وضع داكن
30-11-2024
Logo
الدرس : 06 - سورة النور - تفسير الآيات 16 – 22 إذا وقعت الوقائع وجب الاستسلام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس من سورة النور.

 بدأنا في الدرس الماضي بالحديث عن موضوع الإفك، وقد جاءت آيات بينات تصف هذا الحديث، وتبرئ السيدة عائشة رضي الله عنها، وتضع للمؤمنين منهجاً عليهم أن يطبقوه في قضايا اجتماعية مشابهة لحديث الإفك.


ورودُ القصة في القرآن للعبرة والاستنباط لا لذكر الأحداث:


 بادئ ذي بدء القصة التي ترد في القرآن الكريم ليست مقصودة لذاتها، إنما المقصود أن يُستنبط منها أحكام وآداب تكون منهجاً للمؤمنين في تعاملهم مع مثل هذه الموضوعات، ولم ترد قصة في القرآن الكريم ما لم تكن قصة نموذجية تمثل نماذج بشرية متكررة، فليس المقصود هذا الحديث بقدر ما هو المقصود أن نستنبط منه الأحكام، والآداب، والمنهج الصحيح لتعاملنا مع بعضنا البعض فيما لو وقع مثل هذا الحديث.


البطولة في تفسير الحوادث والوقائع:


 يقول الله سبحانه وتعالى:

﴿  إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11)﴾

[ سورة النور ]

 الموضوع أن الإنسان قد يرى حادثة، أو أن الحادثة إذا وقعت يراها جميع الناس دون استثناء، ولكنهم يتفاوتون في تفسيرها، قد ترى أباً يضرب ابنه، الضرب وقع، والصورة رُسِمتْ على شبكية العين، ولكن الناس متفاوتون في تفسير هذا الضرب، فالأب الذي ينطوي على رحمة بالغة بأولاده يفسر هذا الضرب لمصلحة الأولاد، ويرى إنسان صغير السن في هذا الضرب ظلماً، وإنسان آخر بعيد عن معرفة الأب يرى في هذا الضرب قسوة، وإنسان رابع يرى في هذا الضرب تسرعاً، وإنسان خامس يرى في هذا الضرب تشفياً، فالضرب يراه جميع الناس، ولكن الناس متفاوتون في تفسيره، فالبطولة في التفسير، لأن وقائع الأحداث جميعنا نتساوى في الإطلاع عليها، ولكن كلما ارتقى فهمُ الإنسان، وكلما اقترب من ربه مَلَكَ قدرة على تفسير الوقائع، فربنا عز وجل قال:

﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم﴾ قال بعضهم: رُبَّ ضارة نافعة، والآية الكريمة التي يجب أن تكون أمامنا جميعا:

﴿  وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(216)﴾

[ سورة البقرة ]


الاستسلام لقضاء الله وقدره مع الأخذ بالأسباب:


 عندما يستسلم المؤمن لله عز وجل يستسلم إلى الله استسلاماً كلياً، ومع هذا الاستسلام فهو مُطبّق لأمره، مُنْتَهٍ عن نهيه، يلقي الله سبحانه وتعالى حينئذ في قلبه الأمن والطمأنينة، فأي شيء جاءه يقول: لابد أن يكون الخير كامناً فيه، فإما أن يرى الخير ظاهراً فيه، أو ألا يرى فيه خيراً ظاهراً، فلابد من خير كامن، وقد علمنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((  عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، لَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ وَكَانَ خَيْرًا. ))

[  مسلم  ]

 فتطبيقاً لهذه المقدمة كُلّ واحد منّا في حياته، وفي زواجه، في عمله، في دخله، في صحته، هناك عوارض، هناك أشياء مزعجة، وأشياء مسرة، أشياء مقبولة، وأشياء غير مقبولة، أشياء تدفع إلى الألم والحزن، وأشياء تدفع إلى الضيق، هذه الأشياء المحزنة أو المفرحة التي تدفع إلى الضيق أو إلى السرور، التوفيق في الزواج أو عدم التوفيق، نشأت مشكلة أو لم تنشأ، فاحت قضية، فاحت سمعة سيئة أنت منها بريء، والله يعلم أنك بريء، مثل هذه القضايا التي تتكرر، والتي تحدث في المجتمعات، بل في مجتمعات أهل الإيمان ينبغي أن تُفسَّر في ضوء هذا الحديث، في ضوء حديث الإفك: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ فكل شيء قبل أن يقع افعل ما تشاء، تلافى وقوعه، وقد أعطاك الله عقلاً، لذلك فالقضاء والقدر نوعان، عندما كان سيدنا عمر رضي الله عنه في طريقه إلى الشام علم أن في الشام وباءً، مرضاً وبيلاً، فبعض أصحابه اقترح عليه أن يدخل الشام، ولا يبالي، فقضاء الله وقدره لا مفر منه، وبعض أصحابه اقترح عليه ألا يدخل الشام أخذاً بالأسباب، فامتنع سيدنا عمر بعدئذ عن دخول الشام، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين؛ أتفر من قضاء الله ؟ فقال: << نعم، أفرّ من قضاء الله إلى قضاء الله >> ، ثم قال قولته الشهيرة يخاطب هذا المعترض: << لو أن هناك واديين من المرعى، واد معشب وواد مجدب، فأنت إذا رعيت غنمك بالوادي المعشب رعيتها بقضاء الله وقدره، وإن رعيتها بالوادي المجدب رعيتها بقضاء الله وقدره >>، فأنت ماذا تفعل؟ تفر من قضاء الله إلى قضاء الله، فالإنسان قبل أن تقع الأمور عليه أن يأخذ بالأسباب.

فمثلا: إن كان هناك شبح مرض من باب أولى أن يتداوى الإنسان، ويأخذ بالأسباب، أو إن كانت هناك قضية في طريقها إليك فعليك أن تتلافاها، فقبل أن تقع الأشياء يجب أن نُحكّم العقل، ويجب أن نحكم الأسباب، ويجب أن نأخذ بها، لكن بعد أن تقع الأمور يجب أن نعتقد أن هذا الذي وقع هو بقضاء الله وقدره، وأن قضاء الله وقدره خير كله للعباد، لذلك قيل: الإِيمَانُ بِالْقَدَرِ يُذْهِبُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ. 


محاولة تفادي الأمور قبل وقوعها: اعقلْ وتوكَّلْ:


 فاليوم هناك في الدرس شيء جديد، فالأشياء قبل أن تقع عليك أن تتلافاها، الأشياء المؤلمة المزعجة، فلو فرضنا أن إنساناً يسير مع امرأة في الطريق، وهو أعزب، فرآه صديق له فليقل: هذه أختي يا أخي، وقد قال النبي الكريم: هذه زوجتي، فالإنسان عليه أن يدفع عن نفسه كلام الآخرين، رحم الله عبدا جب المغيبة عن نفسه، فإذا كنت مسافراً، ووكلت قريباً لزوجتك قد يكون أخاها، ليتفقد أمور البيت، فإذا أعلمت الجيران أنك وكلت أخا زوجتك أن يؤمن لأهل بيتك الحوائج فهذا كلام ضروري جدا، لأنك نفيت عن نفسك ما قد يتبادر إلى أذهانهم من أن هذا العمل غير صحيح، فقبل أن تقع الأشياء يجب أن تأخذ بالأسباب، يجب ألا تفعل شيئاً له تفسيران، يجب أن توضح للناس كل شيء، البيان يطرد الشيطان، في تعاملك المالي، في تعاملك مع النساء، في تعاملك الدقيق يجب أن توضح، لأن التوضيح والبيان يطردان الشيطان، ولكن إذا أخذت بكل الأسباب ووقعت مشكلة، الآن ليكن هذا الحديث؛ حديث الإفك أسوة لك في حياتك، هذا قضاء الله وقدره، فلا مفر من قضاء الله وقدره إلا بالتوضيح، والله سبحانه وتعالى يتولى الدفاع عن المؤمنين، لقول الله عز وجل:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) ﴾

[ سورة الحج ]

 فهذا يفيدنا في أن كل مشكلة تقع في محيط الأسرة قبل أن تقع عليك أن تتلافى وقوعها، انطلاقاً من حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:

((  يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهَا - أي ناقته - وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا، وَأَتَوَكَّلُ ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا، وَتَوَكَّلْ. ))

[ الترمذي. ]


إذا وقعت الوقائع وجب الاستسلام:


 انطلاقا من هذا التوجيه النبوي عليك أن تعقل، ثم تتوكل، عليك أن تأخذ بكل الأسباب، ثم تتوكل على رب الأرباب، هذا قبل أن تقع المشكلة، لكن إذا أخذت بكل الأسباب، ثم وقعت، فهذا من قضاء الله وقدره، لذلك يتولى عندئذ ربنا سبحانه وتعالى الدفاع عنك، ويتولى تبرئة البريء، وإدانة المتهم ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فربنا عز وجل يعامل الناس بميزان دقيق جداً، حديث الإفك، تولى إنسان ترويج الإفك في المدينة ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ﴾ أيْ أن يشاع هذا الحديث، أن ينتقل من بيت إلى بيت، أن يتفاقم الأمر، هذا الذي يفعل هذا له عذاب عظيم، إنسان آخر سمع، وصدق فهذا له عقاب معين، هذا سمع، ولم يصدق، هذا سمع، وكذّب، هذا سمع، وأحسن الظن بزوجة النبي عليه الصلاة والسلام، فكل موقف له حساب، الأطباء يقولون: ليس هناك مرض، بل هناك مريض، والحقيقة إذا كان في الأرض خمسة آلاف مليون إنسان فكل إنسان يقف موقفاً يوزن بميزان دقيق، ويحاسب عليه. 


لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا

 

 أما:

﴿  وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12)﴾

[ سورة النور ]

 هذه ( لَوْلَا ) حرف حض، بمعنى هلاّ، فيا أيها المؤمنون هلا إذا سمعتم هذا الحديث المفترى ظننتم بأنفسكم خيراً، قستم هذا على أنفسكم، إنكم لن تفعلوا هذا الذي يروج عن صفوان وعن السيدة عائشة، فإن كنتم لا تفعلون هذا فهما لا يفعلانه من باب أولى، هذا معنى، المعنى الثاني أن حسن الظن من صفات المؤمن، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((  حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ  ))

[ أبو داود، أحمد وهو ضعيف ]

 وحسن ظنك بإخوانك المؤمنين دليل على أنك مؤمن، فأنت مؤمن، وتعرف من هو المؤمن، فحسن الظن بالمؤمنين دليل إيمانك، وسوء الظن بالمؤمنين دليل البعد عن الإيمان، لهذا قيل: " من أساء الظن بأخيه فكأنما أساء الظن بربه" ، أنت حينما تسيء الظن بأخيك المؤمن فكأنما تشكك بهذا الدين، وهذا الدين لم يستطع أن يرقى بهذا الإنسان إلى المستوى الأكمل، لذلك من أساء الظن بأخيه المؤمن فكأنما أساء الظن بربه.

﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ لذلك قالوا: نحن نفهم الأشياء كما نحن عليها، أغلب الظن أن الصادق يصدق الناس والكاذب يكذبهم، ذو النية الخبيثة يظن بالناس الخبث، وذو النفس الطيبة يظن بالناس الطيب، الذي ينطلق من إخلاص يظن الإخلاص في جميع الناس، والذي ينطلق من خيانة يظن الخيانة في جميع الناس، فأنت في أغلب الأحوال تنطلق من واقع تعيشه، هذا الواقع ربما تسقطه على الآخرين، فهؤلاء الذين يشككون، ويروجون، ويسيؤون إلى المؤمنين هم في الأصل فاسقون خبيثون، والله سبحانه وتعالى كشفهم للناس، وما حديث الإفك إلا محكٌّ محّص الله به المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)﴾

[ سورة آل عمران ]

 تصور منخلاً فيه حبوب، فالاهتزازات التي يفعلها من يريد أن يمحص هذه الحبوب، ماذا تفعل هذه الاهتزازات؟ الحبة الكبيرة تبقى، والصغيرة تسقط فكذلك ربنا عز وجل يُعرّض المؤمن لبعض الأحداث القاسية، وبعض الهزات، والمشكلات التي تفرز المؤمنين إلى مؤمنين صادقين، وإلى مؤمنين ضعاف، وإلى منافقين، وإلى كافرين، فهذه الأحداث التي تنزعج منها أنت ربما كانت فرزاً نوعياً للناس في زمن ما.


الأصل في الدعاوى والتهم إقامة البينات:


 يقول الله عز وجل:

﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ(13)﴾

[ سورة النور ]

 ففي الأخبار العادية يكفي شاهد واحد، وفي العلاقات المالية لابد من شاهدين، فإن كان أحد الشاهدين امرأة فلابد من امرأتين وشاهد، أما في قضايا العِرض، وقضايا القذف، فلا بد من أربعة شهداء، وموضوع العرض في التعريف الدقيق هو موطن المدح والذم من الإنسان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: 

((  ذُبُّوا عَنْ أَعْرَاضِكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ.  ))

[ رواه الديلمي عن عائشة رضي الله عنها ]

 دافعوا عن أعراضكم بأموالكم، والعِرض أثمن ما يملكه الإنسان، فربنا سبحانه وتعالى جعل القذف في هذا الموضوع يحتاج إلى أربعة شهود، والقضية تسبب تحطيم إنسان في مستواه الاجتماعي، أو رفعه. 


رحمة الله بعباده وفضله عليهم:


﴿  فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14)﴾

[ سورة النور ]

 ربنا عز وجل رحيم، ومن رحمته أنه فتح باب التوبة، ومن رحمته أنه جعل لمن تجاوز الحدود حداً يُقام عليه، هذا الحد الذي يقام عليه هو كفارة له، فكفارة الزنا الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن، فإذا وقع الإنسان في الزنى ورُجم، أو جُلد وتاب من ذنبه توفاه الله عز وجل، وليس عليه شيء، فربنا سبحانه وتعالى جعل إقامة الحد لهذا الإنسان كفارة له، يقول وربنا عز وجل:

﴿  وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(20)﴾

[ سورة النور ]

 ومن علامات الإيمان أن ترى فضل الله عليك دائماً، فضّل الله عليك إذ أوجدك، ولم تكن شيئاً مذكورا، هذه نعمة الإيجاد، وفضّل الله عليك إذ أمدك بما تحتاج من طعام، وشراب، وعطف، وحنان، فجعل لك أماً وأباً يعطفان عليك، وخلق لك هذا الهواء، وهذا الماء، وهذا الطعام، والشراب، وهذه نعمة الإمداد، وفضّل الله عليك ثالثة بنعمة الإرشاد، فنقلك من الظلمات إلى النور، وهداك إلى الطريق المستقيم، وشرح الله لك صدرك للإسلام لذلك: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ وهذا يعني أنّ فضل الله علينا مستمر في الدنيا والآخرة، في الدنيا حيث التوجيه، والتعليم، والتربية، والعناية، والعطاء، والمنع، والإكرام، والإيلام، والرفع، والخفض، والبسط، والقبض، هذه كلها أحوال من أجل أن ترقى بالإنسان، والآخرة جعل الله هذه الجنة لينعم بها المؤمنون، وليكون الجزاء على ما أحسنوا في الدنيا، وجعل النار عقاباً لهؤلاء العتاة الظالمين.

﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15)﴾

[ سورة النور ]


ضرورة الانضباط في الأقوال:


 فالإنسان أحياناً يتكلم، لو يعلم علم اليقين أن هذا الكلام سيُحاسب عليه حساباً عسيراً، وأنه لا يكمل إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ففي العالم الإسلامي موضوع الخمر، موضوع الزنى، موضوع السرقة، هذه في الأعم الأغلب يبتعد عنها عامة المسلمين، لأنها كبائر، ولكن الذي يهلكهم هي الصغائر، هي الغيبة، والنميمة، والفحش، والمزاح، وقول الزور، وما شاكل ذلك، والأيمان الكاذبة، فهذا اللسان ربما أورد الإنسان النار، لذلك فلابد للسان الإنسان أن يستقيم، وقد ورد في الحديث عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:

((  كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ، وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاة، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، قَالَ ثُمَّ تَلا: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿يَعْمَلُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِمَلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ  ))

[ أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد  ]

 فمن علامة المؤمن الانضباط، ولاسيما في مجالسه الخاصة، فربما يذكر اسم شخص، والجميع يتكلمون فيه بالحق أو بالباطل، من علامة الإيمان أن تقف، وأن تمنع الناس من متابعة هذه المعصية، من علامة الإيمان ألا تستجيب لرغبة جامحة في الحديث عن هذا الإنسان، طبعاً تكون أحياناً ثمة رغبة أن تشرّح فلانًا، أن تذكر عيب فلان، أن تذكر هذه القصة الطريفة المضحكة، ففي ذلك دوافع لهذا الحديث، هذه الدوافع ربما تهلك صاحبها، ولكن المؤمن وقّاف عند أمر الله، فمن هو المؤمن؟ الذي تجده عند الأمر والنهي، فإذا تطرّق إلى سمعه حديث فيه غيبة ينبّه، ويعظ، ويقف، فإن لم يستطع يقوم من ذاك المجلس ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ .


نصيحة قيمة تُزجَى للمؤمنين: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ


 قال ربنا عز وجل:

﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلٌّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(36) ﴾

[ سورة الإسراء ]

 هذه نصيحة تُزجى للمؤمنين في أي موقف تقفه؛ موقف قوليّ، موقف عمليّ، موقف فيه عطاء، موقف فيه أخذ، موقف فيه وصل، موقف فيه قطع، لم وصلت فلاناً؟ لم قاطعت فلاناً؟ لم أعطيت فلاناً؟ لم منعت فلاناً؟ لم بالغت في مودة فلان؟ لم جفوت فلانًا؟ يجب أن تملك جواباً لله عز وجل، عوّد نفسك على كل عمل، على كل حركة، وكل سكنة، على كل تصرف، في كل أحوالك تصور أنك واقف بين يدي الله عز وجل، والله عز وجل يسألك: لمَ فعلت هذا؟ لمَ أعطيت فلانًا؟ لمَ منعت فلانًا؟ لمَ وصلت؟ لم قطعت؟ لمَ كنت بشوشاً مع فلان؟ قد ترى رئيس دائرة لطيفاً مؤنساً مع أحد الموظفين، ومتجهماً مع آخر، فهذا عليه حساب، والله الذي لا إله إلا هو لابد أن يحاسَب، لم كنت مع فلان كثير الود؟ لم كنت مع فلان مجافياً؟ الله يعلم ما السبب، هناك سبب طبعاً، سبب جعله يمنح وده لهذا، ويمنع هذا الود عن الآخر لأسباب مادية يا ترى؟ لا نعرف، هناك حساب، حتى الأب يحاسب، لم قبّلت هذا الابن، ولم تقبّل هذا؟ لم أعطيت هذا، وحرمت هذا؟ لم منحت هذا الابن بيتاً، ولم تمنح هذا؟ لم فرقت بينهما؟ أشهد غيري، كما قال النبي الكريم، فإني لا أشهد على جور، فالبطولة في كل حركاتك، وسكناتك أن تملك جواباً صحيحاً لرب العزة، لم تزوجت فلانة؟ لم طلقتها؟ لم تزوجتها وأنت في نيتك أن تطلقها؟ الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك.

﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾


وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ


 الإنسان لا يتكلّم أحياناً بلسانه، بل يشير... فلانة الله أعلم... قد تكون هذه زوجة، فينقل إنسان هذه الصورة إلى زوجها فيطلقها، عنده أولاد يتشردون، أنت متأكد ماذا فعلت؟ هل تدري أنك ساهمت في تحطيم أسرة؟ فهناك افتراءات كثيرة، لذلك أيها الإخوة الأكارم، كما أن الكذب والبهتان خطير جداً، فكذلك أن تأخذ بعض الأخبار من دون تحقق، هذا أيضاً موقف تحاسب عليه، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)﴾

[ سورة الحجرات ]

﴿  وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16)﴾

[ سورة النور ]


موقف المؤمن الورِع المستقيم: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ


 فالمؤمن الحق هكذا يفعل؛ إذا سمع عن مؤمن صادق مستقيم ورع تقي نقي، إذا سمع قصة لا تليق به فيجب أن تقول: مالي أن أصدق هذه القصة، هذا بهتان عظيم، هذا افتراء، هذا إثم، عندنا حالة؛ لك أخ كريم، وأنت واثق من صدقه، ومن استقامته، ومن ورعه، وطاعته، ومن عبادته، ومن، ومن... واثق تماماً، جاءك خبر عنه لا يليق به، فأنت في ثلاث حالات؛ إما أن تصدق، وإما أن تشكك، وإما أن ترفض، فإذا شككت لك أن تستوضح الأمر، هذا واجبك، وإذا كذبت، وكنت مرتاحاً لهذا التكذيب فهذا عمل طيب، وأنت بهذه الحالة لست مضطراً لأن تُحقق، فإنسان عمّر مسجداً، ودفع ثلاثين مليوناً، وجدته يضع يده في جيب معطف ما تظن فيه؟ أخذ عشر ليرات، تقول حتماً: هذا معطفه، لا تشعر أن هناك تشويشاً، أو شكاً، أو أخذاً، أو رداً، فعندما تكون واثقاً من أخيك ثقة مطلقة، ويأتيك خبر لا يليق به، وكذّبت هذا الخبر، وأنت مرتاح لهذا الخبر، فلا عليك ألّا تتحقق، وهذا الخبر لا يرقى إلى مستوى البحث، لكن هناك حالات ثانية؛ مثلاً لك أخ، معرفتك فيه عادية، فلما بلغك هذا الخبر عنه تسرب إلى نفسك الشك فيه، ففي هذه الحالة يجب عليك أن تتحقق من هذا الأمر، تسأل من هو قريب منه، تذهب إليه؛ يا أخي قيل عنك كذا وكذا، فما جوابك؟ تتأكد، فأنت في حالة الشك، حالة مزعجة، لا أنت في مودة معه، شككت فيه، ولا يوجد إمكان أن تكذب الخبر أو تصدقه، فمثل هذه الحالة التي تعتري صاحبها الشك لابد من التحقق، وإذا كان الشخص بعيداً عن الحق، وقالوا عنه: أنه قام بمعصية، فأنت وجدت هذه المعصية تتناسب مع بعده عن الدين، مع تكذيبه للدين، فالله عز وجل ينتظر من عبده المؤمن ألاَّ يقع في الذنب مرتين، وقد قال سيدنا الشافعي: " ما خدعني واحد مرتين "، المؤمن كيِّس فطِن حذر، وسيدنا عمر قال: 

<< لست بالخبِّ، ولا الخب يخدعني >> .

[  نسبه ابن منظور في لسان العرب إلى ابن سيرين، انظر (اللسان مادة خبب) ]

 فإذا زلّت قدم الإنسان، وتورط، وسمع قصة فيها تعريض بمؤمن، ثم بعد ذلك ثبت له أن هذا الإنسان بريء، لكن مرة ثانية يجب أن تتحقق، فالإنسان إذا وقعت معه المشكلة مرتين أو ثلاثًا فهذا دليل غبائه، ودليل بُعده، ودليل سوء طويته، لكن إذا زلّت القدم مرة واحدة فلا ضير على الإنسان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: 

((  لا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ. ))

[ البخاري، مسلم ]

﴿  يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(17)﴾

[ سورة النور ]


يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا


 (أَبَدًا) لاستغراق المستقبل، الإنسان أحياناً ينعقد في نفسه عزم أكيد على ألا يعود لهذه المعصية أبداً، الإمام الغزالي رحمه الله يرى أن التوبة تحتاج إلى ثلاث مراحل؛ مرحلة العلم، ومرحلة الندم، ومرحلة العزم، فالتوبة علم، والتوبة حال، والتوبة سلوك، فلولا أنك علمت أن هذه معصية ما تبت منها، فلابد من العلم، والإنسان عندما يحضر مجلس علم فالهدف أن تعرف أين أنت من الدين يا ترى؟ أأنت مطبق أم غير مطبق؟ هناك موضوعات كثيرة تُطرح؛ هل أنت مطبق لهذا الموضوع؟ هل أنت غير مطبق له؟ فالإنسان في مجلس العلم يقيّم نفسه، يعرف أين هو من الدين، فالقضية الفلانية ماذا قال الشرع فيها؟ كذا وكذا، هل أنا مطبق لها؟ فإذا لم يتلق الإنسان العلم يظن أنه جيد، وهو سيئ، وهذه أكبر مصيبة إنه جهل مركب، قال الخليل بن أحمد النحوي: " الرجال أربعة؛ رجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه، ورجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عاقل فاتبعوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك مائق فاحذروه ".

[ تذكرة الحفاظ، محمد بن الطاهر بن القيسراني (3/788)، والمدخل إلى سنن النسائي لأبي بكر البيهقي(828) ]

 إن الإنسان يعرف مقامه بالعلم، يعرف مرتبته، يعرف مكانته من الدين، والإنسان يتعود أن يواجه الحقيقة المرة، إذا كان عند الإنسان دائما رغبة مستمرة في أن يدافع عن نفسه، إذا كان مقيماً على المعاصي، متعلق بالنساء مثلاً، يا أخي من قال إنها حرام، لا شيء فيها، فالإنسان بشكل عام يدافع عن نفسه، ويدافع عن واقعه، فإذا كان له مخالفات في كسب المال يقول: هذه فيها فتوى، وهذه أحلوها، أنت في وهم وغلط، دائما يبحث عن فتاوى، وعن توجيهات تغطي معاصيه، فالإنسان عنده رغبة أن يدافع عن واقعه السيئ والجيد، فعندما يحضر الإنسان مجلس علم فهناك أشياء واهية تزول عنه، يحسب أن دخله حلال، فإذا في دخله شبهة، يظن نفسه بهذا النشاط الاجتماعي يخدم مجتمعه، والنتيجة أن عنده مخالفات كبيرة جداً، هذه اللقاءات كلها فيها معاص لله عز وجل، فالإنسان يتعلم، ويعرف بالعلم مكانته من الدين، أما إذا لم يخطر بباله أن يحضر مجلس علم فكيف سيعرف نفسه على حق هو أم على باطل؟ يظن أنه على حق، ويتوهم أنه على حق، ويحسب أنه على حق، وهو على خلاف ذلك، فربنا عز وجل قال:

﴿  قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(104)﴾

[ سورة الكهف ]

 هذا عيب كبير في الإنسان؛ أن يتوهم أنه على حق، وهو على باطل، يظن أنه مستقيم، وهو غير مستقيم، أو أن إنساناً آخر يبحث عن الرُّخَصْ، يسأل علماء كثيرين، هذا أحسن من هذا، سمح فيها هذا، وما سمح فيها ذاك، هذا متزمت، هذا مرن، شيخ عصري، هذا يمكن أن يقبل بهذه، فَهَمُّه الأوحد أن يتقصى الرخص عند كل العلماء، فيخرج بدين عجيب، كله رخص، هذا الدين ليس فيه عزائم أبداً، هذه وجد لها فتوى، وهذه وجد لها رأياً في كتاب، وتلك قال فيها واحد: لا شيء فيها، وهذه أخذها فلان على ذمته، وتلك كانت أمانة في ذمة شخص، فإذا به لا دين عنده إطلاقاً، فالإنسان إذا حضر مجلس علم يعرف أين هو من الدين. 

﴿  وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)﴾

[ سورة النور ]


يا أيها الناس، احذروا فإنه وعيد شديد:


 الحقيقة أن هذه الآية تقطع الظهر.

 أولا: أن الله سبحانه وتعالى توعد بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، توعّد من؟ توعد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، توعّدهم على تمنياتهم فقط، إذا أنت تتمنى أن هذا المجتمع المؤمن تشيع الفاحشة فيه، كأن يُصبح فيه اختلاط، وتداخل في الأنساب، ولا يكون فيه انضباط أخلاقي، هذا الوضع فيه بعد عن المرونة، فيه تزمت، فهذا الذي يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا كالأجهزة التي تسبب الفساد الاجتماعي، أفلام منحطة جداً إذا تداولت يُصبح هناك زِنى، وانتهاك لحرمات الله عز وجل، فإذا كانت هناك مجلات ساقطة تجدها في كل مكان موجودة يمكن أن تسبب انهياراً خلقياً، فالفاحشة في المجلات، وفي الصور، وفي بعض القصص، وفي بعض المسرحيات، وفي كل موقف فيه إغراء بالمعصية، فيه إغراء بالفساد، فهؤلاء الذين يتمنون أن تشيع هذه الموبقات في المجتمع المسلم، هؤلاء لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فهذا الذي يحب فقط، فإذا لم يجد في المجتمع انحرافاً خلقياً يقول: هذا المجتمع ضيق، مغلق، فيه تزمت، مجتمع لا يرى من مباهج الدنيا شيئاً، هذا الإنسان بعيد عن الدين بعد الأرض عن السماء، هذا معنى. 

المعنى الثاني: إذا كنت ترتاح أن يتحدث الناس عن هذا المؤمن فيقولون: زوجته غير مستقيمة، فتشعر بالراحة، ويُشفى قلبك، وتُحس أن هذا يجب أن يعرفه الناس، فالمؤمن الصادق لو كانت القصة حقيقية يجب أن يكتمها حرمة للدين، لا يخلو مجتمع من مزلات، وانحرافات، فهذا الذي تشفى نفسه إذا شاعت الفاحشة، شاعت الرذيلة، شاع الفساد، شاعت القصص المنحطة عن زيد وعبيد، هذا المجتمع الذي تتخلله الفواحش، والموبقات، والإشاعات، والفضائح، هذا المجتمع إذا كان محبباً للإنسان، فهذا الإنسان له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، إذا كان الإنسان يحب مجتمع الفضيلة، مجتمع الانضباط، مجتمع الأسر، مجتمع عدم الاختلاط، مجتمع التستر، مجتمع الصون، مجتمع العفاف، مجتمع النظافة، هذا الذي يحب هذا المجتمع مؤمن ورب الكعبة، هناك إنسان يكره مكاناً فيه معصية، ويؤثر عليه بيته، يؤثر عليه مكاناً قاصياً عن أن يكون مع الناس في ارتكاب المخالفات أو المعاصي، هذه الآية دقيقة جداً، وكأن ربنا عز وجل يعلمنا أن نقيّم أنفسنا من تمنياتنا؛ يا أيها الإنسان ماذا تتمنى؟ هذا الذي يتمنى أن تشيع الفاحشة ليس مؤمناً.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ لأن هناك فرقاً في المنطلقات، هذا المجتمع، أو هذه الدنيا مزرعة الآخرة، فإذا شاع فيها الفساد بعُد الناس عن الله عز وجل، متى يدفعون الثمن الباهظ؟ عند الموت، فشخص قضى حياته كلها مع النساء فهناك تساهل، وتجاوز للحدود، هناك استمتاع بأعراض لا تحل له، وعدوان على أعراض لأشخاص آخرين، هذا التجاوز، هذا التفسخ، هذا الانحطاط، إذا قضى الإنسان حياته في هذا، ثم اقترب أجله، ورأى أنه لا نصيب له في الحياة الآخرة، وأن مصيره إلى النار، عندئذ يُصعَق، قال ربنا عز وجل:

﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ(45)﴾

[  سورة الطور ]

 فكأن ربنا عز وجل أراد أن تعرف نفسك من تمنياتك، أين تحب؟ هل تحب مجتمعاً فيه عفة، فيه تستر، فيه صون للحرمات، وهذا الذي يسميه الفاسقون أحياناً: جلسة ناشفة، خالية من امرأة، طبعاً هذا الذي يتمنى أن يكون في هذه السهرة نساء، إذا رفض واحد أن يستقبل صديقه إلا في غرفتين يعتبره هذا بعيدًا جداً عن اللباقة، أنا جئت إلى سهرة عائلية، لماذا وضعتنا في غرفة، والنساء في غرفة، الأفضل أن نكون مع بعضنا، فهذا الذي يحب مجتمع الفساد، مجتمع التحلل من القيم، هذا إنسان له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، هذه الأسرة إن كانت نظيفة مطبقة لأمر الله عز وجل فلابد أن تسعد في الدنيا والآخرة، وهذه الأسرة التي تتحلل من أوامر الله عز وجل، لابد أن تشقى في الدنيا والآخرة.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)﴾  

[  سورة النور ]


يا أيها الناس: وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ


 لولا فضل الله عليكم ورحمته بأن جعل لهذه الانحرافات حدوداً تُحَد، وجعل لهذه المعاصي توبة تُرَد بها المعاصي، لولا هذه الحدود، ولولا تلك التوبة، ولولا هذا العتاب، ولولا هذه الترتيبات لانتهى بكم المقام إلى النار.

﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾   بكم. 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21)﴾

[ سورة النور ]


إيّاكم وخطوات الشيطان ‍‍‍!!!


 في الحقيقة هذه أخطر آية في سورة النور، فلو سألت إنسانًا وقع في كل المعاصي: ما هي أسباب هذا الانحدار الشديد؟ يقول لك: أول خطوة لم يدعُ الشيطانُ أحدًا إلى الزنى، ولكن يدعوه إلى النظر، إلى هذا الجمال الذي خلقه الله عز وجل يقول: يا أخي؛ إن الله جميل يحب الجمال، يدعوك إلى شيء في نظرك خطوة بسيطة جداً، يدعوك مثلاً للذهاب إلى هذا المكان، إلى هذه السهرة، إلى قراءة هذه القصة، إلى مشاهدة هذا الفيلم، يدعوك بأول خطوة، لكن هذه الخطوات تجرّ أختها إلى أن يصل الإنسان إلى الحضيض، وهو لا يدري، لذلك ثمة شهوة لها قوة جذب، في الشهوات الخاصة التي تجذب قال ربنا عز وجل:

﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)﴾

[ سورة البقرة ]

 لابد أن تدع بينك وبين حدود الله هامش أمان، هذا الطريق الذي تسير فيه لا يرضى الله عنك، هذا الكتاب إذا قرأته لا يرضى الله عنك، هذا الصديق إذا صاحبته لا يرضى الله عنك، هذه السهرة إذا ذهبت إليها لا يرضى الله عنك، هذه النزهة إذا شاركت فيها لا يرضى الله عنك، فهذه أول خطوة أن تصاحب إنساناً غافلاً، إنسانًا زانيًّا، بعيدًا عن الله عز وجل، له حديث معين، له إغراء معين، فربنا عز وجل لحرصه علينا نهانا أن نتبع خطوات الشيطان، الشيطان يدعونا خطوة فخطوة إلى أن تقع الكارثة، كم من امرأة خانت زوجها بسبب أنها تبعت الشيطان خطوة واحدة، من خطوة إلى خطوة وقعت الخلوة، فحدثت الخيانة، ووقع الطلاق، وانتشرت الفضيحة، وأصبح الأولاد متشردين، مأساة كبيرة جداً انتهت بالطلاق، والتشريد، والسمعة السيئة، والفضيحة، أسبابها أنها قبلت أن تخطو خطوة واحدة.

 قال ربنا عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ يكتشف الإنسان أن في بيته خيانة كبيرة، سببها أنه قال للجار: تفضل يا أبا فلان، ادخلي يا أم المؤمنين، هذا مثل أخيك، هذه أول خطوة انتهت بالخيانة، فالإنسان عندما يكون جاهلاً يحفر قبره بيده، يهلكه تدبيره إذا كان جاهلاً، بل إن الجهل هو أعدى أعداء الإنسان، لماذا حياة المؤمن نظيفة، بيته نظيف، سمعته نظيفة، لأنه لا يوجد منافذ للشيطان، ولا يوجد اختلاط في حياته، عنده أشياء ممنوعة، مثلاً جاء إنسان خطب ابنته، فله الحق في أن يراها مرة واحدة، أن يرى وجهها وكفيها، وانتهى الأمر، أما واللهِ خاطبها، والله جاء الخاطب دون عقد قران يسهر، الخطيب عند الخطيبة، ثمَّ يأخذها في نزهة، وبعدها يختفي الخطيب، فإذا بالبنت حامل، هذا لا تتبعوا خطوات الشيطان، كل إنسان يقصر بهذا الموضوع يدفع الثمن غالياً جداً، يأتي على الذي يقصر ساعة يتمنى أنه يكون تحت الأقدام، يتمنى أن يُمزَّق إرباً إرباً، ربنا عز وجل رحمة بنا قال: ﴿لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوُاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ هذه الآية مركز الثقل فيها هو: ﴿لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوُاتِ الشَّيْطَانِ﴾ دائماً، بطولتك تقضي أن تهرب من أسباب الخطيئة، إذا كانت السهرة فيها مشكلة فاعتذر عنها، هذه النزهة فيها معصية فاعتذر عنها، هذا الصاحب ساحب فابتعد عنه، هذه القصة مغرية فابتعد عنها، هذه المشاهدة تفضي إلى الانحراف فارفضها، هي كلها خطوات الشيطان، إن أكبر المعاصي، وأكبر أنواع الانحلال الخُلُقي أساسه خطوة، وربنا عز وجل قال:

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) ﴾

[ سورة الإسراء ]

 لم يقل: ولا تزنوا، قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾ .


لكل معصية خطوات تسبقها


 فالزنا قبله خطوات كثيرة جداً، والشيطان يُقال عنه: إنه ذكي، لا يأمر الإنسان أن يفعل الفاحشة، بل يأمره أن يفعل عملاً صالحاً، علِّمها القرآن، اهدِها، وجِّهها، فيوجهها في خلوة، كان يوجهها فوقع بعد ذلك في الزنى، وهناك الكثير من الحالات تتم أساسها مخالفة للشرع ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ فكذلك الموضوع يمكن أن يأخذ منحى آخر، وليس كل المعاصي معلقة بالنساء، ثمة معاص مالية، أيضاً يمشي معه بخطوة شارك فلانًا، لكن فلان له تجارة محرمة، أنت توجهه، وتنصحه، لكن شاركه الآن، لعل الله يهديه على يدك، لماذا أنت يائس من هداه، النتيجة أنه يشاركه فيعطيه أرباحاً طائلة، عنده ملهى، عنده مطعم فيه خمر، فيجد مبلغاً ضخماً يأتيه في السنة، فأصبح ماله كله حرامًا، ولم يعد عنده إمكانية أن يتخلى عن هذه الشركة، وقع، ولم يدرِ أنه وقع.

 وكذلك النواحي المالية فيها إغراءات كثيرة، فإذا عرف أحدنا أن هذا العمل فيه شبهة، فيه حرام، فيه معصية، يجب أن يبتعد عنه، فالواحد منا يملك ألاّ يخطو أول خطوة، لكن إذا خطا أول خطوة أعتقد أنه لا يستطيع التوقف، مثل حجر مستقر في رأس جبل، فأنت بين حالين؛ ما بين أن تدعه في هذا المكان المكين، أو أن تدفعه، فإذا دفعته ليس في إمكانك أن توقفه عند حد إلى أن يستقر في قعر الوادي، هذه الشهوة كهذه الصخرة تماماً، إذا دفعتها من مكانها، إذا زحزحتها عن مكانها انطلقت، ولا تستقر إلا في قعر الوادي، كان الرجل في نظرة، فصار معها ابتسامة، ثم أصبح في موعد معها، فلقاء، فكانت النتيجة الفاحشة، ومعها فضيحة، وصار معها مشكلة، نظرة، فابتسامة، فموعد، فلقاء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا﴾ هذا نهي إلهي، رب العالمين، وهو الخبير بالنفوس، ينهانا، وهو ربنا:

﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(14)﴾

[ سورة الملك ]

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]

 فمن هو الخبير بالإنسان؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فلا ينبغي أن تستمد توجيهاتك إلا من الله، لأن الجهة الصانعة وحدها هي المؤهلة أن توجه المخلوق. 

﴿  وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(22)﴾   

[ سورة النور ]


ثناء القرآن على أبي بكر الصديق


﴿وَلاَ يَأْتَلِ﴾ بمعنى لا يحلف ﴿أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ كان سيدنا الصديق يعطي مِسطحاً مالاً كلَّ وقت، ومِسْطح هو المتَّهَم بترويج حديث الإفك، فلما علم سيدنا الصديق ذلك عاهد، أو حلف أن يمتنع عن إعطائه هذه المساعدة، فالله سبحانه وتعالى عاتبه فقال: ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾   يروى أن سيدنا الصديق بكى بكاء كثيراً وقال: 

<< بلى أحب أن يغفر الله لي >>.

[ القرطبي، والطبري، وابن كثير   ]


مسألة فقهية: ماذا يفعل من حلف على شيء ثم رأى غيره خير ؟


 إذا حلف الإنسان يميناً ألاّ يفعل خيراً فعليه أن يحنث بهذا اليمين، وأن يفعل خيراً، أما أن يُكفّر عن يمينه، أو لا يكفّر فهذا موضوع خلافي نعود إليه في بحوث الفقه، لكن إذا حلف الإنسان يميناً ألاّ يزور أخته، أو لا يفعل الخير، أو لو فرضنا أنه ضاع حذاؤه في المسجد فحلف يميناً ألاّ يأتِي إلى المسجد أبداً، ماذا نعمل؟ لا يأتِي إلى المسجد؟ لا، نقول: تعال إلى الدرس، وكفّر عن يمينك، فكل يمين مؤداة منعاً للخير، فيجب أن تحنث به، وبعضهم قال: الحِنْث به هو التكفير عنه، وبعضهم قال: لابد أن تكفّر عنها تعظيماً لليمين ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .

﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .


قاعدة أخلاقية جليلة: صِلْ مَن قطعك واعفُ عمّن ظلمك


 هذا خلقٌ عالٍ جداً؛ أن يعمل الإنسان خيراً، ولا يعلق أهمية أبداً على رد الفعل، إن كان فيه إساءة، أو فيه إحسان، فيه تقدير، أو عدم تقدير، شكران أو جحود، هذه ردود الفعل لا قيمة لها عند المخلص، فما دمت تفعل هذا الخير تقرباً إلى الله عز وجل، وبدافع الإخلاص المحض فيجب ألا تأبه لكل رد فعل، طيب أو سيئ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام:

((  اِصْنَعِ الْمَعْرُوفَ مَعَ أَهْلِهِ وَمَعَ غَيْرِ أَهْلِهِ، فَإِنْ أَصَبْتَ أَهْلَهُ أَصَبْتَ أَهْلَهُ، وَإِنْ لَمْ تُصِبْ أَهْلَهُ فَأَنْتَ أَهْلُهُ. ))

[ القضاعي في مسند الشهاب عن علي، وانظر كشف الخفاء، علل الدارقطني وهو ضعيف ]

 لا أعتقد أن هناك عملاً من حيث الإيلامُ والإيذاء من أن يقول إنسان عن ابنتك الطاهرة العفيفة: إنها زانية، ومع ذلك سيدنا الصديق بدافعٍ من غيرته على ابنته؛ زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف يميناً أن يقطع عن هذا الإنسان المرجف مساعداته، فعاتبه الله عز وجل، كيف عاتبه الله؟ قال ربنا عز وجل:

﴿  وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)﴾

[ سورة فصلت ]

 وقال النبي عليه الصلاة والسلام: 

((  أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْعٍ؛ خَشْيَةِ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، وَكَلِمَةِ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وَأَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي، وَأَنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْرًا، وَنُطْقي ذِكْرًا، وَنَظَرِي عِبْرَةً.  ))

[ تفسير القرطبي  ]

 أنت لا ترقى إلى مستوى الإيمان الصحيح ما لم تَصِل من قطعك، وتعفُ عمن ظلمك، وتعطِ من حرمك، وهذا سيدنا الصديق لأنه تألم من مسطح ألماً شديداً لأنه روّج قصة كاذبة عن ابنته الطاهرة العفيفة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نوى، وعزم على أن يقطع عن هذا الإنسان المبطِل مساعداته عاتبه الله عز وجل، وهذا درس لنا: (اِصْنَعِ الْمَعْرُوفَ مَعَ أَهْلِهِ وَمَعَ غَيْرِ أَهْلِهِ، فَإِنْ أَصَبْتَ أَهْلَهُ أَصَبْتَ أَهْلَهُ، وَإِنْ لَمْ تُصِبْ أَهْلَهُ فَأَنْتَ أَهْلُهُ) أعتقد أن أناساً كثيرين لا يستطيعون أن يرقوا إلى هذا المستوى، فأنت إن فعلت خيراً لا تنتظر أبداً أن يكون هذا الإنسان محسناً أو مقدِّراً، لو أساء لك، لو جحد خيرك، لو تكلم عنك بما ليس فيك يجب أن تتابع العمل الصالح. 

 قال تعالى:

﴿  إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25)﴾

[ سورة النور ]


يا له مِن حديثٍ عظيمٍ !!!


 هذه الآيات إن شاء الله نشرحها في الدرس القادم، ونتابع سورة النور، والحديث الأخير الذي أعددته لكم والمتعلق بهذا الموضوع، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو الدرداء عنه:

(( أيّما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها، فهو في سخط الله حتى ينزع عنها، وأيّما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقاً، وأقدم على سخطه، وعليه لعنة تتابع إلى يوم القيامة. وأيّما رجل أشاع على مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله تعالى أن يرميه بها في النار. ))

[ الطبراني عن أبي الدرداء ]

 تدخل مع إنسان في خصومة، وأنت لا تعرف ما موضوع الخصومة، لكن معه على حق، أو على باطل: (أَيُّمَا رَجُلٍ شَدَّ عَضُدَ امْرِئٍ مِنَ النَّاسِ فِي خُصُومَةٍ لاَ عِلْمَ لَهُ بِهَا فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهَا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ بِشَفَاعَةٍ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ أَنْ يُقَامَ فَقَدْ عَانَدَ اللَّهَ حَقًّا ) فإذا كان الله عز وجل جعل للزنى حدًّا فإذا أردت أن تمنع إقامة هذا الحد لسبب أو لآخر فأنت كأنك تعاند الله حقا، (وَأَقْدَمَ عَلَى سَخَطِهِ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ تَتَتَابَعُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، والفقرة الثالثة والأخطر - دققوا في هذا الحديث: (وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَلَمَةً هُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يَرَى أَنْ يُشِينَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرْمِيَهُ بِهَا فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تعرفه بريئاً وأردت أن تشيع عليه هذه التهمة، وأن تروِّجها بين الناس من أجل أن تحطمه هذا العمل يكفي لدخول النار (وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَلَمَةً هُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يَرَى أَنْ يُشِينَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرْمِيَهُ بِهَا فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور