وضع داكن
30-11-2024
Logo
الدرس : سورة النصر - تفسير الآيآت 1 -3 نعي الرسول الكريم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

في هذه السورة نَعْيُ النبي عليه الصلاة والسلام:


 أيها الإخوة المؤمنون سورة اليوم هي سورة النصر، قال تعالى:

﴿ إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ (1)وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجًا (2)فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا (3)﴾

[ سورة النصر ]

 يُرْوى أنَّ سَيِّدنا عمر كان يُعَظِّمُ سيِّدنا ابن عباس وكان غُلاماً، عندنا عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزُّبَيْر، رضِيَ الله عنهما، فسيدنا ابن عباس دعا له النبي عليه الصلاة والسلام فقال له:

(( وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي أَوْ عَلَى مَنْكِبِي شَكَّ سَعِيدٌ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ. ))

[ أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ]

 مَرَّةً دعا عمر رضي الله عنه كُبَراء القوْم وسألهم عن هذه السورة، ويَبْدو أنَّهم لم يرْتاحوا لِتَعْظيم أمير المؤمنين لابن عباس، وهو فتىً صغير؛ يسْتشيرُهُ ويسْألُهُ في حَضْرَتِهم، فكبر عليهم هذا.

النبي عليه الصلاة والسلام حينما أُنْزِلَتْ عليه هذه السورة شَعَر بِدُنُوِّ أجله:


 يُرْوى أنَّ سيَّدنا عمر بن عبد العزيز دخل عليه وَفْدٌ، وكان من الحِجاز، يتَقَدَّمُهُم غُلامٌ لا تزيدُ سِنُّه على إحْدى عشرة سنة، فَامتعض سيّدنا عمر وغَضِبَ، وعدَّ هذا إهانَةً له -طبْعاً دخل هذا الغُلام لِيَتَكَلَّم عنهم، ليتكلم باسمهم- فقال: اِجْلس أيها الغُلام، ولْيَقُم من هو أكبر منك سِناً، فَتَبَسَّمَ هذا الغُلام وقال: أصْلَحَ الله الأمير، المَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ؛ قلبِهِ ولِسانِه، فإذا وَهَبَ الله العَبْد لِساناً لافِظاً وقَلْباً حافِظاً فقد اسْتَحَقَّ الكلام، ولو أنَّ الأمْر كما تقول: لَكَان في الأُمَّة مَن هو أحَقُّ منك بِهذا المَجْلِس! لو كانت القضية بالحجم أو بالطول أو بالسن لَكَان في الأُمَّة مَن هو أحَقُّ منك بِهذا المَجْلِس.
ويُرْوى أنَّ أحَدَ الخُلفاء الأمَوِيِّين دخل عليه وَفْدٌ من البادِيَة يَتَقَدَّمُهُ غُلام، فَغَضِبَ أيْضاً، فقال الأمير لِحاجِبِهِ: ما شاء أَحَدٌ أنْ يدْخُل عليَّ إلاّ دخل، حتَّى الصِّبْيان؟ فقال هذا الصَبِيُّ الصغير: "أصْلَحَ الله الأمير، إنَّ دُخولي عليك لم يُنْقِص من قَدْرك ولكنَّهُ شَرَّفَني، أيُّها الأمير، أصابتنا ثلاثُ سنين؛ سَنَةٌ أذابَتْ الشَّحْم، وسَنَة أَكَلَت اللَّحْم، وسنةٌ دَقَّتِ العَظْم، وفي أيْديكم أمْوال، فإنْ كانت لله فعلامَ تَحْبِسونها عن عِبادِهِ، وإنْ كانت لكم فَتَصَدَّقوا بها علينا، وإنْ كانت لنا فعلامَ تمْنَعوننا إياها؟" أي إن كانت لنا أعطونا إياها، وإن كانت لكم تصدقوا بها علينا، وإن كانت لله فنحن عباد الله، فقال هذا الخليفة - وأظنُّه هشام بن عبد الملك -: ما ترك لنا هذا الغُلام في واحِدَةٍ عُذْراً، أبلغ .
سيدنا ابن عباس كان ذكياً نبيهاً، وسيدنا عمر كان يسأله دائماً ويحترمه ويعظمه، فتألم كبراء القوم، وعاتبوه مرة، فقال لهم ماذا تقولون في هذه السورة ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ*وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجًا*فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا﴾ فقالوا جميعاً: إن الله سبحانه وتعالى يبشر نبيه بالفتح والنصر، قال: قل يا بن عباس، فقال: في هذه السورة نعي النبي عليه الصلاة والسلام، أي ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ*وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجًا﴾ فمهمتك قد انتهت، فالعظماء لا يعيشون لِيَأكلوا مثْلنا، بل يعيشون لِرِسالَةٍ عظيمة، فإذا أدَّوْها انْتَهَتْ مُهِمَّتُهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما أُنْزِلَتْ عليه هذه السورة شَعَر بِدُنُوِّ أجله، فأسَرَّ إلى فاطِمة الزهْراء وقال لها: لقد دَنَتْ مَنِيَّتي، فَبَكَتْ، فقال لها: أنتِ أوَّلُ من يلْحَقُ بي فَضَحِكَتْ!

تَوَفى عليه الصلاة والسلام ولم يُبْقِ من الدنيا شيئاً:


 النبي الكريم هكذا فَسَّر لنا هذه السورة؛ أن الله سبحانه وتعالى تلطّف وأعلمه أنَّ أجَلَهُ قد اقْتَرَب، وحان مَوْعِدُ اللِّقاء، لذلك النبي الكريم عليه أتم الصلاة والسلام صعد المنبر وقال:

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنَّ عَبْداً خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَعَجِبْنَا لَهُ. ))

[ البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]

 فعَلِمَ هذا الصِدِّيق أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يَعنى نَفْسَهُ، (إِنَّ عَبْداً خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ) 

(( يا أيُّها النَّاسُ إنِّي قد دنا منِّي حقوقٌ من بينِ أظهُرِكم فمَن كُنْتُ جلَدْتُ له ظهرًا فهذا ظهري فليستَقِدْ منه ألا ومَن كُنْتُ شتَمْتُ له عِرْضًا فهذا عِرْضي فليستَقِدْ منه ومَن كُنْتُ أخَذْتُ له مالًا فهذا مالي فليستَقِدْ منه لا يقولَنَّ رجلٌ إنِّي أخشى الشَّحناءَ من قِبَلِ رسولِ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم ألا وإنَّ الشَّحناءَ ليسَتْ من طبيعتي ولا من شأني. ))

[ مسند أبي يعلى ]

إذا عَزَوْتَ النصْر لِغَيْر الله فأنت مُشْرك :
 (إذَا) في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ﴾ (إذَا) أداةُ شَرْط تُفيدُ تَحَقُّقَ الوُقوع، فإذا قال الله عز وجل ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ﴾ أيْ إنَّ نصْر الله تعالى والفتْح لا مَحَالَةَ آتٍ، قطعاً، أما إذا قال الله عز وجل:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۢ بِنَبَإٍۢ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًۢا بِجَهَٰلَةٍۢ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ (6)﴾

[ سورة الحجرات ]

 فهذا مع استعمال (إنْ) قد يأتي، وربما لا يأتي، أما قوله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ﴾ فلا بدّ أن يأتيَ نصْرُ الله والفَتْح، الآن قوله: ﴿نَصۡرُ ٱللَّهِ﴾ إذا عَزَوْتَ النصْر لِغَيْر الله فأنت مُشْرك، قال تعالى:

﴿  الم(1) غُلِبَتِ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِى بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ ٱلْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنۢ بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍۢ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ(4)﴾

[ سورة الروم ]

﴿ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦ ۗ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ(126)﴾

[ سورة آل عمران ]

إذا عَزَوْتَ النَّصْر في لحْظةٍ من لحَظات حَياتِك إلى غير الله فهذا هو الشِّرْك بعينه،﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ﴾ فهو الذي ينْصر، وهو الذي يخْذل.

الله تعالى وَعَدنا بالاسْتِخلاف والتمْكين في الأرض والأمن شَرْطَ عِبادَتِه:


 قال تعالى:

﴿ لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٌ مِّنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ يَحْفَظُونَهُۥ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ(11)﴾

[ سورة الرعد ]

 لكن نصْرُهُ ليس جُزافاً قال تعالى:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)﴾

[ سورة محمد ]

 عَمَلِيَّة مَشْروطة، فإنْ نَصَرْتُموهُ بِطاعَتِكم له، نَصَرَكم النصر الحقيقي، قال تعالى:

﴿  وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(55)﴾

[ سورة النور ]

 هذا هو الشرط، الاسْتِخْلاف والتمْكينُ في الأرض، وعدمُ الخوف والشُّعور بالأمن، ثلاثة وُعودٍ قطعها الله على نفسه إنْ عَبَدْناه، فإنْ لم نَعْبُدْهُ فهُو تعالى في حِلٍّ من هذه الوُعود الثلاثة، هذا اتفاق بين فريقين، فالله تعالى وَعَدنا أن يستخلفنا في الأرض، وأن يمكّن لنا ديننا الذي ارتضى لنا، وأن يبدلنا من بعد خوف أمناً، وعلينا أن نعبده، فإذا لم نقدم ما عندنا من العبادة فالله سبحانه وتعالى في حِلٍّ من كل وعوده.

الإيمان بعد النَّصْر سَهْلٌ وأَجْرُهُ قليل لكنَّهُ في زَمَن العُسْرة بُطولة:


 ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ﴾ هذا النَّصْر هو نصْرُ الله، أما قولهُ: والفتْح، الإنسان قد ينْتَصِر لِأيام ثمَّ ينْهَزِم، أما ﴿نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ﴾، فالفتْح هو اسْتِقْرار النَّصْر، قد تنتصر ثم تتراجع، لكن قد تتقَدَّم وتفْتَحُ هذه البِلاد، وكلمة (فَتْح) تعْني فَتْح مكَّة بِكُلِّ تأكيد، لكنَّها مُطْلَقَة، قال تعالى:

﴿  وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً(3)﴾

[ سورة الفتح ]

 أما اليهود فلا ينْتَصِرون إلا بِحَبْلٍ من الناس، فلا بدّ لهم من دَعْم ومَعونات، وحشر جوي، لكِنَّ الله سبحانه وتعالى نَصْرُهُ مُؤَزَّرٌ، وعجيب، وعزيز، لا خِذْلان بعْدهُ. 
قال تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ*وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجًا﴾ في الحقيقة من السَّهْل جداً أنْ تُؤْمِن إذا عَمَّ الإسْلام الأرض، وإذا أصْبح الإسْلام قَوِياً، لكنَّ البُطولة أن تؤمن في ساعة العُسْرة، فأجْرُ الذي يُؤْمن وكُلُّ العالم ضَدَّ الإسْلام؛ هذا له أجْرٌ كبيرٌ، إذا عمّ الإسلام الأرض، إذا أظهره على الدين كله، إذا أصبح الإسلام قوياً، فالإسلام شيء سهل جداً، يقبل الناس عليه أفواجاً، فَمَتى أقْبل الناسُ عليه؟ ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ﴾ عندئذٍ ﴿رَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجًا﴾ ، لذلك بعض المذاهب الفِكْرِيَّة حينما كانت ضعيفة، فالذين اعْتَنقوها حالَ ضعفها وفي بدايتها كانت لهم مكانة كُبْرى، فإذا أصْبَحَتْ قَوِيَّة فإنَّ الذين يدْخُلون فيها لا قيمة لهم، لأنهم دخلوها وهي قوية، فاعْتِناقُ المذْهب وهو في ضَعْفِهِ؛ هذا إيمانٌ كبير، لذلك هؤلاء الذين اتَّبعوا النبي عليه الصلاة والسلام في ساعة العُسْرة؛ كسيّدنا الصِدِّيق لهم مكانتهم في الإسلام، فأبو سُفْيان أسْلم ودخل الإسْلام ووقف على باب عُمَر ساعات طويلة فلم يُؤْذَن له، وبِلال وصُهَيْب يدْخُلان بلا اسْتِئذان فَعَظُمَ ذلك عنده، وعاتَبَ عمر بن الخطاب، وقال: زعيمُ قُرَيْش أبو سُفيان يقِفُ في بابك ساعاتٍ طِوالاً، وبِلال وصُهَيْب يدْخُلان بلا اسْتِئذان! فقال له كلمة واحدة: وهل أنت مثلُهما؟! هؤلاء اتَّبَعوه في ساعة العُسْرة، واضْطَهَدَهُم المُشْركون وعذَّبوهم، وكانوا يَضَعون الصَّخْرة على صدْر بِلال ويقول: أحَدٌ أحد، جاء الصِدِّيق واشْتراهُ من أُمَيَّة بن خَلَف، وقال له: والله لو دفَعْتَ به درْهما لَبِعْتُكَهُ، فقال له الصدِّيق: أما إنك لو طلبْتَ مئة ألف لَأَعْطَيْتُكَها! نَقَدَهُ الثَّمَن، ووضَعَ يدهُ تحت إبْطِهِ؛ رَمْزَ الأخوة في الدِّين، مع أن بلالاً عبدٌ حَبَشي، وسيّدنا الصِدِّيق من كُبراء قُرَيْش، ورغم هذا قال: هذا أخي في الله، فَكان الصحابة إذا ذكروا الصِدِّيق قالوا: هو سيِّدُنا وأعْتَقَ سَيّدَنا، وكان سيدنا عمر يخْرج إلى ظاهر المدينة لاسْتِقْبال بلالٍ الحَبَشي إذا قدِم من سفر، لذلك فإنّ الإيمان بعد النَّصْر سَهْلٌ، وأَجْرُهُ قليل، لكنَّهُ في زَمَن العُسْرة بُطولة.

إنْ أصبح المعْروف منكراً والمنكر معْروفاً فهذا زَمَنٌ صَعْب ٌ:


قال الرسول عليه الصلاة والسلام:

(( السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله, ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا: يا رسول الله, كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم, ألا هلم, ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا. ))

[ صحيح مسلم ]

(( إن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم وفي رواية: قيل يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم. ))

[ أخرجه الترمذي ]

(( كيف بكمْ أيُّها النَّاسُ إذا طَغى نِساؤُكم، وفسَقَ فِتيانُكم؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا لَكائنٌ؟ قال: نعمْ، وأشَدُّ منه، كيف بكم إذا تَركتُمُ الأمْرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا لَكائنٌ؟ قال: نعمْ، وأشَدُّ منه، كيف بكم إذا رأيتُمُ المُنكَرَ مَعروفًا والمعروفَ مُنكَرًا؟ ))

[ الطبراني في الأوسط وفيه ضعف  ]

كيفَ بكم إنْ أصبح المعْروف منكراً والمنكر معْروفاً، هذا زَمَنٌ صَعْبٌ، فلذلك قال تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ*وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجًا*فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا﴾ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبيهاً، فقد دخل رجل عليه وهو مع أصحابه، فلما انتهى المَجْلس قال: من الرجل؟ فقال عَدِيُّ بن حاتم - ملِكٌ من ملوك الغساسِنَة الشامِيِّين - فانْطَلق به ورَحَّب به إكْراماً له، وفي الطريق اسْتَوْقَفَتْهُ امْرأةٌ ضعيفة، فَوَقَفَ معها كثيراً يُكَلِّمُها في حاجَتِها، فقُلْت في نفْسي -القائل عديّ-: ما هذا بِأَمْر ملِك! فلما دَخَلْتُ بيْتَهُ، دَفَعَ إلَيَّ وِسادَةً من أدَمٍ مَحْشُوَّةً ليفاً، ويبْدو أنَّه ليس في بيْتِه غيرها! وقال: اجْلس عليها، فقلتُ: بل أنت، فقال: بل أنت، فَجَلَسْتُ عليها وجلس هو على الأرض فقال: إيهِ يا عَدِيَّ بن حاتم، ألمْ تكُ رُكوسِياً؟ فقال: بلى، فقال: أَوَلَمْ تسِرْ في قَوْمِك بالمِرْباع، فقال: بلى، فقال: فإنَّ ذلك لم يكُن يَحِلُّ لك في دينك! فقال عَدِيّ: حينها علِمْتُ أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسل يعْلمُ ما نجْهَل، ثمَّ قال لي: إيهِ يا عَدِيَّ بن حاتِم لَعَلَّهُ ما يمْنَعُك من دُخولٍ في هذا الدِّين أنَّك ترى أنَّ المُلْك والسُّلْطان في غَيْرِهم! وأيم الله، لَيوشِكَنَّ أنْ تسْمع بالمرأة البابِلِيَّة تَحُجُّ البيتَ على بعيرِها لا تخاف - من بابل إلى مَكَّة كُلُّها تُصْبح للمُسْلمين بلاداً مفتوحة- ثمَّ قال له: ولَعَلَّهُ يمْنَعُك من دُخولٍ في هذا الدِّين ما ترى من حاجَتِهِم - أيْ فُقَراء - وَأيْمُ الله لَيُوشِكَنَّ المال أن يفيضَ فيهم حتى لا يوجد من يأخُذَهُ، في عَهْد سيّدنا عمر جيء بالغنائِم، ووُضِعَت على الأرض، ووقف فارسان طويلان وأمْسَكا بَيَدَيْهِما رُمْحَيْهِما، ورفعا رُمْحَيْهِما فلم يرَ أحدهما رمح الآخر وكُلُّهُ ذهبٌ وفِضَّة. وَأيْمُ الله لَيُوشِكَنَّ المال أن يفيضَ فيهم حتى لا يوجد من يأخُذَهُ
سيّدنا عمر بن عبد العزيز، في عهْدِهِ جمع الزكاة، وأذاع في الناس: إنَّهُ من كان فقيراً فَلْيَتَقَدَّم لِيَأخذ حاجَتَهُ، فَلَم يتَقَدَّم أحد، ثمَّ قال: من كان مُغْرماً -عليه دين- فَلْيَتَقَدَّم، فلم يتقدَّم أحد! فلقد مَرَّ على الأمَّة الإسلامِيَّة حينٌ من الدَّهْر اكْتفى الناس.
 ثمَّ قال لِعِديّ: وَأيْمُ الله لَيُوشِكَنَّ المال أن يفيضَ فيهم حتى لا يوجد من يأخُذَهُ، ولعلّ ما يمْنعك من دُخولٍ في هذا الدِّين: ما ترى من كَثْرة عَدُوِّهم- من كُلِّ حدْب وصوب- وَأيْمُ الله، لَيُوشِكَنَّ أنْ تسْمع بالقُصور البابِلِيَّة مُفَتَّحَةً للعَرَب، فقالوا: لقد عاشَ عدِيّ بن حاتِم حتى رأى بابل مُفَتَّحَةً للمُسْلمين، وحتى رأى المرأة تَحُجُّ على بعيرها لا تخاف، فالأمن مستَتِبٌّ لهم، وحتى رأى أنَّ المال قد فاض فيهم.

إنْ آمنتَ بالله واقْتَنَعْتَ بالإسلام وطَبَّقْتَهُ في زَمَنٍ الإسْلام فيه ضعيف فأنت البطل:


 حينما يأتي نصْر الله والفتْح فالإيمان بالله سهْلٌ جداً، ولكنَّ البُطولة أنْ تؤمن بالله وأعْداءُ الإسلام كُثُر، وأن تؤمن بالله والأموال في أيديهم قليلة، وأنَّك ترى الملك والسلطان في غيرهم، إنْ آمنتَ بالله واقْتَنَعْتَ بالإسلام، والتزمت به وطَبَّقْتَهُ في زَمَنٍ الإسْلام فيه ضعيف، فأنت البطل:

ليس من يقْطع طرُقاً بَطلاً     إنّما مَن يتَّقي اللهَ البطلُ

[ ابن الوردي ]

﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ* وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجًا *فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ﴾ قبل أنْ نخرج من هذه الآية، قال عليه الصلاة والسلام:

(( روى أحمد في المسند عَنْ جَارٍ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَجَاءَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ عَنِ افْتِرَاقِ النَّاسِ وَمَا أَحْدَثُوا فَجَعَلَ جَابِرٌ يَبْكِي ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً وَسَيَخْرُجُونَ مِنْهُ أَفْوَاجاً.  ))

[ أحمد عن جابر رضي الله عنه بسند ضعيف ]

 ففي رمضان لا ترى من هو صائِم، مُعْظمُهم يأكلون، والمطاعِم مفْتوحة، يدخنون، في الأماكن العامة كل الناس مفطرون تقريباً، كما دخلوا فيه أفْواجاً يَخْرجون منه أفْواجاً، طبْعاً المُلْهِيات والفِتَن والاختِلاط وكَسْب المال بالحرام؛ هذا أمْرٌ شاع بين الناس، فإذا شاع الكَسْبُ الحرام والاخْتِلاط فماذا بقِيَ من الدِّين؟ فما هو الانْحِلال؟ إنّه كَسْب مالٍ بالحرام، وانْحِلال أخْلاقي، فإذا توافر هذان الوَصْفان ماذا بَقِيَ من الدِّين؟ الصلاة؟ لا قيمة لها، الصِّيام الشَّكْلي؟ لا قيمة له، الحجُّ والعمرة؟ أُفرِغا من مضمونهما، لذلك (إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً وَسَيَخْرُجُونَ مِنْهُ أَفْوَاجاً) .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور