الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الاتصال بالله عز وجل هو الطاقة التي تمدنا بقوةٍ لا حدود لها:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الواحد والثمانين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الأربعين بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)﴾
ذكرت أيها الإخوة في الدرس الماضي أن آية:
﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)﴾
جاءت مُقحمةً بين آيات الطلاق وبين آيات الجهاد، وبيَّنت أن الالتزام بأحكام الشريعة وهو أدنى تصرف إسلامي، وبين بذل النفس وما يتْبَعها من غالٍ ورخيص، يحتاج إلى اتصال بالله عز وجل، لأن الاتصال بالله عز وجل هو الطاقة التي تُمِدّك بقوةٍ لا حدود لها، تُمدّك بحماس لا نهاية له، تُمِدّك بسعادة لا توصف، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: رجلٌ من خُزاعةَ: لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فاستَرَحْتُ، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يقولُ: أَقِمِ الصلاةَ يا بلالُ! أَرِحْنا بها. ))
[ هداية الرواة: خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح ]
الآية التي جاءت بعد آية الصلاة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ أي رجل توفي وله زوجة، ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ أي إذا اقترب أجلهم، إذا حضرتهم الوفاة، إذا شعروا بدنو أجلهم، عليهم أن يوصوا أن تبقى أزواجهم في بيوتهن حولاً كاملاً مع الإنفاق والسكنى.
الإحسان أن يوصي الزوج المتوفى أن تبقى زوجته في بيته إلى نهاية العام:
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ﴾ إلى نهاية العام، ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قبل أن نمضي في شرح هذه الآية هناك آية أخرى:
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)﴾
الجمع بين الآيتين على النحو التالي: المرأة عليها أن تعتدَّ ببيت زوجها، وأن يُنْفَقَ عليها هي وأولادها أربعة أشهر وعشرة على وجه الإلزام، لعله لم يأت خاطب، لعل أهلها مسافرون، يجب أن تبقى في بيت زوجها إلى نهاية العام، تسكن ويُنفَق عليها، فعندنا عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة، هذه عدةُّ إلزامية، أما الإحسان أن يوصي الزوج أن تبقى زوجته في بيته، وأن يُنْفَق عليها إلى نهاية العام.
بعد وفاة الزوج ينبغي أن تُمَتَّع زوجته بأن تسكن في بيته وتأكل وتشرب:
قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً﴾ ينبغي أن تُمَتَّع؛ أن تسكن في هذا البيت، وأن تأكل وتشرب، أن تبقى فيه إلزاماً أربعة أشهر وعشرة، وأن تبقى فيه اختياراً إلى نهاية العام، مع الإنفاق عليها، ﴿مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ دون أن تُخْرَج من بيت زوجها بعد موته، ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ إذا خرجت من تلقاء نفسها مختارةً، وقد خطبها خاطب، قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ المرأة إذا توفي عنها زوجها وكانت شابةً، هي بحاجة إلى زوجٍ يحميها ويعتني بها، فإذا تزيَّنت للخُطَّاب، وإذا طمحت إلى زواج وفق الشريعة الإسلامية، وفق الأصول والآداب الإسلامية، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .
المعروف ما عرفته النفوس السليمة والفِطَر السليمة:
كلمة ﴿مَعْرُوفٍ﴾ من أروع ما تُفَسر به هذه الكلمة أن هذا الدين دين الفطرة، فالنفوس السليمة والعقول الصريحة تقبله وتأبى غيره، فالمعروف ما عرفته النفوس السليمة والفِطَر السليمة، والمُنكر ما أنكرته الفِطر السليمة، طبعاً استطراداً، هناك بعض المحاكم في بلاد الغرب يعتمدون على الفطرة السليمة، فيأخذون من عَرْضِ الطريق مجموعة من الأشخاص يَعرِضون عليهم وقائع جريمة، هؤلاء غير مُنحازين، ليس لهم مصلحة لا في إدانة المذنب ولا في تبرئته، ينطقون بشكل عفوي النطق الذي ينبغي أن يكون، فلذلك المعروف ما عرفته الفِطَر السليمة، والمنكر ما أنكرته الفِطَر السليمة، أي الفتاة حينما تعتني بهندامها، وتعتني بمظهرها لمن يخطبها، هذا شيء طبيعي، هذا مُرَكب في أصل فِطرتها، فالمرأة إذا كانت امرأة صالحة وفيّة وتوفي زوجها، وهي في مقتبل العمر، وأمضت العدة الشرعية في بيت زوجها، ثم أرادت أن تنتقل إلى بيت أهلها لتستقبل الخطاب مثلاً، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قال:
﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)﴾
أي المرأة التي طُلِّقت هذه فقدت أعظم شيء في حياتها، زوجها، فهذا الزوج فضلاً عن إعطائها المهر، وعن تسريحها بإحسان، ينبغي أن يُمَتِّعَها، قال بعض الفقهاء: أن يُمَتّعها بنصف مهرها إكراماً لها، تعويضاً عن فقد الزوج، هذا شيء الآن يبدو خيالياً، حينما يُزمع الرجل أن يطلق زوجته تنشأ الخصومات، تُتَراشق التهَم، وكل طرف يجعل الطرف الآخر في الوحل، ويُتَكلم في عِرض المرأة، ويُتَكلم في بخل الزوج.
أما لو كان هناك طلاق إسلامي، أي انقطعت المصلحة بين الزوجين، قال تعالى:
﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)﴾
التسريح بإحسان هو أن تعطيها مهرها كاملاً، وأن تعطيها نصف مهرها متاعاً من باب الإحسان، لذلك يقول الله عز وجل: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ الذي يتِّقي الله عز وجل، والذي يخشى اليوم الآخر، والذي أودع الله في قلبه رحمةً تجاه المرأة، انقطعت المصلحة بينهما، وكان الطلاق أولى، لا ينبغي أن يُنْشَر عِرضُها على الملأ، لا ينبغي أن يذكر ما ليس فيها من عيوب من أجل أن يُبَرِر عمله، التسريح بالإحسان ينبغي أن تُسَرحها سراحاً جميلاً، وأن تصمت عن عيوبها، هذه طرفة، قيل لإنسان عنده زوجة سيئة جداً: ألا تطلقها؟! قال: والله لا أُطَلقها فأغش بها المسلمين، على كل: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ يُروى أن امرأةً فرَّق شريح بينها وبين زوجها، فلما طالبه بأن يُمَتّعها، قالت: ليس عليه متاع، لأن هذا المتاع حقّ على المحسنين وحقّ على المتقين، وهو ليس كذلك.
العدة الإلزامية والعدة الاختيارية:
على كل يقول الله عز وجل:
﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)﴾
أحكام الشريعة تحتاج إلى إيمان، تحتاج إلى إنسان يعرف الواحد الديَّان، تحتاج إلى إنسان يخشى اليوم الآخر، فلذلك الإنسان قد يتخلّى عن بعض حقوقه خوفاً من الله عز وجل، أما المنافق إذا خاصم فجر، والذي نراه رأي العين أنه إذا نَشِبَت مشكلةٌ بين زوجين واقترب الأمر من الطلاق، كل طرف يُبالغ في الحديث عن الطرف الآخر إلى درجة أنك تتوهَّم أن الطرف الآخر سيِّئ إلى أبعد الحدود، والأمر ليس كذلك.
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ بعد الأربعة أشهر والعشرة، الأربعة أشهر والعشرة عدة إلزامية، بعد هذا الوقت عدة اختيارية، فإذا رأت الزوجة التي توفي عنها زوجها أنها بحاجة إلى مَن يخطبها، وانتقلت إلى بيت أهلها، ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ من تلقاء أنفسهن، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَاتِ﴾ عامةً، وللمطلقات إجمالاً، ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ كفى بها نعمة -كما ورد في الأثر-أن يتصاحب المتصاحبان ثم يفترقا، ويقول كل منهما للآخر: جزاك الله خيراً، عندك إمكان أن تَفُك شركةً وأن يقول لك شريكك: جزاك الله خيراً على هذه المدة التي أمضيتها معك؟ هل عندك استعداد أن تُطلق امرأة وأن تقول لك: جزاك الله خيراً على إحسانك غير المتناهي؟ الواقع غير ذلك، أما هذا هو الموقف الإسلامي السليم، حتى لو افترقت، حتى لو طلَّقت، حتى لو فصمت شركةً، حتى ولو أنهيت علاقةً، ينبغي أن تنتهي هذه العلاقة على قلب طيبٍ ونفسٍ هنيئة، ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ* كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ .
ثم يقول الله عز وجل، وقد انتقل الموضوع إلى موضوع الجهاد يقول:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)﴾
مَن هم؟ لم تأتِ هذه الآيات على ذكر أسمائهم، ولا على ذكر أماكنهم، ولا على ذكر أزمانهم، لا أسمائهم، ولا أماكنهم، ولا أزمانهم، ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ وقد يقول قائل: كيف يقول الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ مع أن النبي لم ير ذلك؟ قال علماء التفسير: حينما يُخبرك الله عز وجل، ينبغي أن تتلقى هذا الإخبار وكأنه شيء تشاهده، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾
مَن أصدق من الله حديثاً؟! فإذا أخبرك الله عن شيء يجب أن تتلقاه وكأنك تراه:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)﴾
يقول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ بعضهم يقول: لعل عدواً يتهددهم، فنزحوا عن بلادهم خوفاً منه، وهذا ما يجري الآن حينما تنشب حرب طائفية أو حرب أهلية في مجتمع ما، مئات الألوف تنزح عن أرضها وترجو السلامة في بلدٍ آخر، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ أو أن مرضاً يتهددهم، إلا أن الله عز وجل لم يذكر السبب، ولكن ذكر النتيجة، خرجوا من ديارهم وهم ألوف مؤلَّفَةٌ حذر الموت، وبعضهم قال: هم ألوف مُتآلفة قلوبهم وليسوا أعداء، لكن خطراً تهددهم، إما خطر عدوٍ داهم، أو خطر مرضٍ عُضال.
الله عز وجل قطع سلطان البشر عن الأجل والرزق:
على كل: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ أماتهم بكلمةٍ واحدة، ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ بكلمةٍ ثانية، ﴿لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ لعل من أوجه التفاسير أن هؤلاء ﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ خرجوا خوفاً من عدو متربِّصٍ بهم، وكأنَهم توهَّموا أن هذا العدو هو الذي سيقضي عليهم، هو الذي سيُنهي حياتهم، فخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذّرّ الموت، ولكن الله أكَّد لهم أن الموت بيد الله، هم خرجوا طلباً للسلامة فأماتهم الله، ثم أراد الله أن يُحييَهم فأحياهم، فالموت والحياة بيد الله وحده، الله عز وجل قطع سلطان البشر عن شيئين: عن الأجل، وعن الرزق، فرزقك عند الله، وأجلك بيد الله.
الله عز وجل ما أمرك أن تعبده إلا وقد طمأنك أن أمرك كله إليه:
لذلك هؤلاء ﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ خرجوا خوفاً من الموت فأماتهم الله بكلمةٍ واحدة ثم أحياهم، لذلك ورد في القرآن الكريم:
﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(8)﴾
أحياناً الإنسان يتوهَّم الموت عن طريق القلب، فإذا هو يموت بحادث، أحياناً يتوهَّم الموت في مكان خَطِر، في خط مواجهة، فيذهب إلى مكانٍ عميقٍ في الداخل، يأتيه الموت هناك، ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ﴾ قد تفاجؤون بموتٍ لم يخطر على بالكم، فلذلك هم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حَذَر الموت، خوف الموت، ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ مِن أعظم فضل الله علينا أن حياتنا بيد الله، وأن رزقنا بيد الله، وأن يدَ البشر مقطوعةٌ عن أن تتحكم بأرزاق العباد، وعن أن تتحكم بآجالهم، ولو بدا ذلك للسذَّج من الناس، أو لضعاف العقول، أو لضعاف الإيمان، أن زيداً أو عُبيداً بيده الرزق الوفير أو القليل، وبيده الحياة أو الموت، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ أي ما أمرك أن تعبده إلا وقد طمأنك أن أمرك كله إليه:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
لا يعقل أن يأمرك أن تعبده وأمرك ليس بيد الله، بيد زيد أو عُبيد، إذا كان أمرك بيد زيدٍ أو عُبيد كيف يقول الله لك: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ ؟ من أجَلِّ النِّعَم أن أمر الحياة والموت بيد الله عز وجل، يحيي ويميت، وأن أمر الرزق بيد الله عز وجل، وقد قيل: كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تُقرِّب أجلاً، لكن ضعف الإيمان، وضعف الإدراك، والبُعد عن جوهر هذا الدين، يُلقيان في القلب الخوف والهلع.
الجهاد الدعوي والجهاد القتالي:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)﴾
كنت أقول لكم دائماً: هناك جهاد النفس والهوى، وهذا الجهاد جهاد النفس والهوى هو الجهاد الأوّل، لأن المهزوم أمام نفسه لا يمكن أن يبذل لا من ماله ولا من حياته، لابدّ من أن تعرف الله، لابد من أن تجاهد نفسك كي تعرف الله وكي تطيعه، إذا جاهدت نفسك وهواك، عندك جهادٌ دعوي، وهذا الجهاد الدعوي مُتاح والحمد لله في معظم البلاد الإسلامية، الجهاد الدعوي، قال تعالى:
﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾
وقد سماه ﴿جِهَادًا كَبِيرًا﴾ أما حينما تكون قوياً، وتستطيع عن طريق الجهاد القتالي أن تنشر هذا الدين في الآفاق، وأن تكون في أعلى مستوى من القدوة الحسنة، عندئذٍ يتوجب الجهاد القتالي: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ويجب أن تُقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فمَن قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قُلْ ما شئت يسمعك، لكن لو قلت كلاماً طيِّباً ولم تكن أنت كذلك فإن الله عليم بما في الصدور، لا تخفى عليه خافية، ﴿أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ .
الأعمال الصالحة ومثيلاتها هي بمثابة قرضٍ حسنٍ لله عز وجل:
ثم -ودققوا في هذه الآية-يقول الله عز وجل:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾
ذاتُ الله العليَّة جعلها ربنا جلّ جلاله في موطن أن تُقرضه، إنك إن فعلت خيراً مع عباده فكأنما أقرضته قرضاً حسناً، إن أعنت الناس، إن يسَّرت على مُعْسِرهم، إن كشفت عن كُربتهم، إن نَفّست عن كربهم، إن أفرجت عن أسيرهم، إن أعطيت فقيرهم، إن عالجت مريضهم، إن فعلت خيراً تجاه عبدٍ من عباد الله، فإن هذا العمل الطيب هو قرضٌ إلى الله عز وجل، وسوف تأخذه أضعافاً مُضاعفة، هذا المعنى يؤكِّده الحديث القدسي الصحيح:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَا بْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ. ))
يا داود، استطعمتك فلم تطعمني؟ قال: كيف أُطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، إلى آخر الحديث.
هذا المعنى أيها الإخوة لو تأمَّلناه تأمُّلاً دقيقاً لذابت نفوسنا، خالق السماوات والأرض، الذات الكاملة يقول لك: إذا أحسنت إلى عبدٍ من عبادي كائناً مَن كان، أو إذا أحسنت إلى مخلوقٍ من مخلوقاتي كائناً مَن كان فهذا قرضٌ لي، وسأؤديه لك أضعافاً مضاعفة، هذا المعنى أيها الإخوة لو تمثلناه لانطلقنا في خدمة الخلق، أي إنسان إياك أن تسأله من أين أنت؟ هذا عبدٌ لله عنده كُربة يجب أن تُنفثها عنه، هذا محتاج يجب أن تساعده، هذا مريض ينبغي أن تُمرِّضه، هذا أخرق ينبغي أن تُرشده، هذا جاهل ينبغي أن تُعَلّمه، هذا منكسر ينبغي أن تجبره، هذه الأعمال الطيِّبة، ابتسامةٌ تلقى بها أخاً كريماً، مبلغ من المال تُقرضه لأخ محتاج، زيارةٌ لمريض ترفع بها معنويَّاته، هذه الأعمال الصالحة وَمثيلاتها ومثيلاتها هي بمثابة قرضٍ حسنٍ لله عز وجل، وسوف يضاعفه الله لك أضعافاً كثيرة، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾
إقراض العبد له سبب لإكرامه يوم القيامة:
بشكل مبسَّط أيها الإخوة، قد تجد صديقاً لك عزيزاً عليك، ابنه معه، وفي جيبك قطعة حلوى، إنَّك تُقدِّم هذه القطعة لابنه الصغير إكراماً لأبيه، قد لا تنتبه إلى الابن بقدر ما تنتبه إلى الأب، فهذه القطعة التي قُدِّمت لهذا الصغير هي في حقيقتها قُدِّمت للأب، إنك إن أكرمت ابنه فكأنما أكرمته، هذا المعنى لو تمثَّلناه جميعاً، إنك حينما تُحسِن إلى عبدٍ من عباد الله كائناً مَن كان، أو إلى مخلوقٍ من مخلوقات الله كائناً ما كان، فهذا قرضٌ لله عز وجل.
وهذه المرأة التي وجدت كلباً يأكل الثرى من العطش، نزلت بئراً، ملأت خُفَّها ماءً، ثم صعدت فسقت الكلب، فشكر الله لها، فغفر لها، هكذا المسلم، جميع المخلوقات أمامه سيَّان، بشر وغير بشر، مخلوقات لله عز وجل، فإذا طمأنهم، وتلطَّف بهم، وأحسن إليهم، وأكرمهم، ودلَّهم على الله، وأعانهم على أمر دينهم ودنياهم، فهذه الأعمال الطيِّبة هي بمثابة قرضٍ حسنٍ لله عز وجل، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ من باب التقريب، تصور مَلِكاً وهو يملك كل شيء، قال لإنسان فقير: أقرضني درهماً وخُذْ مكانه قصراً، أقرضني درهماً وخذ مكانه منصباً، أقرضني درهماً وخُذْ مكانه ثروةً، إذا أحجم هذا الإنسان الفقير عن أن يُقرض المَلِك درهماً واحداً ليأخذ مكانه قصراً منيفاً، أو ثروة طائلة، أو منصباً رفيعاً، فهو أحمق، هذا الذي أحجم عن أن يُقرض ملكاً، الملك غني، ولكن أراد أن يكون هذا القرض سبباً لإكرام هذا الفقير، وكأن الله عز وجل أراد من هذه الآية أن يكون إقراض العبد له سبباً لإكرامه يوم القيامة، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ .
إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله عز وجل فانظر فيما استعملك:
بالمقابل، هذا الذي يؤذي عباد الله، هذا الذي يغُشُّهم، هذا الذي يأكل أموالهم بالباطل، هذا الذي يملأ قلوبهم رعباً، هذا الذي يُفسد علاقاتهم، هذا الذي يُشتت أُسَرَهم، هذا الذي يُفسد طبيعتهم السليمة، إنسان يعيش من ترويج الفساد في الأرض، يُروِّج فيلماً، أو يُروِّج قصة داعرةً، أو يُروّج عقيدة زائغة، لإفساد عقائد الناس، أو إفساد أخلاقهم، هذا ماذا فعل؟ هذا فعل عكس ما أراده الله عز وجل، أراد الله منك أن تُقْرِضه قرضاً حسناً ليُضاعفه لك أضعافاً كثيراً، هذا بدَل أن يُقرض الله قرضاً حسناً أساء لخلق لله عز وجل، إما أن تكون أداة خير، وإما أن تكون أداة شر، وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ قصة، امرأة صالحة مُسنّة، تسكن في أحد بيوت الشام القديمة، وفي هذا البيت شجرة ليمون، تحمل ما يزيد عن خمسمئة حبة كل عام، وقد أَلِف أبناءُ الحي أنهم كلما احتاجوا إلى حبَّة ليمون يطرقون هذا الباب: أعطونا ليمونة، وهذه الإنسانة الكريمة الوقورة المتقدِّمة في السن لا تَرُد سائلاً، وهذه الليمونة تحمل أعداداً مخيفةً كل عام، وكأنها رزق أهل هذا الحي، ماتت سيدة هذا البيت، وكانت زوجة ابنها شابةً جاهلة رَعْناء، فلما طُرق الباب أول مرَّة لطلب ليمونة ردتهم وطردتهم، وانتهى الأمر، الليمونة يبست وماتت، انتهى الأمر.
تعطي يُعطي، تبخل لا يعطيك، فأنت حينما تَتعرَّض لسؤال شخص يسألك، يجب أن تفرح لأن الله إذا أحبّ عبداً جعل حوائج الناس عنده، أنت حينما تتصوَّر أنّ أيّ عمل صالحٍ مع أي مخلوق؛ لو أنقذت نملة من الغرق وأنت تتوضأ، هذا قرضٌ حسن لله عز وجل، لو أنقذت فراشةً، لو أزحت من أرض المسجد قشةً، وضعتها في جيبك، أيّ عمل مهما تتصوره صغيراً هو قرض لله عز وجل، وسيضاعفه لك أضعافاً كثيرة.
عند المِحَك تفتقد الرجال وعند الغنائم يجتمع الرجال:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)﴾
الكلام سهل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)﴾
الكلام سهل، يبدو أن هذا النبي الكريم كان خبيراً بهم، فــ ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ الآن أنتم تتمنون أن تقاتلوا في سبيل الله، لو أنّ الله فرض عليكم القتال هل ممكن ألا تقاتلوا؟ قالوا: ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ نحن مطرودون من بلادنا، ونحن خسرنا أبناءنا، فلمَ لا نقاتل في سبيل الله؟! ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ﴾ عند المِحَك تفتقد الرجال، عند الغنائم يجتمع الرجال، أما عند الشدائد لا ترى معك أحداً، ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ مَن هم الظالمون؟ الذين ظلموا أنفسهم بعدم استجابتهم لأمر ربهم.
الله عز وجل له مقاييس والبشر لهم مقاييس أخرى:
قال تعالى:
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)﴾
طالوت هذا اسمه، بعثه الله لهم ملكاً يقود جهادهم لاسترداد أرضهم، ولاسترداد كرامتهم، فـ ﴿قَالُوا﴾ ولهم مقاييس دنيوية، ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ أي المَلك عندهم الذي يقودهم إلى الخير ينبغي أن يكون وجيهاً، غنياً، مُتْرَفاً، مشهوراً، أما أن الله اختار لهم إنساناً فقيراً لكنه شجاع ومؤمن وقوي، هذا بمقاييسهم قد رُفِض، ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ أن هذا المجتمع وأي مجتمع، له مقاييس، وأن الله جلّ جلاله عنده مقاييس، قد تتعارض مقاييس الإله العظيم مع مقاييس البشر، الناس مَن يُعَظِّمون؟ يُعظِّمون الغني، ويُعظِّمون القوي، ويتجاوزون عن أخطائهم، أما الفقير فيضعونه تحت المجهر، حتى لو قال: لا إله إلا الله يحاسبونه عليها، أما الغني قد يرتكب الموبقات، وقد يأتي بالسفاهات، وقد يأتي بالأشياء غير المقبولة، ومع ذلك يغضّون الطَّرْف عنه، هذه مقاييس بني البشر.
الذي يقود أمةً إلى معركةٍ مصيرية ينبغي أن يكون عالماً:
لما: ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ هذا الذي يقود أمةً إلى معركةٍ مصيرية ينبغي أن يكون عالماً، ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ أي أمدَّه بعلمٍ عميق، وبقوة جسميّة قوية، ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أنت لا تعترض، الله عز وجل يُؤتي مُلكه مَن يشاء، لحكمةٍ بالغة بَالغة، ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ .
اختلاف العلماء حول المقصود بـ(التابوت):
ثم قال هذا النبي الكريم:
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)﴾
اختلف العلماء حول هذا التابوت، التابوت ورد في قصة سيدنا موسى:
﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)﴾
قالوا: هذا التابوت الذي نجَّى الله به موسى كان محبوباً عند بني إسرائيل ثم ضاع منهم، بحثوا عنه فلم يجدوه، فكان من علامة أن هذا المَلك اختاره الله عز وجل طالوت أن يأتيهم التابوت، وبعضهم قال: إن التابوت صندوق فيه التوراة، وفيه الآيات التي أنزلها الله على نبيه موسى عليه السلام، لكن المعنى الثاني أوجه: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ أقوال هذا النبي، كيف أنه في ديننا هناك كتابٌ كريم هو القرآن الكريم، وهناك أحاديث شريفة تبيان النبي عليه الصلاة والسلام لما في القرآن الكريم، كذلك هذا التابوت؛ الصندوق الذي كانت فيه ألواح سيدنا موسى وما فيها من آيات مُحْكَمات، ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ علامة أن طالوت اختاره الله لكم ليقودكم في جهادٍ تستردون به أرضكم وكرامتكم.
الآية التالية جزءٌ من القصة وفيها أيضاً إشارة إلى حقيقة علمية:
قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)﴾
بنهر فيه ماءٌ عذب، ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ طبعاً، إضافة إلى أن هذه الآية جزءٌ من القصة، فيها إشارة إلى حقيقة علمية وهي أن الإنسان إذا بذل جهداً عالياً جداً جِداً في وقت حرّ شديد، ثم وصل إلى ماء بارد عذب كالفرات، وشرب حتى ارتوى، ربما يموت من لحظته، لأن حرارة الجسم في أعلى مستوى، فإذا أدخلت إلى جوفك ماءً بارداً فجأة، هناك عصبٌ في المعدة اسمه: العصب الحائر، هذا عصبٌ مربوطٌ بين المعدة والقلب، وهناك حالات كثيرة لوفاةٍ مفاجئة تمت بسبب شُرْب ماءٍ بارد جداً عَقِب جهدٍ كبير جداً، هذه حقيقة، هناك مَن يموت فجأة، هؤلاء الذين ضلّوا في الصحراء إذا وصلوا إلى ماء بارد، وشربوا منه حتى ارتووا، ربما أصابتهم سكتة قلبية، هذه حقيقة، لكن هنا سياق الآيات، ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ امتحان آخر، مع أنه حقيقة طبيّةٌ، امتحان، ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ معنى ذلك أن الإنسان إذا بذل جهداً كبيراً جداً وعالياً جداً، وكان في أعلى حالات العطش، له أن يشرب كميةً قليلةً جداً، فإذا شرب ما يملأ كفَّه، ومصه مصاً، لعل الخطر لا يقع.
الإنسان إذا عصى أو خالف يشعر بوهن في قواه:
﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ﴾ الذين قاتلوا معه قليل مِن كثير، والذي امتنعوا عن شُرب ماء النهر أيضاً قليل من كثير، ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ هنا الحقيقة، الحقيقة أنّ الإنسان إذا عصى أو إذا خالف يشعر بوهن في قواه، الآن لو إنسان ملتزم تماماً يقوم إلى الصلاة نشيطاً، أما إذا سمح لنفسه أن يفعل شيئاً لا يُرضي الله، وأذَّن العشاء يقوم إلى الصلاة متكاسلاً، صار حجاب بينه وبين الله، فهؤلاء الذين عَصَوا أمر قائدهم وشربوا من ماء النهر لما واجهوا العدو القوي، ﴿قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ هذا ينقلنا إلى أن هناك نصراً استحقاقياً.
لو كنتم قلةً، لكنكم إن كنتم مؤمنين حقاً، متمسكين بأهداب الشرع، ملتزمين، مفتقرين إلى الله عز وجل ولو كنتم قلة، لقوله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ هذا هو النصر الاستحقاقي.
أما حينما يقول الله عز وجل:
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)﴾
هذا نصر تَفَضُّلِّيّ، قد لا يستحق الرومان أن ينتصروا على الفُرس، قد لا تتوافر فيهم شروط النصر، ولكن حكمة الله اقتضت أن ينصر الأقل سوءاً على الأكثر سوءاً، هذا نصر تفضُّلي، وقد تستمعون إلى نصرٍ في العصور الحديثة يشبه النصر التفضُّلي، قد لا يستحق المنتصر أن ينتصر، إلا أن حكمة الله تقتضي أن ينتصر الأقل سوءاً أن يغلب الأكثر سوءاً، هذا النصر الثاني، النصر التفضلي.
أما النصر التكويني فهذا لا علاقة به بالدين إطلاقاً، طرفان بعيدان عن الله، طرفان جاهلان، طرفان مُعرضان عن الله، طرفان لا يؤمنان بالله إطلاقاً، هذان الطرفان ينتصر الأكثر عُدَّة، والأكثر عدداً، والأمضى سلاحاً، والأكثر دقّة في الرمي، والأغنى، والأقوى، والأعلم، فهذا عندئذٍ نصر تكويني، لا علاقة له بالدين، لذلك قالوا: المعركة بين حقين لا تكون لأن الحق لا يتعدَّد، وبين حقّ وباطل لا تطول لأن الله مع الحق، وبين باطلين لا تنتهي، هذا هو النصر التكويني.
توازن القوى من نِعم الله الكبرى:
أما قوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)﴾
هؤلاء القلة القليلة، ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ بهذا الدعاء المخلص قال:
﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)﴾
الذي كان في جيش طالوت، ﴿جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ هنا المغزى، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ حينما تكون القوى متوازنة هذه من نِعم الله الكبرى، توازن القوى، أما حينما ينفرد قطب واحد في الأرض نرى العجب العُجاب، نعمة التوازن لم نكن نعرف قيمتها، أما الآن عرفنا قيمة التوازن بين القوى في العالم، من صالح الضعفاء، من صالح الدول الكثيرة، أما حينما ينفرد قطبٌ واحدٌ بالقوة يفعل ما يشاء دون رحمة، ودون خوفٍ أو وَجَل، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ .
قصص داود وطالوت وجالوت تشهد للنبي محمد بالنبوة:
أيها الإخوة؛ مرة ثانية: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ توازن القوى، ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ من دلائل فضله أنه جعل القِوى متوازنة في الأصل، أما لاستثناءٍ أراده الله حينما تكون قوة واحدة تستقطب العالم كله فهذا يعود بالويلات على بقية الشعوب، على كلٍّ اللهم أرنا نعمك بدوامها لا بزوالها.
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)﴾
لكن من أين جاء النبي بهذه القصص؟ داود وطالوت وجالوت، وهؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟ هذه قصص لم يشهدها النبي عليه الصلاة والسلام، فلما جاء بها مُفَصّلةً، واضحةً، جليّةً معنى ذلك هذه القصص تشهد له بالنبوة لقول الله عز وجل:
﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)﴾
فمَن علَّمك هذا؟ إنه الله عز وجل: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ﴾ من خلالها، ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ .
الملف مدقق