وضع داكن
30-11-2024
Logo
الموت - الدرس : 1 - مقدمة عن الموت ، النهي عن تمني الموت
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

طبق هذه القاعدة في دروس العلم :

أيها الأخوة الكرام, قرأت قاعدةً في علم الصحة:
اجلس إلى الطعام وأنت تشتهي، وقم عنه وأنت تشتهي.
لو طبقت هذه القاعدة على دروس العلم لكانت رائعة، يعني عالج الموضوع الذي يحتاجه الناس، يشتهون معالجته, ولا تطيل فيه إلى درجة أنهم يملونه، وأنا من عادتي -إن شاء الله تعالى- أن أعالج موضوعاً حينما أشعر أن الأخوة الكرام قد استوعبوه, وأن المزيد فيه قد يقودهم إلى السأم، نعود إليه بعد أشهر عدة, نعود إليه وقد اشتقنا إليه.

من هو العاقل؟ :

يوجد أخ كريم لفت نظري, وقال لي: موضوع الموت لم يعالج في هذا المسجد معالجة طويلة، يمر سراعاً، أما كمعالجة متأنية مع النصوص فهذا لم يحدث، فقلت له: جزاك الله خيراً.
فأردت في هذا الدرس أن أبدأ موضوعاً يتعلق بالموت, لكن لا يقولن أحدكم: لمَ التشاؤم؟ الأغبياء يتغنون بالماضي، والأقل غباءً يعيشون الحاضر، أما العقلاء، الأذكياء، العباقرة يعيشون المستقبل, فالذي يعيش المستقبل هو العاقل، والذي يعيش الماضي هو الذي يجتر ذاته، والذي يعيش الحاضر بين بين, لذلك:
فالدول المتقدمة بالمفهوم الحضاري دائماً تخطط لسنوات مستقبلية، والدول الأخرى تواجه الأحداث، والدول النائمة أو النامية تتغنى في الماضي، فالتغني بالماضي لا يقدم ولا يؤخر، أما أن تواجه الأحداث أولاً بأول، والمبادرة بيد الأعداء يحدثون فعلاً, وأنت تردّ على هذا الفعل قد تنجح أو لا تنجح، أما البطولة أن تعيش المستقبل.

ما هو أخطر حدث في المستقبل؟ :

على مستوى فردي كل واحد له حياة شخصية.
إذا قلنا لأحد الأخوة الكرام: يجب أن تعيش المستقبل، ما هو أخطر حدث في المستقبل؟ مغادرة الدنيا، إلى أين؟ الإنسان يسافر ويرجع، يذهب في نزهة ويعود إلى البيت, يقوم بمهمة ثم ينام في البيت، يأتي بعد شهر بعد سنة، يذهب إلى بلد بعيد, يقيم شهراً أو شهرين، سنة أو سنتين، ثم يعود، أما هذه الرحلة التي لا عودة منها إلى أين؟ وماذا فيها؟ وما العملة الرائجة في هذه الرحلة؟.
أنا أعتقد أن هذا ليس من باب التشاؤم، ليس من باب السوداوية، وليس من باب أن تعيش في جو مأساوي، لا أبداً، فالموت مصير كل حي، الموت نهاية كل إنسان، الموت لا بد من أن نتجرع كأسه شئنا أم أبينا، ولم يُعفَ من هذا التجرع نبي مرسل, ولا سيد الخلق, ولا ملك عظيم، ولا غني كبير، ولا طبيب ماهر، الموت مصير كل حي:

كــــل مخـــلوق يموت ولا يبـقى إلا ذو العزة والجبروت
والليـــل مــهمــا طال فلا بـد مــن طـــلوع الفجر
والعــــمر مـــهما طال فلا بـد مــــن نــزول القبر
كل ابن أنثى وإن طالت سلامت ه يوماً علــى آلةٍ حـدباء محمول
فـإذا حمـلت إلى القبور جنازةً فـاعلم بأنــك بعدهــا محمول

قف هنا :

قبل شهر تقريباً لنا أخ كريم, وأبوه كما أظنه صالحاً، ولا أزكي على الله أحداً، اشترى قبراً قبل عام تقريباً, وكلَّ خميس يذهب إلى هذا القبر، قبل أسبوعين من وفاته نزل إلى القبر, وجاء بحمل رمل مزار ومده, وقال: هكذا أريح لي، وبعد أسبوعين كان نزيل هذا القبر.
أحد العلماء الأجلاء, وأنا أحترمه جداً، اشترى قبراً قبل خمس سنوات, وكلَّ خميس يزور القبر، وعلى الشاهدة مكتوب اسم هذا العالم، يا بني هنا مصيرنا، ثم دخل القبر ولقي عمله الطيب:
فالقبر صندوق العمل.

هذه أسعد لحظات المؤمن :

لحظة الموت كلحظه الامتحان إما نجاح أو فشل
فالتفكر بالموت لا علاقة له بالتشاؤم أبداً ولا بالسوداوية, هذا كلام الجهلة، هذا الحدث الذي لا بد منه شئنا أم أبينا, وليس له قاعدة, فقد يخطف الإنسان فجأةً, وبأي عمر, ففي الثلاثينات موت، وفي العشرينات، بالأربعينات، بالخمسينات، الموت ليس له قاعدة إطلاقاً، قاعدته الوحيدة أنه ليس له قاعدة، الشيء الذي تستعد له وتفكر فيه دائماً لا تفاجأ به، بل أنت قد أخذت احتياطات بالغة.
تصور أن طالباً مُجداً لحظة الامتحان, لا تغادر ذهنه طوال العام الدراسي, فحينما يأتي شهر حزيران, ويدخل إلى قاعة الامتحان, وتوزع الأسئلة, لا يخشى ولا يهاب, فالكتاب قرأه مرات ومرات, وحفظه, وحلله, وفهمه, وأجاب عن أسئلته، واستوعبه, تراه في هذه الساعات الثلاث في أسعد لحظات حياته, لأنه يقطف ثمار عام بأكمله.
وصدقوني -أيها الأخوة ولا أبالغ- المؤمن حينما يدنو أجله يكون في أسعد لحظات حياته, لأنه في هذه الساعة يقطف ثمن عبادته كلها، كل حياته؛ صلواته، ذكره، استقامته، ضبطُ جوارحه، ضبطُ أعضائه، ضبطُ دخله، تربية أولاده، دعوته إلى الله، تجشمه التعب في سبيل الله، انتهى التعب وجاء الإكرام، انتهى التكليف وجاء التشريف، انتهى العمل وجاء الجزاء، انتهى الكدح وجاء التكريم، انتهى السعي وجاء ترجمة قوله تعالى:

﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ﴾

[سورة الزمر الآية: 34]

النظرة السوداوية للموت ينبغي ألا تكون في حياة المؤمن، مرحباً بالموت كما قال بعض أصحاب رسول الله، والكلمة المشهورة جداً والتي تعرفونها:
كان القادة المسلمون يقولون لأعدائهم: جئناك بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.
لكن لو كان الإنسان شارداً، أو عاصياً، أو بعيداً، فذكر الموت ينخلع له قلبه فهو شيء مخيف.

دقق ما يقوله هذا الطبيب عن بعض حالات النزع :

مرّةً سألت طبيباً مختصاً بالقلب: صف لي بعض حالات النزع، قال: خوف ورعب، أحياناً يضغط على جبهته، وأحياناً يصرخ بويله, وأحياناً يأتي الإنسانَ عند الموت ألمٌ ينسيه كل متع الدنيا, يقول: لم أر خيراً قط, وأحياناً يأتي الموت كعرس للمؤمن، كتحفة للمؤمن.

ما يتعلق بموضوع الموت :

موضوع الموت طويل، لكن الذي أراه -إن شاء الله- من حين إلى آخر: أن نعالج بعض موضوعاته المتسلسلة, وله موضوعات كثيرة، لكن طبعاً الموضوع يبدأ في الدنيا، فمثلاً:
لقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تمني الموت.
وهذا أول موضوع، والموضوع الثاني:
خيركم من طال عمره وحسن عمله.
وهو موضوع متوازن جداً، فموضوع الموت فيه بضع عشرات الموضوعات، طبعاً في هذه الأسابيع -إن شاء الله, إذا أكرمنا الله- وهو نعالج بعضها.

هل للموت قاعدة؟ :

قصة ذكرتها لكم كثيراً, لكن مفيدة جداً, أذكركم بها:
لي صديق وهو أحد أقربائي, مدرس لامع ذكي، حياته منضبطة، جالس مع أصدقائه في سهرة ممتعة، وهو ذو دعابة, فقال لهم: أنا سوف أموت بعد حين طويل -لماذا؟ وكانت إجابته منطقية جداً- قال: أنا وزني خفيف، طعامي قليل، أسير على قدمي كثيراً، لا أدخن، لا أحمّل الأمور فوق طاقتها، لا أحمِل هموماً.
طبعاً: كلامه علمي, هذه كلها أسباب الموت، الشدة النفسية أحد أسباب الموت، الوزن الزائد أحد أسباب الموت العاجل، الصدمات، التدخين، والسهرة كانت يوم السبت في أحد أحياء ركن الدين، السبت التالي كان هو نفسه تحت التراب، لا قاعدة للموت إطلاقاً.

ذلك مبلغه من العلم :

أحد أخواننا الكرام قال لي: أنا ولدت في أحد أحياء دمشق المتواضعة ونحن فقراء، وكل أسرة منّا لها غرفة واحدة، قال لي: أنا وأهلي في غرفة، الغرفة الثانية لبيت عمي، بيننا حائط طبلة -في التعبير القديم- زوجة عمه أصيبت بمرض عضال، جاء الطبيب وأخبرها، وقال لنا: اكتبوا النعوة، واستعدوا للموت, ثم تحسنت تحسناً طفيفاً شيئاً فشيئاً، ثم شفاها الله عز وجل.
قال لي هذا المتحدث: يوم قال الطبيب: اكتبوا النعوة, أنا ولدت في الغرفة المجاورة، ولادته كانت في الساعة التي قال فيها الطبيب: اكتبوا النعوة، قال: ثم كبرت سبع سنوات ودخلت المدرسة، وتخرجت من المدرسة, وحللت مكان والدي في العمل التجاري، ثم اشترينا بيتاً آخر في أحد أحياء دمشق المرموقة، وجاءت امرأة عمي -التي قال الطبيب: اكتبوا نعوتها- جاءت بعد خمسةٍ وأربعين عاماً وزارتني في البيت.
هذه أطول مسافة سمعتها بعد قول الطبيب: اكتبوا النعوة, خمس وأربعون سنة.

واقعة :

لي صديق آخر أصيب بمرض, وقال الطبيب: غادروا به المستشفى انتهى، وكتب أخوه نعوته, وكان بيتي يومها في العفيف، وعندي درس الفجر, قلت لنفسي: سوف أقرأ النعوة الآن على الجدران، كنت أبحث عن النعوة, لأني قبل أن أنام قيل لي: انتهى، وغادروا المستشفى والطبيب قال: انتهى، وأحد أخوته كتب النعوة، فلم أر النعوة صباحاً، ثم قالوا: تحسن تحسناً طفيفاً, وعاش بعد ذلك سبع سنوات، والذي كتب النعوة مات قبله.
فليس للموت قاعدة أبداً والوقائع كثيرة.
على كلٍ؛ نحن أمام حدث مستقبلي, ولا نعلم متى يحل علينا؟ والصحة لا علاقة لها، قد يفاجأ الموت إنساناً في أعلى درجات الصحة، وقد يبقى الإنسان طريح الفراش ثلاثين سنة مشلولاً، ويتمنى أقرب الناس إليه أن يموت، لذلك أحدهم دعا دعاء:
اللهم من أراد بي سوءاً, فأصبه بشلل في يديه, وعمىً في عينيه، وسرطان في دمه, حتى يتمنى الموت فلا يجده.
فالموت أحياناً من رحمة الله الكبرى.

الموت رحمة بهذه المرأة :

حدثني أخ قال: لي والدة نربطها من يديها ومن رجليها على السرير، قلت له: لماذا؟ قال: لو أطلقنا يديها لأكلت غائطها وخلعت كل ثيابها, وبقينا اثنتي عشرة سنة نربطها مضجعة على ديوان يداها مربوطتان.
فالموت رحمة بهذه المرأة, لذلك اقرؤوا الآية الكريمة:

﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾

[سورة النحل الآية: 70]

قصة مشهورة لكنها مؤثرة :

ومرة ذكرت لكم قصة مشهورة مؤثرة أذكّركم بها:
كنت في مدرسة ثانوية, وعندي ساعة فراغ, فدخلت إلى غرفة مدير الثانوية، وجرى حديث ودي يشكو من أشياء كثيرة، فقال لي: قررت أن أسافر إلى الجزائر, وكان معمولاً بنظام إعارة المدرسين للدول العربية الشقيقة، قال لي: قررت أن أغيب خمس سنوات, ولن آتي إلى الشام في الصيفيات الأربع؛ فأقضي صيفية في فرنسا, والثانية في إيطاليا، والثالثة في بريطانيا، والرابعة في إسبانيا، وخلال هذه الأشهر, أتملى من متاحف كل دولة, وبيئتها الريفية, ومن معالمها, ومن حضارتها, وأختلط بأهلها، أريد أن أطلع على هؤلاء القوم كيف يعيشون؟ ثم أعود إلى الشام بعد خمس سنوات, وأشتري محلاً تجارياً أبيع فيه تحفاً شرقيةً، وهذه التحف ليس لها إشكاليات, لا تفسد, وليس لها تسعيرة مع التموين، وأجعل من المحل منتدى فكرياً لأصدقائي، وأترك أولادي يدبرون هذا المحل, وتابع ولا أذكر ماذا قال، مشروع لعشرين سنة قادمة، ضيّفني كأساً من الشاي, وانصرفت من عنده إلى صفي, ثم ذهبت إلى بيتي ظهراً, وخرجت مساءً لعمل آخر, وأنا في طريقي عائداً إلى البيت مساءً, رأيت نعوته على الجدران في اليوم نفسه، لقائي معه الساعة الحادية عشرة ظهراً، الساعة السابعة مساءً رأيت نعوته على الجدران.
فالموت يأتي فجأةً والموت صندوق العمل.
فهذا الحدث بل هذا الضيف الذي يأتي فجأةً, ولم يغير موقفه مهما رجوته، انتظره علينا سنة ثانية حتى نبيع هذه البيوت، حتى نصب السقف، لدينا بضاعة في الجمرك حتى نخلصها, فلا يعبأ برجاءاتنا، هذا الموت خطير جداً, ولا حدث أخطر منه, والدليل: قال تعالى:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾

[سورة الملك الآية: 2]

هذه مشكلة الموت :

الموت رحلة بلا عودة
والموت مشكلته: لا يذكر في كثير إلا قله.
أكبر حجم مالي تخسره في ثانية واحدة، توقف القلب؛ ماذا تملك من أموال منقولة أو غير منقولة صارت لغيرك، قدمت لك هدايا ثمينة في حياتك، لك مركبة تعتني بها، لا يركبها أحد سواك, تؤخذ مفاتيحها, وكانت لا يستعملها أحد من أولادك، جاء الموت فانتهى الأمر, ولم تعد تملك شيئاً, والكفن ليس له جيوب، بضعة أمتار من الخام الأبيض، في حين كانت بدلته ثمنها ثمانون ألفاً, والآن يلفوه بخام ثمنه عشرون ليرة، هذا هو الموت، الموت خطير جداً, مغادرة بلا عودة.

الموت مصير كل إنسان :

في بعض البلاد العربية التي فيها نفط, والناس يتهافتون على العمل بها، هناك عبارة إذا كتبت على جواز شخص تصيبه جلطة ويقف قلبه، إذا كتبوا له: المغادرة بلا عودة، مغادرة مع عودة ليس وراءها مشكلة، فهو يزور أهله ويعود، أما لو كتب على الجواز مغادرة بلا عودة، ينخلع قلبه, وهذه العبارة سوف تكتب على جوازاتنا جميعاً عند الموت, مغادرة بلا عودة، ولا أحد يسأل عن الميت: لماذا لم يأت وقد صارت الساعة الثانية عشرة؟
هل سمعتم أن أهل ميت مات عصراً, وعند الساعة الثانية عشرة تفقدوه لماذا لم يأت؟ لقد انتهى نهائياً، بل إن أهله يصرّفون كل حاجاته حتى لا يتذكروه, هذا هو الوضع الصحيح, لذلك فموضوع الموت خطير.
يقول شاب: أنا في أول حياتي بعيد عني شبح الموت.
الموت مصير كل إنسان
لكن الموت لا يعرف شاباً، ولا شيخاً, ولا صحيحاً, ولا مريضاً, ولا قوياً, ولا ضعيفاً. و:
سبحان من قهر عباده بالموت.
هذا الموضوع خطير ومهم ولصيق بأي إنسان، قد تتكلم عن الزكاة فهو موضوع رائع, ولكنك تقول: ليس لي علاقة بالموضوع فليس عندي أموال أملكها، الموضوع دقيق وعميق وعليه أدلة، لكن ليس لك علاقة به فأنت فقير، قد نتكلم عن الحج والفقير ليس عليه حج، أكثر الموضوعات تمس أناساً دون أناس إلا الموت, فهذا لا يستطيع قائل أن يقول: أنا ليس لي علاقة، هذا مصير كل إنسان، وهو مصير محتوم.
ذهبت إلى أمريكا قبل أشهر, فلفت نظري مقبرة, وهناك أيضاً موت:

﴿أينما تكونوا يدرككم الموت﴾

ومهما تكن أحوالكم يدرككم الموت، فلو كنت في بحبوحة ورفاه وغنى، فالإنسان مصيره إلى المقبرة.

إليكم هذه الأحاديث التي تنهي المسلم عن تمني الموت :

فأول موضوع في الموت تناولته في حديثي: النهي عن تمني الموت، وهذا ‏هو الأدب مع الله عز وجل, فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم:
عَنْ أَنَسٍ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ, فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي))

أحياناً الموت يزيد الإنسان شراً, لكنه يقول: يا رب توفني، أحياناً الحياة تزيدك خيراً, رواه الشيخان متفق عليه.
أخرج مسلم في صحيحه, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:

((قال عليه الصلاة والسلام:
وَبِإِسْنَادِهِ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لا يَتَمَنَّين أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ, ولا يَدْعُو بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ, إِنَّهُ إِنْ مَاتَ أَحَدُكُمُ, انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ, وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ من عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا))

المؤمن كلما عاش يوماً ازداد عملاً صالحاً، فممنوع على المؤمن أن يتمنى الموت، بعضهم يدعو الله يقصف عمره, هذه الدعوات كلها غير شرعية، وإذا شخص دعا على نفسه بقصفان العمر فلا أحد يقول له: آمين, هذه غير لائقة.
وأخرج البخاري والنسائي -رضي الله عنه- قال: قال عليه الصلاة والسلام:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:

((لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ, إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ, وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ))

طالما بقي وقت فالوقت فرصة للتوبة.

اغتنم هذه الفرصة :

اغتنم حياتك بفعل الخير
وهذه آية دقيقة جداً, قال تعالى:

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[سورة البقرة الآية: 148]

أنت مخير، فهذه الوجهة من اختيارك، من صنعك، من تصميمك، أنت في وقت محدود, وتتمتع في هذا الاختيار الذي هو سبب سعادتك، إن دخلت إلى محل مجوهرات, وقال لك صاحب المحل: تفضل واختر فهذه فرصة, وقد تشتري ألماسة ثمنها مائة وخمسون مليون دولار، كونه سمح لك أن تختار, فقد أعطاك فرصة كبيرة جداً لأخذ أثمن ما في هذا المحل, أليس كذلك؟ قال تعالى:

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[سورة البقرة الآية: 148]

أنت في زمن محدود، أنت بضعةُ أيامٍ, مُنحتَ حرية الاختيار، أكمل موقف أن تستبق الخير.

قف عند معاني هذه القصيدة الشعرية :

الآن: قال تعالى:

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[سورة البقرة الآية: 148]

في أي مكان وفي أية مكانة تكون:

لا تأمن الموت في طرف وفي نَفس وإن تمنَّعت بالحجــاب والـحرس
فمـا تـزال سـهام المـوت نافذة في جنــب مـدرع منها ومتـرس
أراك لسـت بوقّـاف ولا حـــذر كالحاطب الخابط الأعواد في الغلـس
ترجو النجاة ولم تسـلك مسـالكها إن الســفينة لا تجري على اليبس

رواية طريفة :

هناك رواية طريفة: أنه كان في عهد سيدنا سليمان رجل يحضر مجلسه، وملك الموت قَد وَفَدَ، فملك الموت حدق فيه النظر ملياً، فهذا الرجل قال له: من هذا الرجل الذي يحدق فيَّ؟ قال له: هذا ملك الموت، فانخلع قلبه, وقال له: أرجوك خذني إلى طرف الدنيا الآخر -طبعاً هذه القصة رمزية, سيدنا سليمان أوتي بساط الريح، وسخرت له الريح- فنقله إلى الهند إلى أقصى مكان، بعد يومين مات هناك، فالتقى هذا النبي الكريم بمِلكِ الموت, فقال له: لماذا كنت تحدق النظر فيه؟ فقال له: أُمرتُ بقبض روحه في الهند, لكني رأيته عندك فاستغربت.
قال تعالى:

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[سورة البقرة الآية: 148]

بأي مكان وبأي مكانة.

قف هنا :

رواد الفضاء في مركبة المتحدي، بعد سبعين ثانية كانت هذه المركبة كتلة من اللهب، طبعاً هذا الصاروخ الذي يخرق الجاذبية, يسير بأعلى سرعة صنعها الإنسان, بعد ما ارتفع قليلاً أصبح أشلاءً ومزقاً.

تحت أي باب يندرج هذان الحديثان؟ :

الوقت فرصة للتوبة
أول موضوع بالموت: ممنوع تمني الموت، وفي حديث آخر:
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يقول:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ, فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ, وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ, وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ عز وجل الإنَابَةَ))

[أخرجه البزار في مسنده, والإمام أحمد في مسنده]

الوقت فرصة للتوبة، والشيخان أيضاً أخرجا:
قَالَ أَنَسٌ:

((لَوْلا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: نهانا, لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُهُ))

الإنسان أحياناً يكون مدمن خمر ويتوب، يكون منحرفاً انحرافاً شديداً فيتوب، التوبة وقعت في زمن, فمعنى هذا أن الزمن خير، لو مات قبل التوبة على هذه الحالة, لكان في جهنم.

هذا حال عمرو بن العاص على فراش الموت :

ذكرت لكم قبل أسابيع: أن سيدنا عمرو بن العاص كان على فراش الموت, فبكى بكاءً شديداً، قال له ابنه: يا أبتِ لقد بشرك النبي، فلماذا هذا البكاء؟ فقال له: كنت في وقت على ثلاثة أطباق؛ الطبق الأول لم يكن في الأرض رجل أبغض إليَّ من رسول الله, وما كنت أتمنى إلا أن أتمكن منه حتى أقتله، فلو مت على هذه الحالة لكنت من أهل النار، ثم جاء وقت دخل الإسلام إلى قلبي, وآمنت برسول الله, وأحببته حباً ما كان على وجه الأرض إنسان أحب إليه من رسول الله, قال: فلو مت على هذه الحال لكنت من أهل الجنة، ثم في مرحلة ثالثة كان فيها في حيرة من أمره.
على كل؛ الإنسان أحياناً يكون مستحق النار، فإذا عاش سنتين أو ثلاثاً, وتاب إلى الله توبةً نصوحاً, يقبل الله توبته.

باب التوبة لا يغلق :

قال لي أخ مرة: لا تتصور يا أستاذ معصية بذهنك إلا فعلتها إلا القتل، ثم تاب إلى الله, وصلح دينه، واستقام, وصلحت وجهته إلى الله عز وجل.
أنا في حياتي الدعوية, عندي معلومات كثيرة جداً, عن أناس اقترفوا كل الكبائر, ومع ذلك فالله عز وجل في لحظة من اللحظات قبلهم، إذا أعلنوا يميتهم, قال تعالى:

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

[سورة الزمر الآية: 53]

نهاية المطاف :

عن سيدنا سعد بن أبي وقاص، أخرج المروزي, عن القاسم مولى معاوية, أن سعد بن أبي وقاص تمنى الموت، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمع، فقال عليه الصلاة والسلام:

((لا تتمنَّ الموت, فإن كنت من أهل الجنة فالبقاء خير لك، وإن كنت من أهل النار فما يعجلك إليها))

أحد حالين؛ مؤمن أو غير مؤمن، إذا كان مؤمناً كلما عشت يوماً ازداد عملك الصالح ، وإن كانت الثانية فلا بد إنها آتية.
عن ابن عباس-رضي الله عنه- قال عليه الصلاة والسلام:

((لا يتمنَّ أحدكم الموت, فإنه لا يدري ماذا قدم لنفسه؟))

والنبي دخل على بعض أصحابه وعمه العباس يشتكي:
عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ, أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ وَهُوَ يَشْتَكِي, فَتَمَنَّى الْمَوْت، فَقَالَ:

((يَا عَبَّاسُ, يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ, لا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ, إِنْ كُنْتَ مُحْسِنًا تَزْدَادُ إِحْسَانًا إِلَى إِحْسَانِكَ خَيْرٌ لَكَ, وَإِنْ كُنْتَ مُسِيئًا فَإِنْ تُؤَخَّرْ تَسْتَعْتِبْ خَيْرٌ لَكَ, فَلا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ, قَالَ يُونُسُ: وَإِنْ كُنْتَ مُسِيئًا فَإِنْ تُؤَخَّرْ تَسْتَعْتِبْ مِنْ إِسَاءَتِكَ خَيْرٌ لَكَ))

هذه بعض الأحاديث التي وردت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنهى الإنسان عن تمني الموت، هذا أول موضوع من موضوعات الموت, وعندنا موضوعات كثيرة عن الموت, نتناول بعضها في الأسابيع القادمة إن شاء الله تعالى.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور