنتهي عند الموت، أما لكي تكون مؤمناً هذه مرتبة إلهية، هذه تنفعك إلى أبد الآبدين، هذه مرتبة أخلاقية، هذه مرتبة علمية، مرتبة جمالية، المؤمن أسعد الناس، والمؤمن عالم، وما اتخذ الله ولياً جاهلاً، والمؤمن أخلاقي، فمن أجل أن تسعى إلى مرتبةٍ تنفعك إلى أبد الآبدين، مرتبة الدنيا، يقول لك: ثلاث وثلاثون سنة، سبع سنوات الدكتوراه، الأطروحة في ألف صفحة، ناقشوني فيها بسنة، من أجل أن يقال لك في الدنيا: دكتور، وعند الموت ينتهي كل شيء، أما كلمة مؤمن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هذه مرتبة قرآنية، هذه مرتبة يمنحها الله لعباده الصالحين، هذه مرتبة تنفعك بعد الموت إلى أبد الآبدين، ألا تحتاج إلى وقت؟ يقول لك بعضهم: ليس عندي وقت، إذاً عندك وقت لأي شيء؟ إذا لم يكن عندك وقت تعرف ربك فيه، ما عندك وقت لكي تعرف كلامه، تعرف منهجه، تعرف سنة رسوله، تعرف سيرة رسوله، تعرف أحكام الفقه، إذا لا وقت عندك لكي تعرف دينك، ابن عمر، دٍينك، دينك، إنه لحمك ودمك.
 

الإيمان يحتاج إلى علم وجهد ومذاكرة:


كيف تنجو من عذاب الله؟ كيف تعرف الحق من الباطل والخير من الشر؟ ما ينبغي وما لا ينبغي؟ هل يمكن لإنسان أن يتقن شيئاً من دون جهد؟ هل يمكن لإنسان أن يلقي كلمة أمام ألف شخص أو مئة شخص ولا يكون متقناً للغة العربية؟ يقول لك: إلى أن أخذنا الليسانس مثلاً كذا سنة، ما مِن إنسان يصل إلى شيء إلا وقد بذل جهداً كبيراً، كيف الناس مقتنعون في الإيمان بالسماع، سماع عشوائي، حضور عشوائي، تلقّ عشوائي بلا تركيز، بلا متابعة، بلا تدقيق، بلا تأمُّل، فالله عزَّ وجل قال: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ هناك جلسات لابد من أن تجلسها، جلسات تفكر، جلسات تأمل، جلسات مذاكرة، أن تجلس على ركبتيك في مجلس علم، أن تقرأ القرآن، أن تفهم القرآن، أن تعمل بالقرآن، أن تنطق بالقرآن، أن تفهم شرح النبي الكريم لهذا القرآن، أن تعرف سنته، سيرته، أحكامه الشرعية، هذا وقت أساسي جداً، لا شيء يعلو على هذا الهدف أبداً.
أحياناً مثلاً إنسان مشغول جداً، غارق في أعمال لا تنتهي، لا سمح الله ولا قدر يُصاب بمرض، يحتاج إلى مداواة، إلى تصوير، إلى تحليل، إلى أن يستشير أطباء، أو إلى أن يسافر، تجده ترك كل أعماله، جَمَّد كل مواعيده، ألغى كل برامج أعماله، يقول لك: هذا جسم، عين، قلب، تجده ترك كل أعماله من أجل الحفاظ على سلامة قلبه، أو على سلامة عينيه، أو على سلامة عضو من أعضائه الأساسية، تجده ألغى كل مواعيده، ألغى كل برامج أعماله، ألغى كل لقاءاته، من أجل أن تحافظ على آخرتك التي لا تنقضي إلى أبد الآبدين ألا يحتاج أن تقتطع من وقتك وقتاً لمعرفة الله؟ لا يكفِ أن تحضر مجلس علم، يجب أن تتابع، يجب أن تذاكر الدرس.
الإنسان يتلقى أحياناً، كونه لا يوجد امتحان، لا يوجد مسؤولية، ينسى، أما لو أنك جلست بعد الدرس مع أهلك، مع أصدقائك، مع إخوانك، راجعت ماذا قيل في هذه الآيات حتى ترسخ، من أجل أن تملكها، أنت الآن لا تملكها، كل شيء تستمع إليه من دون جهد لا تملكه، قد يحضر الإنسان ثلاثين سنة، يسمع ثلاثين سنة دروسًا، يقول لك: والله لا أذكر شيئاً، والله دروس جميلة، ولكني لست متذكراً منها شيئًا، لو اضطر أن يتكلم كلمة ليس عنده شيء يتكلم به، أما عندما يراجع الدرس، يقرأ الآيات، يتذكر ماذا قيل في هذه الآيات، يكتب كلمتين، سمع حديثاً كتبه، سمع آية كتبها، صار عنده شيء يتكلم به، جلس في مجلس فتكلم كلاماً أثّر في الآخرين شعر أنه عمل عملاً طيباً، فالإيمان يحتاج إلى وقت، وإلى جهد، وإلى مركز علمي، وإلى منهل علمي، وإلى مصدر علمي، وإلى كتاب تقرؤه، وإلى إنسان تُذاكر معه، هذا معنى: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ تجده يؤمن بالله وليس في سلوكه ما يشير إلى ذلك، طبعاً إبليس يؤمن بالله، قال: 

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾

[ سورة ص  ]

لكنه هو إبليس، أنا أريد إيماناً بالله يرقى بك إليه، إيماناً بالله يحملك على طاعته، إيماناً بالله يسعدك بقربه، إيماناً بالله يبعدك عن معصيته، هذا الإيمان المطلوب: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ .
 

مواطن المجاهدة:


الآن يوجد شيء ثان: ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ المجاهدة فيها بذل جهد، يوجد صلاة فجر، صلاة فجر في جماعة، يوجد غض بصر والنساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، والنفس تشتهي أن تنظر، يوجد ضبط لسان، يوجد ضبط دخل، الدخل مضبوط، أحياناً يأتيك المال وفيراً من طريقٍ حرام تقول: معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين، تؤْثر دخلاً قليلاً نظيفاً طاهراً حلالاً على دخلٍ كثيرٍ مشبوه، ففي هذا جهد، الجنة لها ثمن باهظ، لا تجد إنساناً ينام إلى الساعة الثانية عشرة يستيقظ ومعه دكتوراه، يقول لك: متنا موتاً، لا يوجد إنسان يصبح تاجراً كبيراً وهو نائم، الناجحون في الحياة بذلوا جهداً كبيراً جداً، هذا في الدنيا فكيف في الآخرة؟! ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ لابد من وقت تطلب فيه العلم، تقتطع من وقتك وقتاً ثميناً، الآن أكثر الناس يحضر درس علم إذا كان لديه وقت فراغ، الأصل برنامج حياته، أما المؤمن فبالعكس، يبرمج حياته وفق مجالس العلم، هذا الوقت لله، درس الجمعة لله، درس الأحد لله، درس الاثنين لله، الخطبة أبداً، يبرمج حياته، مواعيده، لقاءاته، حتى نزهاته، يبرمجها وفق مجالس العلم، لأنه يطلب سلسلة، آية وراء آية، حديثاً وراء حديث، موضوعاً وراء موضوع، أولاً: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ هل عرفت رسول الله؟ هل عرفت أمره ونهيه؟ لما يقول ربنا لك: 

﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾

[ سورة الحشر  ]

هل عرفت أمره ونهيه؟ كيف تطبق هذه الآية إن لم تعرف أمره ونهيه؟ ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ يجب أن تؤمن بالله خالقاً، بالله رباً، بالله مسيِّراً، بالله موجوداً، بالله واحداً، بالله كاملاً، أن تؤمن بأسمائه الحُسنى، وصفاته الفضلى.
هذه الآية دقيقة جداً إخواننا الكرام، أي تحتاج إلى وقت، إلى جهد، إلى مكان، إلى منهل علمي، إلى مصدر موثوق، ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ يجب أن تعرف الله، وأن تعرف رسول الله، لأنه أخبرك عن الله، بيَّن لك آيات الله، بيَّن لك أحكام الشرع، افعل ولا تفعل، الآن هناك جهد، وهناك إيمان، سماع، تأَمُّل، تفكُّر، دراسة، متابعة، مذاكرة، وقت، مكان، معلِّم، هذه: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ .
 

المجاهدة حركة تكليفية مناقضة للطبع:


الآن هناك حركة: ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ﴾ يوجد دفع زكاة، يوجد غض بصر، يوجد صدق، يوجد ضبط لسان، ضبط جوارح، هذه المجاهدة، ودائماً أحكام التكليف  تتناقض مع طبع الإنسان، الطبع يدعوك إلى أن تنام، والتكليف يأمرك أن تستيقظ كي تصلي، والطبع يدعوك إلى أن تنظر، والتكليف يأمرك أن تغض البصر، والطبع يأمرك أن تتحدث عن قصص الناس، والتكليف يأمرك أن تسكت، أبداً كل التكاليف تتناقض مع الطبع، من أجل أن ترقى.
أحياناً التكليف يأمرك أن تكسب الحلال، والحلال صعب وقليل، بينما الطبع يدعوك إلى أن تكسب الحرام الكثير، فجأةً تشتري بيتاً فخماً، مركبة فخمة، بيتاً في المصيف، تعمل، تلبس أرقى الثياب، تبدو أمام الناس عظيماً، غنياً، لكن مِن دخل حرام، هذا الطبع يدعوك إلى ذلك، أما التكليف فيأمرك بتحري الحلال: من بات كالاً مِن طلب الحلال بات مغفوراً له، لما أنت تخالف طبعك، وتتقي الله عزَّ وجل، هذا السلوك يتوافق مع الفطرة، ترتاح، تسعد.
الطبع بادئ ذي بدء يُناقض التكليف، أما التكليف فيوافق الفطرة، تجد المؤمن سعيداً، دخل الامتحان فنجح فيه، عندئذٍ يؤتيك الله الدنيا والآخرة معاً.
 

الجمع بين المجاهدة بالمال والنفس:


﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ أحياناً الإنسان يجاهد بماله، أخي مئة ألف للجامع الفلاني، مئتا ألف للمحل الفلاني، للميتم خمسمئة ألف، شيء جميل، بارك الله بك، وكَثَّرَ من أمثالك، ونفع بك، لكن غض بصرك لنرى، يقول لك: هذه صعبة، والله لا أقدر عليها، هذه فوق طاقتي، معنى ذلك أنه ما جاهد بنفسه، هذا جاهد بماله، ولم يجاهد بنفسه وهواه: ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ العمل الصالح مقبول، وله عند الله شأن كبير، لكن ما أجمله أن يجمع الإنسان بين بذل المال وبين طاعة الله في النفس.
 

طاعة الله عزَّ وجل هي الفوز العظيم:


 قال: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إن رأيتم هذا هو الخير فأنتم علماء، وإلا فأنتم جُهَلاء، إن رأيتم التجارة مع الله هي أربح تجارة، إن رأيتم حمل النفس على طاعة الله هو العمل الصحيح، هو الخير المُطْلَق، إن رأيتم أن طاعة الله من يفعلها يفوز فوزاً عظيماً فهذا الذي يعلم، ومن رأى أن في معصية الله فوزاً فهو الذي يجهل، أنت بكل بساطة لو أن إنساناً يحمل أعلى شهادة في العالم يرى المغنم في المعصية جاهل، مدموغ بالغباء والجهل، إنسان آخر يرى أن طاعة الله عزَّ وجل هي الفوز العظيم، وأن القرش الحلال هو الشيء الثمين، وأن ضبط الجوارح هو أعظم ما عند الله عزَّ وجل، هذا هو العالم، لذلك: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .
 

أثمان التجارة مع الله:


الآن ثمن آخر لهذه التجارة مع الله، أول ربح: ﴿تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ التجارة:

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)﴾

[ سورة الصف ]

إذاً: نجاةٌ من عذابٍ أليم، ومغفرةٌ للذنوب جميعاً، ودخول جنةٍ عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فربح التجارة نجاةٌ من عذابٍ أليم، ومغفرةٌ للذنوب، ودخول لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، و: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .
شيء آخر في الدنيا قبل الآخرة.

﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾

[ سورة الصف ]

فصار هناك ثمن مؤَجَّل وثمن مُعَجَّل، فالنصر في الدنيا ثمن معجل، وفتحٌ قريب، وفي الآخرة نجاةٌ من عذابٍ أليم، ومغفرة الذنوب، ودخول لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، هذا إذا كنتم: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ .

  كيفية نصر دين الله عز وجل:


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)﴾

[ سورة الصف ]

الله عزَّ وجل غنيّ عن أن ننصره، لكن نُصرة دينه نصرٌ له، أن تنصر دينه، إذا طبَّقت أمره نصرت دينه، إذا أمرت بالمعروف نصرت دينه، إذا أقمت الإسلام في بيتك نصرت دينه، إذا أقمته في عملك نصرت دينه، إذا تواصيتم بالحق نصرتم دينه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ هو حسب السؤال: ﴿مَنْ أَنصَارِي﴾ فينبغي أن يكون الجواب: نحن أنصارك، قالوا: ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ﴾ لأنك إذا نصرت النبي نصرت الله، وإن خذلته وقعت في إثمٍ كبير، لأن الأنبياء والمرسلين والدعاة الصادقين ليس لهم نفسٌ يعملون لها، هم يبتغون وجه الله عزَّ وجل، فلذلك: ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾ آمنت طائفة بسيدنا عيسى عليه السلام ونصرته، وكفرت به طائفة: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ .
 

المتاجرة مع الله رأس مالها بين أيدينا:


فلذلك إخواننا الكرام؛ محور هذا الدرس: أولاً: أن نتاجر مع الله، لأنها أربح تجارةٍ على الإطلاق، ورأس مالها بين أيدينا، الآن إذا قال لك أحدهم: والله هناك ربح طائل، لكن لا يوجد معنا رأس مال، أي مشروع يحتاج إلى خمسة أو ستة ملايين، عشرة ملايين، مئة مليون، فيه ربح، ولكن هل معك مئة مليون؟ لا يوجد رأس مال، لكن هنا يوجد رأس مال، ألا تعيش؟ ألست سليماً معافى؟ أليس لديك وقت فراغ؟ هل أنت ملاحق؟ لست ملاحقاً، تتمتع بنعمة الأمن، ونعمة الصحة، ونعمة الفراغ، عندك قوت يومك فقط؟ نعم، قوت اليوم والصحة والفراغ والأمن هذا هو رأس مالك، وتعيش.
الربح: النجاة من عذابٍ أليم، مغفرة الذنوب جميعاً، الدخول إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذا كلام ربنا، كلام خالق الكون.

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾

[ سورة النساء ]

﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .
 

على الإنسان أن يكون نصيراً لله عزَّ وجل:


شيء آخر؛ يجب أن تكون نصيراً لله عزَّ وجل، أنت إن صلَّيت نصرت الله، أذَّنَ المؤذن فدخلت وصليت، شيء جميل جداً، كنت صادقاً، أمرت بالمعروف، نهيت عن المنكر.
توفي عالم في منطقة الزبداني، لم يبق في كل هذه البلدة وما حولها إنسان إلا وخرج في جنازته، ماذا فعل؟ قال: هذا العالم أي إنسان أجرى عُرساً مختلطاً يقاطعه مقاطعةً تامة، إلى أن ألغى هذه البدعة في المنطقة، ذكروا لي عنه أشياء لطيفة جداً، كان صادقاً ومخلصاً مع الله عزَّ وجل، أنت انصر الحق، لا تجامل إنساناً منحرفاً منحلاً أخلاقياً، لا تُعظمه أمام الناس، لا تمدحه.
أحياناً يكون لأحدنا أخ بعيد عن الدين بعداً كبيراً، لا يزال يثني عليه، وعلى لطفه، وعلى ذكائه، وعلى غناه الشيء الكثير، ضاع الناس، إن الله ليغضب إذا مُدِحَ الفاسق، انصر دين الله عزَّ وجل، أقم حدود الله، أقم الإسلام في بيتك، وإذا نصرت رسول الله فقد نصرت الله: ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ .
 

على الإنسان أن يحاسب نفسه كل يوم حساباً دقيقاً:


أيها الإخوة الكرام هذه السورة مباركة، ويمكن أن تُحفظ، وأن تتلى في الصلاة، والإنسان دائماً يذكر هذه التجارة، كل يوم يحاسب نفسه حساباً دقيقاً، ماذا فعلتُ من تجارتي مع الله؟ رأس المال معك موجود، رأس المال معك تملكه، صحتك وفراغك، وأمنك وكفايتك، ماذا تفعل بهذا الوقت؟ ماذا تفعل بهذه الصحة؟ هل صلَّيت بها؟ هناك إنسان يسترخي، يتمتع، يفعل ما لا يرضي الله، يستخدم صحته، وفراغه، ونعمة الأمن، وكفايته فيما لا يرضي الله عزَّ وجل، فلذلك الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، الإنسان زمن، والزمن إما أن يُنفق استهلاكاً، وإما أن ينفق استثماراً.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور