وضع داكن
01-12-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 05 - الخلع.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الواعد الأمين، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم ، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانْفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علمًا ، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجْتِنابه ، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين .

أمراض الإنسان متأتية من بعده عن الله عز وجل :

أيها الأخوة المؤمنون ، ربّنا سبحانه وتعالى في سورة البقرة يخاطب سيّدنا آدم عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام ، قال تعالى :

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 38 ]

عندنا هُدَى بالزواج ، فمن طبَّق شرع الله بالزواج لا خوفٌ عليه ولا هو يحزن ، والعلماء فرّقوا بين الخوف والحزن ، الخوف ممّا سيكون والحزن عمّا مضى ، فلو جاء ملك الموت لا يخاف ممّا بعد الموت ، ولا يحزن على ترك الدنيا ، وهل في الدنيا حالةٌ أرقى وأشرف وأبعث على الطمأنينة من أن تواجهَ شيئاً لا تخاف ممّا سيليه ؟ ولا تخاف ممّا كان ؟ فهذه الحالة النفسيّة تغطّي ما كان وما سيكون ، أحيانًا الإنسان يخاف ممّا سيكون يكاد قلبهُ ينخلع ، أو يحزن على ما كان ، فإذا عرف الإنسان الله عز وجل لا يحزن على ما فاته من الدنيا ، ولا يهلع لما سيُصيبُه في المستقبل ، لأنّ الله عز وجل طَمأنهُ ، فهذه الأبحاث الفقهيّة في الزواج ، والطلاق ، والمخالعة ، و أبحاث البيوع ، والعلاقات الشخصيّة ، وعلاقات الإنسان مع الله عز وجل ، علاقاته مع جيرانه وزوجته وأولاده ، كأنّه قطار ماشٍ على سِكَّةٍ في سلامة ، فإذا خرج عن هذه السكَّة تعرّض هذا القطار للتَّدَهْوُر ، تمامًا حينما يخرج الإنسان عن خطّ الله عز وجل يتدَهْوَر ، فالأمراض النفسيّة كثيرة جدًّا ، ما هي الأمراض ؟ هي شعور بالاختلال الداخلي ، هذا الدِّين دين الفطرة أحيانًا تمشي بالسيارة على الزّفت ، تقول : هذه السيارة مصنوعة لهذا الطريق ، وهذا الطريق لهذه السيارة ، أما إن مشَيت بها في طريق وعِرة فتشعر أنّ الوضع غير طبيعي فهذه الطرق ليسَت لهذه السيارة .
الباخرة بالبحر هذا مكانها الطبيعي ، السَّمَك بالماء مكانه الطبيعي ، لمَّا الإنسان يعرف الله عز وجل تستقرّ نفسهُ ، ربّنا عز وجل في آيات كثيرة قال:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[سورة الروم: 30]

أي هذا الدِّين بِتَشريعاته ، وعلاقاته العامّة والخاصّة ، العبادات والمعاملات ، كلّ هذه العلاقات تنطبق انْطِباقًا تامًّا على فطرة الإنسان ، فالإنسان دائمًا يحسّ أنَّه مخلوق بهلع شديد ، الدِّين يُزيل هذا الهلَع ، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾

[ سورة المعارج: 19-22]

ذهب الهلَع ، وذهب الحسَد:

ملك الملوك إذا وهب لا تسألنَّ عن السَّبب
الله يـعطي من يشاء فقِفْ على حدّ الأدب
***

أكثر أمراض الإنسان مُتأتِّيَة من بعده عن الله ، سأقول كلمة الآن : الإنسان لو جُمِعَت له الدنيا من أطرافها ، لو جمع مالها إلى سلطانها إلى ملاذِّها إلى مباهجها إلى العمْر الطويل إلى الزواج الناجح وكان بعيدًا عن الله عز وجل فهو أشقى الناس ، وإن وجدْتم في علاقاتكم ، وفي خبراتكم ، وفي معارفكم ، أو من يلوذ بكم إنساناً بعيداً عن الله تعالى وسعيداً فهذا الدِّين يكون باطلاً ، قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

[ سورة طه: 124]

قانون ؛ مَنْ اسم شرط جازم ، تعريف الشّرط في اللّغة : حدَثان لا يقع الثاني إلا بوقوع الأوَّل ، فإذا وقع الإعراض فجزاء الشرط حَتميَّة وقوع الجواب بالمئة مئة ، كأن تقول : إذا لمَسْت المدفأة وهي مشتعلة تحترق يدك ، احتراق اليد شيءٌ لازِم ؛ أيْ حَتْمي ، قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

[ سورة طه: 124]

كلّ الأبحاث الفقهيّة الهدف منها الإنسان يسلك طريق الإيمان .

الخلع :

نحن في دروس سابقة تحدَّثنا عن الخلع ، أو المخالعة ، كما أنَّ الزَوْج الله سبحانه وتعالى أعطاه الطَّلاق ، هو الذي عقد الزواج ، يستطيع الزَّوْج لأسباب قاهرة أن يستخدم حقَّه فإما العلاقة الزوجيّة وهي الطلاق ، ولكن الذي يستخدم هذا الحقّ للطَّرَف الآخر تنشأ حقوق واجبة ؛ المهر ، وكذلك الزوجة ، كأنَّ ربّنا عز وجل جعل الطلاق والمخالعة صمّام أمان في هذا الوعاء البخاري ، ففي الوعاء البخاري مادام محكم الإغلاق هناك منطقة يضعون لها قطعة بلاستيك ، فإذا كان الإحكام شديداً والضغط صعد وكان هناك احتمال لانفجار الوعاء تذوب هذه القطعة وتفتح البخار ، ويتلافى الانفجار تمامًا ، في الزواج هناك صمَّام لسلامة هذا الزواج ، فإذا كانت العلاقة بين الزَّوجين بِشَكل متفجِّر يأتي الطلاق من طرف الزَّوج ، وتأتي المخالعة من طرف الزوجة ، ولكنّ الزَّوج إذا طلَّق عليه المهر ، أما الزوجة فتطلب المخالعة فعليها أن تفتدي نفسها بما قدَّم لها .
الخلْعُ كما سبق إزالة مُلْك النِّكاح في مقابل المال ، فالعِوَض جزءٌ أساسي في مفهوم الخلْع ، أي لا يوجد خلْع من دون عِوَض ، لأنّ الزَّوْج تكلّف ودفع ، دفع خمسين ألفًا ، وكتب عليه خمسين ألفًا ، وأسّس البيت وفرش ، ووضع كلّ شيء جمَّعه بهذا الزواج ليَسْتقرّ ، ليجد طبخة مطبوخة عند الرجوع ، وليجد امرأة تنتظرهُ ، ليُحْصِن نفسهُ ، فإذا لم ترغب به المرأة وجب عليها أن تدفعَ له كلّ التكاليف ، لا خلْعَ بلا عِوَض ، فهذا جزء أساسي في مفهوم الخلع فإذا لم يتحقّق العِوَض لم يتحقّق الخلع ، وهو باطل .

الفرْق بين النِّكاح الفاسد والنِّكاح الباطل :

نحن تكلمنا سابقًا عن الفرْق بين النِّكاح الفاسد والنِّكاح الباطل ، النِّكاح الفاسد يُصحَّح ، أما النِّكاح الباطل فلا يُصحّح ، فإذا قال الزوج لزوجته : خالعْتك وسكت لم يكن ذلك خلعًا ، خلع باطل ولا يسمَّى ذلك خلعًا ، خالعْتك على ماذا ؟ على أن تردِّي إليّ ما أعطيتك إيّاه!! هنا الخلْع صحيح .
ثمّ إنَّه إن نوى الطلاق كان طلاقًا رجعيًّا ، بالمناسبة إذا الإنسان استخدم ألفاظ الطلاق ليْسَت النيَّة شرطًا في الطلاق ، أما إذا استخدم عبارات أخرى غير عبارات الطلاق فعندئذٍ تُشترط النيّة ، إذا الإنسان قال : وهبتك هذا الكتاب بمئة ليرة ، ما دام قال : بمئة ليرة فهو ينوي البيع فهذا عقد بيع ، أما إذا قال : بعتك هذا الكتاب بلا ثمن ، هو قال : بلا ثمن فهو يعني هديّة ، فالإنسان عندمَّا يغيّر الألفاظ النيّة شرط أساسي ، أما إذا لم يغيِّر الألفاظ من دون نيّة ، إذا قال لآخر بِعنِ هذا القلم ؟ فقال: بعتكه بِلَيرة ! انْوِ ما شئت ، أما إذا قلت له : هَبني وخذ ليرة فكأنّك تريد البيع .
أحيانًا تدخل إلى مكتبة عند بائع ، تقول له: كم ثمن المصحف ؟ يقول لك: أعوذ بالله ، هذا وهبه خمسون ليرة ! فقط خمسون !! أنا الذي أراه الأمور بمقاصدها ، أنت تدفع ثمنه فلا تقل له بيعه بخمسين ، قل: وهبه على خمسين ليرة ، من أجل الشرع ، لأن الألفاظ هذه شيء غير طبيعي .
إذًا : فإذا قال الزوج لزوجته : خالعْتك وسكت ، لم يكن ذلك خلعًا ، أما إذا قال: خالعتك ونوى الطلاق ، هذا أصبح طلاقًا وليس مخالعة ، وكان طلاقًا رجعيًّا ، كما تحدّثنا من قبل عن الطلاق الرجعي ، وإن لم ينو شيئًا لم يقع شيء ، إذا قال: خالعتك وسكت ، وما نوى الطلاق هذا كلام لا معنى له لا يقع شيئًا إطلاقًا ، لأنَّه من ألفاظ الكناية التي تفتقر إلى نيّة .
الشافعيّة قالوا : لا فرْق في جواز الخلع بين أن يخالع على الصداق أو على بعضه أو على مال آخر سواء أكان أقلّ من الصداق أو أكثر ، ولا فرق بين العَين والدَّيْن والمنفعة ، ربّنا عز وجل أطلق ، والمطلق على إطلاقه ربّنا عز وجل بالمخالعة ، وفي آية المخالعة يقول تعالى:

﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾

[ سورة البقرة: 229]

بالآية لا يوجد تخصيص أنَّ المهر بالذات مال آخر ، قدَّم لها المهر مثلاً أساور بأربعين ألفاً ، وهي معها نقدي ، فدفعت له ثلاثون ألف ليرة سورية ، هذا ممكن ، افْتَدَت به فكما يقول الشافعيّة : لا فرق في جواز الخلع بين أن يخالع على الصداق نفسه ؛ دفع لها أربعين ألفاً بشكل أساور ذهبيّة ، ممكن أن تعطيه الأساور نفسها أو على بعضه خمسة أساوِر من ستّة ، ثلاثة من ستّة ، أو على مال آخر كأن تقول له : خذ الدكان وخلّصني ، سواء أكان أقلّ من الصداق أو أكثر ، ولا فرق بين العَين والدَّيْن والمنفعة ، وضعت له سنداً ، تأخذ أجرة بيت بعد سنة ثلاثة آلاف هذا ممكن دَين ، أو منفعة من دون مقابل ، أو عَين كأن تقدّم له قطعة ذهبيّة أو سيارة .
وضابطه - أي الشيء الذي يضبطه - أنّه كلّ ما جاز أن يكون صداقًا جاز أن يكون عِوَضًا ، كلّ شيء يمكن أن يكون صداقًا يمكن أن يكون عوضًا ، الصحابة على درع ، أو على تحفيظ القرآن ، أو على إسوارة من ذهب ، أو قطعة من فضة ، أو على عين ، أو على جمل ، أو زيتون ، كلّ ما جاز أن يكون صداقًا جاز أن يكون عوضًا في الخلع لِعُموم قوله تعالى:

﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾

[ سورة البقرة: 229]

هذا الشيء العام في موضوع الخلع .

 

جواز أن تدفع الزوجة للزوج أكثر مما أخذت :

لكنّ جمهور الفقهاء ذهبوا إلى أنّه يجوز أن يأخذ الزوج من الزوجة زيادة على ما أخذت منه ، المهر خمسون ألفًا قالتْ له : خُذْ ستِّين ألفًا وخلِّصْني ، فجمهور الفقهاء قالوا : يجوز لقول الله تعالى:

﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾

[ سورة البقرة: 229]

لكنّ بعضهم قال : لا يجوز ، أي عندنا شخص العِوَض هو المهر ، لماذا ؟ هل هذه تجارة ؟ تزوَّج ثمّ أصبح يقسو عليها ، حتى عافَت المهر ، وأصبح الزواج تجارة .
روى البيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: " كانت أختي تحت رجل من الأنصار فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقال: أتردّين حديقته ؟ قالت : وأزيد عليها - معناها متألّمة كثيرًا - فردَّت عليه حديقته وزادته " ومن هنا أخذ العلماء أنَّه يجوز أن تدفع الزوجة أكثر مما أخذت ورأى بعض العلماء أنّه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها أكثر مما أخذت منه ، لما رواه الدارقطني بإسناد صحيح أنّ أبا الزبير قال : " إنّه كان أصدقها حديقةً فقال النبي عليه الصلاة والسلام : أتردّين عليه حديقته التي أعطاك ؟ قالت : نعم ، وزيادة ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما الزيادة فلا ! ولكن حديقته " عندنا روايتان لحديث واحد ، رواية فيها زيادة ورواية من غير الزيادة ، بعض العلماء أخذ الزيادة ، وبعضهم الآخر أكتفي بعدمها ، واختلاف الفقهاء رحمة واسعة ، واتفاقهم حجّة قاطعة ، كأنّ - سبحان الله - اختلاف الفقهاء الكبار توسعة على الناس ، ممكن لواحدة أن تكون متألّمة كثيرًا ، الزوج دفع مبلغًا زهيدًا ، وهي في بحبوحة فوهبَت له على أن يتركها ، في بعض المذاهب يجوز ، وعلى بعضها الآخر لا يجوز ، وكنت أقول لكم : إنّ التقليد يجوز ، والتلفيق لا يجوز ، وهناك حالات يسعها الشرع .

طريقة الفقهاء الكبار في استنباط الأحكام :

هنا الخلاف في أصول الفقه ، ما معنى أصول الفقه ؟ طريقة الفقهاء الكبار في استنباط الأحكام ، هل يجوز أن يأتي حديث فيُخصِّص آية ؟ بعضهم قال : يجوز ، والبعض الآخر قال : لا يجوز ، الأصل في الخلاف تخصيص عموم الكتاب بالأحاديث الأحاديّة ، فمن رأى أنّ هموم الكتاب يُخصَّص بأحاديث الآحاد مثلاً ، إذا قلنا : أعلى راتب في الدولة خمسة آلاف ليرة هذه مادة الدستور ، وسيصْدر قانون يفصّل ذلك القانون ؛ ألا يستطيع أن يقول أعلى راتب ثمانية آلاف ؟ الدستور وضع حدّاً أعلى ، فالقانون إذا أراد أن يفسّر ويوضّح راتب الموظّفين وأنواع التعويضات عليه أن يتقيّد بهذا السقف ، من الألف إلى الخمسة ، وبعضهم قال: يجوز و للتفسير أن يتجاوَز السقف ، وهو رأي ضعيف ، ربّنا عز وجل بالقرآن الكريم وضع حدودًا أحيانًا يأتي حديث مفرد يتجاوز هذا السقف ، هناك من الفقهاء مَن قال : لا يجوز لأحاديث الآحاد أن تخصِّص عموم الكتاب ، وبعضهم قال : يجوز .
هناك توجيه لطيف جمع بين الرأييْن ، قال : فمن رأى أنّ القدْر راجع فيه إلى الرضا يجوز ، هي راضِيَة ، أما إذا كان هناك نوع من الابتزاز ، لا أخلعك حتى تعطيني هذا البيت ، دفع لها خمسين ألفًا ، وأراد أن يأخذ منها مئتي ألف ! فهذا ابتزاز ، هنا يأخذ الفقهاء بظاهر النصّ ، وعموم الآية ، وبحديث الآحاد الذي يمنع أن تردّ الزوجة أكثر ممّا أخذت ، أما إذا كانت المرأة في بحبوحة ويُسر ، ووهبَت له شيئًا من مالها ، فنأخذ بظاهر الآية وعمومها .

عظمة الشرع الإسلامي :

الخلْع في العادة يكون بتراضي الزوج والزوجة ، فإذا لم يتمّ التراضي منهما فللقاضي إلزام الزوج بالخلْع ، كثير من يسألني : سامحني فهل يؤاخذني الله تعالى ؟ الله يؤاخذ إذا لم تكن هناك مسامحة

إذا كانت هناك علاقة ماليّة بين شخصين ، وأحد الشخصين سامح ، هنا انتهى الأمر ولا يوجد شيء ، إلا في بعض الحالات هناك حق عام ، وحقّ خاص ، أحيانًا يحصل القتل الخطأ ، سائق السيارة دعس إنساناً يظهر أنّ أهل المقتول ورعون ، ويخافون من الله ، ووجدوا أنّ هذا السائق فقير ، ثمّ الأمر قضاء وقدر ، ولم يرتكب خطأً في السواقة ، حينها يتنازل الأهل عن حقوقهم ، هنا بالقرآن الكريم هناك حقّ عامّ ولو تنازلت ، قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾

[ سورة النساء: 36]

الديّة هذه هي الحق الخاص ، أما تحرير رقبة مؤمنة فهذا في الحق العام يعني أنت بهذا الحادث أزْهقْت نفسًا مؤمنة ، المجتمع الإسلامي كان هناك مليون مؤمن فنقصهُ واحد ، ولو تنازل لك الأهل عن هذا الحق ، فأنت أنقصْت من المجتمع شخصًا قد يكون طبيبًا ، أو مهندسًا ، أو إنسان داعيَة ، أو طالب يُنتظر منه مستقبلاً باهرًا ، فأنت أفقدْت المجتمع الإسلامي عنصرًا طيِّبًا فالأهل تنازلوا ؛ هذا حقّهم الشخصي أسقطوه ، ولكن هناك حقّاً عاماً وهو إعتاق رقبة مؤمنة وهي أن تدخل لهذا المجتمع إنسانًا مؤمًنا كان عبْدًا تُحرِّرهُ ، دِقَّة الشَّرع ، فهنا الآن في المحاكم ولو أنت تنازلت عن الحقّ الخاص هناك حقّ عام ، فلو سرق إنسان وقال له المسروق : تنازلت عن حقّي الشخصي ، يُلاحق السارق بالحق العام ، من أين أُخذ الحق العام؟ من هذه الآية:

﴿ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾

[ سورة النساء: 36]

هذه هي عظمة الشرع الإسلامي .

من كان متوازناً مع الآخرين أصبح محبوباً عندهم :

قال : فإذا لم يتِمَّ التراضي منهما ، فللقاضي إلزام الزوج بالخَلْع ، لأنّ ثابتًا وزوجته رفعَا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، وألْزمهُ النبي بأن يقبل الحديقة ، اللهمّ صلِّ عليه دخل وسيطًا بين زوجين ، يبْدو أنَّ الزوجة تكرهُ زوْجها ، فقال عليه الصلاة و السلام : لو تُراجعينهُ ؟ قالتْ : يا رسول الله ؛ أَتأْمُرُني ؟‍ قال: لا ، إنَّما أنا شفيع ، لو أمرتُكِ لوَجَب أن تنفِّذي الأمر إنَّما أنا شفيع ، فالإنسان أحيانًا تكون له مكانة بأُسرة إذا رأى الأمر صعبًا لا يفرض الحلّ فرضًا ولكن يجعل الحلّ باختيار الطَّرفَيْن ، لأنّ مكانته الكبيرة تقتضي الإلزام ، وإذا كان هناك إلزام كان هناك ظلم ، قالتْ : يا رسول الله أَتأْمُرُني ؟‍ قال : لا ، إنَّما أنا شفيع ، أنا لا آمرك أنت حرَّة ، فالإنسان عندمّا تكون له مكانة بمُجتمعه لا يستخدم هذه المكانة لطرف دون آخر ، ولكن عليه أن يوازن موازنة دقيقة ، كلّما كان الإنسان متوازنًا مع الآخرين يصبح محبوبًا عند الأطراف جميعًا أما ينحاز إلى فئة من دون فئة فلا تصبح له مكانة عاليَة ، من عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه ما من صحابيّ جليل عاملَهُ إلا ظنَّ نفسهُ أنه أقربَ الناس إليه

هل عندك هذه الإمكانيَة التي تستطيع أن تعاشر مئتي رجل أو أكثر كلّ واحد يظنّ نفسه أقرب إليك ؟؟‍ صلى الله عليه وسلّم من رآه بديهةً هابهُ ، له هيبة ، ومن عاملهُ أحبَّه ، عظماء العالم يجلس معهم طفل صغير فيستأنس فيهم ، وشابّ يستأنس ، وكبير ومتقدّم في السنّ يستأنس ، فالذي عنده هذه النفس الشابة والنّفس المتطلِّعة لمعرفة الله عز وجل عنده مرونة فائقة ، إذا جلس مع طفل صغير ، قال له يا : عُمَير ماذا فعل النُّغَير ؟ طفل له عصفور يداعبه ، فكلّما رآه النبي صلى الله عليه وسلّم يقول له يا عمير ما فعل النُّغَير ؟ سيّدنا الحسن والحُسَين كانا يركبان على ظهره الشريف أثناء الصلاة فكان يقول : نعم الجمل جملهما ، ونعم الحِمل أنتما ، كان يضع الحسن والحسين على ركبتيه ويقبلهما ويقول : " اللَّهم إنِّي أحبّهما فأحِبّهما " هكذا المؤمن ، من كان له صبيًّا فلْيتصاب له ، إذا الواحد دخل إلى بيته وكانت له مكانة كبيرة خارج البيت ، إذا دخل ولاعب ابنه الصغير وضاحكه ومزح معه ، ونزل إلى مستواه هذه سنَّة مطهَّرة ، كان عليه الصلاة والسلام يُسلِّم على الصِّبْيان ، أحيانًا يدخل صبيّ للمسجد فإذا بالمؤمنين يرحِّبون به ، ويضعونه بينهم ، ومرَّةً تجد أخًا آخر يسيء الكلام معه ، ويردّه إلى الوراء ، لا يوجد عندنا أحد أحسن من الآخر ، سيّدنا مالك بن أنس هذا إمام دار الهجرة يقولون إنّ هارون الرشيد كان في عمرة أو حجّ فبعث له خبرًا وقال له : يا مالك لو جئتنا إلى بيتنا لِتُعلِّمَنا ؟ هارون الرشيد الخليفة، فبعث له جوابًا قال له : يا هارون العِلْم يُؤْتى ولا يأتي ، فلمَّا سمع هذا القول قال: هذا صحيح وهذا هو الحق ، أنا سآتي ، ثمَّ بعث له خبرًا آخر : وإذا أتَيْتني فلا أسمح لك بِتَخطِّي رِقاب المسلمين ، عليك أن تجلس حيث ينتهي إليك المجلس ‍‍!! قال: صحيح ، ثمّ جاء الخليفة ودخل إلى المسجد فوضعوا له كرسيًّا فقال هذا الإمام : من تواضع لله رفعَه ، ومن تكبَّر وضعه !! كم كان للعلم قيمة في ذلك الزمان ، نعم الحاكم في باب العالم ، وبئس العالم في باب الحاكم ، فالإسلام لا يوجد أحد خير من الآخر لو جاء طفل صغير مبكِّرًا ، وجلس في أوَّل المجلس لكان هذا مقبولاً ، ويُثنى عليه ، أما أن تضعه آخر الصفّ فهذا غير مقبول ، اِجْلس حيث ينتهي بك المجلس ، قال: لو علم الناس ما في الصفّ الأوّل لكان قرعةً ، لو علم الناس كم في الصفّ الأوّل من الخير الكبير لكان قُرْعةً .

تحريم إيذاء الزوجة بِمَنْع حقوقها حتى تضجر و تخلع نفسها :

آخر موضوع بالخلع ، يُحرَّم على الرجل أن يؤذيَ زوجته بِمَنْع بعض حقوقها حتى تضجر ، وتخلعَ نفسها ، وهذا هو الظلم بِعَينه ، يأتي كلّ يوم الساعة الثالثة ليلاً ، ولا يحضر لها أكلاً ، يُعنِّفها أمام والدته ، ويضربها أحيانًا ، يجعلها ترى الجنَّة بِفِراقِهِ ، لو كان مهرها المتأخِّر مئة ألف لفضَّلت الخلع ، حكى لنا شخص من المسجد أنَّ أحدهم تزوَّج امرأةً صالحة بنت عالم ، يظهر أنَّه ما حصل تحقّق بالزواج ، فهذه مُربَّاة تربيةً دينيّة ، وهذا الشاب يريد أن يفلت على هواه ، يريد اختلاطاً ، ويستقبل رفاقه ، فأمرها بِمَعاص كبرى فرفضَت ، متأخِّرها مئة ألف ، وهذا الزوج أساء إليها إساءة بالغة ، يتأخّر ويهينها ويضربها ، وهي صابرة ، وخلال سنة يئسَت ، وبعدها استسْلَمَت وقالَتْ له : لا أريد شيئًا فقط الخلْع ، فعلاً خلَعَها وخلص منها ، ولكن كيف خلعها ؟ لأنَّه ضارَّها ، بعدما خلعها وكان هذا الخلْع بِتَوجيه والدَتِهِ ، اخْلُصْ منها وأنا أزوِّجك أحسن منها ، وهو كلام معروف ، فالنتيجة خلعها ، وتزوَّج أخرى وبعدما مضى على زواجه فترة طويلة ، ذهب إلى الزبداني في نزهة ، ورجع يوم الجمعة عصرًا ، والظاهر كان هناك ازدحام بالسير ، وهو ماهر بالسواقة ، فكان يمر ويخرج من هنا ويدخل من هناك فكأنَّها خافَت ، فقالت له : على رسْلك ! فقال: أنته منك كما انتهَيت من فلانة ، فالأب كان غير راض على عمل ابنه ، هذه التي أخذتها صاحبة دين ، وأنت الذي تظلمها ، وهذه بنت عالم والأم توجِّه ابنها وتحرّضه على طلاقها ، وخلعها ، ومضايقتها ، والأب ينهاه على ذلك فركب الابن وراء المِقوَد ، وزوجته جنبه ، وأمّه وراءه ، وأبوه وراء زوجته ، النتيجة أنّه دخل في سيارة شحن كبيرة أقْسمَ بالله الأخ الذي حكى لنا القصّة قال : انقسم الابن وأمّه إلى قطعتين !!! فالأب خرَّ لله ساجدًا وقال: يا رب أنا أشهد أنَّهم ظلموا ، الأم لقِيَت جزاء عملها ، والأب لقي نتيجة عمله إذْ نجَّاه ، والزوجة ما حدث لها شيء ، وكذا الأب ، والأبناء ، من الذي قُتِلَ ؟ الابن الظالم والأم المحرِّضة ، فالواحد إذا كانت له زوجة ، ولو كان لها الحق أن تخلع نفسها منه إذا لم يعجبهُ شكلها ، أما أن يُضايِقَها في أنصاف الليالي ، ويظلمها ، ويهينها ، ويحرمها ، ويقسو عليها إلى أن تفدي نفسها منه ، فهذا أبشع أنواع الظلم ، والله سبحانه وتعالى يقتصّ منه ، فكما قلت سابقًا : فويل لقاضي الأرض من قاضي السماء ، أحيانًا القاضي يجور ولكن ربّنا عز وجل كلّ شيء عنده بِحِسابٍ دقيق .
هذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل طويل ، موضوع الإساءة إلى الزوجة حتى تخلع نفسها، وإن شاء الله نرجئه إلى موضوع قادم ، والخلع فيه موضوعات كثيرة .
الذي لا يخاف من الله تعالى أحمق ، وكلّ إنسان يظنّ إذا أكل حقوق الآخرين ، أو ظلم زوجته، أو ظلم جيرانه ، وتعدَّى على الناس أنَّه ذكيّ يكون في حضيض الغباء ، أما الذكاء فله قِمَّة ، كلّ إنسان يظنّ أنَّه إذا لعب على الناس ، وأكل حقوقهم هو ذكيّ بهذا العمل يكون في غاية الحمق والغباوة .

* * *

الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن :

والآن إلى بعض الأحاديث الشريفة ، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن . . . ))

[ كنز العمال عن أبي هريرة]

ائتني بواحدٍ مؤمن بالقضاء والقدر إيمانًا صحيحًا ، أنّ لكلّ شيءٍ حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه ، وأنَّ ما أخطأهُ لم يكن لِيُصيبهُ ، إنسانٌ بهذا المستوى أنا أضْمنُ له بأن لا يحْزَن ، عظمة الإيمان أنَّك ترى يد الله فوق أيدي الناس ، وترى أنّ الله عز وجل لا يمكن أن يقع في الكون حادث إلا بعِلْمه وأمره وقوَّته وقدرته وانتهى الأمر .
تجد المؤمن مطمئنّاً ؛ الحمد لله على كلّ حال ، إذا أقْبلت الدنيا ، أو أدْبرت ، وإذا كثر ماله ، أو قلَّ ، إذا تزوَّج فلانة هذه نصيبي ، أحدهم جاء عند رسول الله وقال له : اُدع الله أن يرزقني زوجة صالحة ؟ فتبسَّم عليه الصلاة والسلام ، فقال : والله يا أخي لو دعوتُ لك أنا رسول الله وجبريل وميكائيل ما تزوَّجْت إلا التي كتبها الله لك ، لأنَّ هذا الزواج أخطر حادث بحياة الإنسان ، وستعيش مع إنسانة طوال حياتك ، فالله عز وجب يتدخَّل ، ويبعث الطِّيب للطَّيِّبة ، قال تعالى:

﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ﴾

[ سورة النور :26 ]

والزاني لا ينكح إلا زانية ، لك أنت تجربة قبل الزواج ، ولها هي أيضًا تجربة قبل الزواج ، ولك عِفَّة بالغة قبل الزواج تأخذ واحدة مثل الألماس ؛ عفيفة ، لك تطلّعات ، تجدها هي أيضًا لها تطلّعات ، لك مغازلات ، لها مغازلات ، كلّ شيء بِثَمنه ، تجد بالأخير الله عز وجل أنّ التي كتبها الله لك هي التي سوف تأخذها ، هذه هي شريكتك بالضَّبْط ، هذا الكلام أقوله للشباب : حسِّنْ نفسك ، رقِّ إيمانك ، وجدِّد إيمانك حتى يسمح الله لك بزوجة صالحة ، تسرّك إذا نظرت إليها ، وتحفظك إن غبت عنها ، وتطيعك إذا أمرتها ، لا تقل : أمِّي تفهم كثيرًا بالخطبة ‍! تجد نفسك وقعْت على رأسك رغم خبرة أمِّك ، ولا تقل حتى أراه أوَّل مرَّة وثاني مرَّة ، أنت تجدها بالخطبة كالملائكة ، تقول : أنا أرى ملكًا وليس امرأة !! طوِّل بالك الكلام بعد الزواج!!! والله تظهر لك نجوم الظُّهر ، لذا موضوع الزواج موضوع خطير جدًّا ، ليس لك خيار فيه ، لذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : " أفضل شيء بعد التقوى زوجة صالحة " إذا صاحب تقوى يستحقّ الزوجة الصالحة ، وإن كان قليل التقوى يستحقّ زوجة مشابهة له .
الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن ، هذا البيت لم يكن من نصيبي ، الحمد لله رب العالمين ، أنا أسعى ولا أتواكَل ، لكن رأيته مناسباً ، وسعره مناسب ، والمبلغ موجود ، ثمّ ذهبنا فقيل لنا: والله بيع !! نقول: هذا من سوء حظّنا ، ليس لا ننام طوال الليل ! انظر ما أجمل المؤمن ، خطب فلانة والبنت مناسبة ، والعمر مناسب ، وثقافتها مناسبة ، ذهبنا للخطبة فقيل لنا خطبت ، لا ننتحِر ، لا يوجد نصيب وانتهى الأمر .

علامة قارىء القرآن أنَّه لا يحزن :

لذلك قال عليه الصلاة والسلام : "لا يحزن قارىء القرآن . . ." علامة قارىء القرآن أنَّه لا يحزن يعلم أنَّه توجد آيات دقيقة :

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 216]

أحدهم حمل أواني زجاجية ، تزحلق فانكسروا كلّهم ، صار يبكي بكاء مراً ، ويقول: يا رب ، أريد أن آتي لأهلي بأكل ، ذهب كلّ رأس ماله ، قال له : يا رب ، ذهبت مني قطعة ذهب ثمنها مئة وسبعون ليرة وما غضبتُ ، أما الآن فليس عندي إلا هذه ، وعندي الآن عائلة ، فُتِحَ الشباك وقال له : تعال ، أنت الذي ضاع منك الذَّهَب ؟ فقال : نعم ، قال له : خُذْ هذه وجدتها منذ سبع عشرة سنة ، وها أنا أردّها لك !! أين انكسرت الأواني؟ أمام من وجد ذهبه ، قال تعالى:

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 216]

هذه الآية وحدها لو لم يكن في كتاب الله غيرها لكفَتْ ، كلّ شيء بِقَدر تمكَّنت من الذهاب مع هذه البِعْثة أم لا ، قل : الحمد لله رب العالمين وبعدها ذهب ! شرّ أذهبه الله عنك ، هل كان الله غافلاً ؟ قال تعالى:

﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾

[ سورة الحديد: 22 ]

قال تعالى:

﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾

[ سورة الطور:48 ]

قال تعالى

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾

[ سورة هود : 123 ]

عندما تُوحِّد ترتاح ، لذلك الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن ، حرامٌ على مؤمن يحزن، أموره كلّها بيَدِ أرْحم الراحمين ، وبيَدِ كريم وعليم وقدير هل يخاف الإنسان من أمِّه ؟ كم يشعر بمحبَّة تِّجاه أمِّه ؟ كلّها رحمة له .
النبي عليه الصلاة والسلام رأى امرأة تقبّل ابنتها ، فقال: " أتُلقي هذه بولدها إلى النار . . . .للّه أرحم بعبده من هذه بولدها . . ." لمَّا الإنسان يتذوّق القرآن الكريم ، هناك آية وحدها تكفي قال تعالى:

﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة آل عمران: 158 ]

إلى أين تذهب ؟ إذا كانت لك زوجة فيها رحمة ، لم تغضبني أبدًا ، مرَّةً عزَّيت صديقًا لي بوفاة والدته ، عمر والدته ثمانون سنة ، أثناء التعزية بكى الأب بكاءً مُرًّا ، بعد التعزية حاوَل الأصدقاء التخفيف عنه ، فصار يبكي أكثر ، فقال : والله عشت معها خمساً أربعين سنة ما نمت ولا ليلة غضبان منها ! هذه زوجة فيها إخلاص ومحبّة فتأثّر ، فأنت ذاهب إلى من هو أرحم ، عليم حكيم ، ربّنا عز وجل لمّا يتجلّى على قلبك تذوب ذوبانًا محبَّةً ، تُوفِّيَت امرأة صالحة رأتْها ابنة ابنتها بالرؤيا بِمَكان يشبه أماكن جميلة جدًّا كلّها جبال خضراء وسواحل ، وقالت لها : أنا مفتوح من قبري نافذة مباشرة لهذه المناظر ! تعيش في الجنَّة ، ورأتْها بنتٌ أخرى في بيت فخْم جدًّا مثل القصر ، فقالت لها : هذا بيتي ! وبيتها في الدنيا كان متواضعًا ، أنت لا تعرف الإنسان إذا مات على الإيمان أين يذهب ؟ إذا مات الواحد يقولون : مسكين !! ليس هو المسكين أنت المسكين ، إذا الواحد غير مستقيم في حياته هذا هو المسكين ، ذاك في قمَّة السعادة ، لا كرب على أبيك بعد اليوم ، فالإنسان إذا رزقه الله موتةً على الإيمان ، ماذا فيها الدنيا ؟
الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن ، والإيمان بالقدر نظام التوحيد ، إذا أردت أن تناقش ناقش ، هذا فعل معك هكذا ، هل هذا بعِلْم الله أم لا ؟ إذا قلت : ليس بعلمه أشْركت ، وإذا قلت : بعلمه ، فكيف سمح الله له ؟ الله تعالى حكيم ، إذًا للحكمة حكمة ، والله عليك ، فهو يعلم ما في النفوس ، الله قدير ، والله لطيف ، والله جبّار ، فأنت إذا قلت : ليس بعلم الله ؛ هذه مشكلة وإذا قلت بعلمه : معنى هذا أنك أشركت ، لذلك ممَّا أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه إذا أصابتْه مصيبة كان يقول : لا إله إلا الله العليم الحكيم ، لا إله إلا الله الرحمن الرحيم ؛ انظر دقَّة الكلام كلّ شيء بيَدِهِ هو العليم الحكيم ، وكلّ شيء بيدِه هو الرحمن الرحيم ، الحديثان دقيقان ؛ الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحَزَن ، والإيمان بالقدر نظام التوحيد ، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ، ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدَّمَت أيديكم وما يعفو الله أكثر .

الإيمان والعمل قرينان متلازمان :

الإيمان والعمل قرينان لا يصلح كلّ واحد منهما إلا مع صاحبه ، إيمان بلا عمل كالشّجر بلا ثمر .
المؤمن عفيف عن المحارم ، عفيف عن المطامع ، الغنى غنى النفس ،الأمْن والعافية نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ، ما معنى الأمن ؟ لسْتَ مُلاحقاً ، شيء جميل ، تنام ملء عينيك ، إذا دقّ الهاتف الساعة الثانية عشرة ليلاً لا تخاف ، إذا الباب طرق الساعة الواحدة لا تخاف ، قال تعالى:

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 81 ]

هذه النعمة العظمى من الله عز وجل ، تجد قلب المؤمن كلّه أمن وطمأنينة بحيث له من الطمأنينة لو وزَّعَها على مليون من الناس لاطمأنُّوا ، هذه نعمة الله الكبرى ، والكافر يلْقي في قلبه الرعب ، قال تعالى:

﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾

[سورة الحشر: 2]

تجد في قلوبهم فزعًا شديدًا .

 

الأمانة تجلب الرزق والخيانة تجلب الفقر :

آخر حديث :

(( الأمانة تجلب الرزق ، والخيانة تجلب الفقر ))

[ الديلمي عن جابر]

هذا قانون من قوانينه صلى الله عليه وسلّم ؛ الأمانة تجلب الرزق ، والخيانة تجلب الفقر ، إذا الصانع سرق ، وأراد أن يطلب عملاً يسأل صاحب العمل صاحب الدكان الأوّل ، فإذا قال له : يده خفيفة يصرفه عنه ، ثمّ تجده ينصرف من محلّ لآخر ، جميع الأبواب مغلّقة في وجهه ، لذلك في الأمن يُشاركونك ، ويعطونك أموال استثمار ، ويقدِّمون لك أثْمن ما عندهم، ويعطونك محلاّت وبيوت ، فقط أن تكون أمينًا لذلك سأل أحد الشعراء الإمام الشافعي ، قال له: يد بعشر مئين عسجد وديت ، اليد هذه إذا قطعت بحادث خطأً ديَّتها عشر مئات دينار ذهبي ، الدينار الذهبي الآن ثمنه سبعمئة ليرة أو أكثر ، عشر مئات ، أي ألف دينار ذهبي
ما بالها قطِعَت في ربْع دينار ، إذا الواحد سرق ربع دينار يقطعون له يده ؟ وإذا قطعَت خطأً يدفع المتسبِّب بالحادث ألف دينار ذهبي ، وهي سرقت ربع دينار فقطعت ؟‍‍
فقال الإمام الشافعي:

عِزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذلّ الخيانة فافْهم حكمة الباري
***

لمَّا كانت أمينة كانت ثمينة ، فلمَّا خانَت هانَتْ ، سائق تاكسي من المطار إلى الشام وجد بالمقعد الخلفيّ خمسين ألف ليرة ، أخذها عند مدير مكتبة التاكسي ، هذا الإنسان جاء من الكويت ، وقعت له بطريقة أو أخرى ، وصل عند بيت عمّه فوجد خمسين ألفًا مفقودة ، انخلعت روحهُ ، فقال له أحدهم : أخي لا تزعج نفسك فقد ذهبت دراهمك ‍! أصابه كمد منقطع النظير ، طرق الباب صديقه فرآه على هذه الحال ، فقال له : دعنا نذهب إلى المطار ، راحوا إلى هذا المطار وسألوا أنّهم ركبوا سيارة تاكسي ، وضاعت منا دراهم ، فقال لهم : نعم هناك سائق وجد دراهم أين هو ؟ قالوا: الآن نزل إلى الشام ، نزلوا على مكتب الشام سألوا فقالوا لهم : أعطاهم لمدير المكتب ، راحوا على البيت ، فأعطاهم خمسين ألفًا ، سحب خمسة آلاف وقال له هذه هديّة له ، فقال له : لا ، سنقيم له لقاء صحفياً نثني على أمانته ! شيءٌ جميل ، وأنا كنت راكبًا تاكسي آتٍ من بيروت إلى الشام ، والسائق ربح بضاعة وركّاباً ، ركب معه جندي ، وضع في الخلف علب سردين ، وقف هذا السائق في محلّ ، نزلت كي أرى أغراضي ، السائق لم ينتبه لي ، رأيته يأخذ علب سردين ويضعها وراء الدولاب ، هذه سرقة ، قلتُ : سبحان الله ، هذا عند الله سائق وذاك سائق ؟ ظفره بمليون .

عِزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذلّ الخيانة فافْهم حكمة الباري

ربحت ألفي ليرة ، وسيارتك ملك لك ، وهذا جندي فقير ، تخبِّؤهم وراء الدولاب !! وذاك خمسون ألفًا سلَّمهم لصاحبها ، الأمانة تذهب الرزق ، والخيانة تجلب الفقر .

* * *

الربيع بن خثيم :

والآن إلى بعض حياة التابعين ، الربيع بن خثيم حينما حضرته الوفاة - من آخر القصّة - جعَلَت ابنتهُ تبكي ، فقال لها: ما يُبْكيك يا بنيتيّ وقد أقبلَ على أبيك الخير ؟! ها قد جاء الخير ، هل نحن الآن نعدّ لأنفسنا هذا الإعداد ؟ الموت حق ، نعدّ أنفسنا كي نجد كلّ خير في هذه الساعة ، قمَّة السعادة عرس ، الموت عرس المؤمن وتحفة المؤمن ، نهاية القصّة بكت فقال لها : ما يبكيك وقد جاء على أبيك الخير ؟ هذا الرجل الربيع بن خثيم أصيب بالفالج ، فقال هلال لضيفه منذر الثوري ألا أمضي بك يا منذر إلى الشيخ لعلَّنا نؤمن ساعة ؟ بعض الصحابة كان يقول : اجلس بنا نؤمن ساعة ، إذا جلست مع أخيك وحدَّثك وحدَّثتهُ هي ساعة إيمان

فقال منذر: بلى فوالله ما أقْدَمَني الكوفة إلا الرَّغبة في لقاء شيْخِك الرَّبيع بن خُثَيْم والحنين في عَيْش ساعة في رِحاب إيمانه ، ولكن هل استأذنت لنا عليه ؟ فقد قيل لي : إنَّهُ منذ أُصيب بالفالج لزِمَ بيتهُ وانْصرفَ إلى ربّه ، وعزف عن لقاء الناس ، فقال هلال : إنّه كذلك منذ عرفته ، وإنّ المرض لم يغيّر منه شيئًا !! هذه هي البطولة ، حكَيتُ لكم عن قصّته لمّا قطعت رجله حملها وبكى ، وقال : والله يا رب ما مشيْت بها إلى معصية قطّ ، وأنا أحتسبها عندك ، أصيب بالفالج فما غيَّرَ المرض منه شيئًاً ، فقال منذر : لا بأس ، ولكِنَّك تعلم أنَّ لِهَؤلاء الأشياخ أمْزِجَةً رقيقة ، فهَلْ ترى أن نُبادِر الشَّيْخ فنسْألهُ عمَّا نريد أم نلْتزمُ الصَّمْت فنَسْمعُ منه ما يريد ؟ فقال هلال : لو جلست مع الربيع عامًا بأكمله فإنَّه لا يكلّمك إلا إذا كلّمته ، ولا يبادرك إلا إذا سألته ، فهو قد جعل كلامه ذكرًا وصمته فكرًا ، فقال منذر : فلنمض إليه إذًا على بركة الله ، مضيا إلى الشيخ ، فلمَّا صارا عنده سلَّمَا وقالا : كيف أصبح الشيخ ؟ فقال: أصبح ضعيفًا مذنبًا يأكل رزقهُ ، وينتظر أجله ، فقال له هلال : لقد أمّ الكوفة طبيب حاذق ، أفتأذن بأن أدعوه لك ؟ قال: يا هلال ، إنِّي لأعلم أنَّ الدواء حقّ ، ولكنِّي تأمَّلتُ عادًا وثمود وأصحاب الرسّ وقرون بين ذلك كثيرة ، ورأيت حرصهم على الدنيا ، ورغبتهم في متاعها ، وقد كانوا أشدَّ منَّا بأْسًا ، وأعظمَ قدرةً، وقد كان فيهم أطبَّاء ومرضى ، فلا المُداوي ولا المُدَاوَى ، ثمَّ تنهَّدَ تنْهيدةً عميقةً وقال: ولو كان هذا هو الداء لتداوَيْنا منه ، فاسْتأذن منذر وقال: فما الداء إذًا يا سيّدي الشيخ ؟ قال: الداء الذنوب ، قال منذر : وما الدواء ؟ قال : الاستغفار ، قال منذر : وكيف يكون الشفاء ؟ قال: بأن تتوب ثمّ لا تعود ! ثمَّ حدَّق فينا وقال : السرائر السرائر ، أي عليكم بالسرائر تكون نقيّة طاهرة ، قال تعالى

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

قال: عليكم بالسرائر التي تخفى على الناس وهنّ على الله بوادر ، هذه النوايا الخفيّة عند الله تعالى مكشوفة ، قال منذر فما الدواء ؟ قال: التوبة النصوح ، ثمّ بكى حتّى بلَّلت دموعه لحيتَهُ ، ثمَّ بكى حتى بلَّلَتْ دُموعه لِحْيتهُ ، ثمّ قال له منذر أَتبكي وأنت أنت ؟ قال: هيهات لِمَ لا أبكي وقد أدْركتُ قومًا نحن في جنبهم لُصوص ، أي عظمة الصحابة واستقامتهم وعملهم الصالح وتضحياتهم ، نحن إلى جانبهم كأنّنا لصوص .
قال له : لقد أدركْت قومًا نحن في جَنبِهم لُصوص ، فقال هلال : وإذْ نحن كذلك دخل علينا ابن الشيخ فحَيّا وقال: يا أبت إنَّ أمِّي قد صنَعَت لك خبيصًا وجوَّدَتهُ ، نوعٌ من الحلْوَة، وإنَّه ليَجْبر قلبها أن تأكل منه ، فهل آتيك به ؟ فقال: هاتِهِ ، فلمَّا خرج لِيُحضرهُ طرق سائلٌ فقال : أدْخلوه ، ولمَّا صار بِصَحن الدار نظرتُ إليه فإذا هو رجل كهْلٌ مُمَزَّق الثِّياب ، قد سال لُعابهُ على ذقنه ، وبدا من ملامح وجهه أنَّه معتوه ، فما كِدْتُ أرفعُ بصري عنه حتى أقبل ابن الشيخ بِصَحبة الخبيص فأشار إليه أبوه أن ضَعها بين يدي السائل ، مَعتوه لُعابهُ على لحيته مُمَزَّق الثياب ، وهذا الطعام صنَعَتْهُ الزَّوجة ليأكل زوجها منه فوضَعَها بين يديه ، فأقبل عليها الرجل وجعل يلتهم ما فيها الْتِهامًا ، ولعابهُ يسيل فوقها ، فما زال يأكل حتى أتى على ما في الصَّحفة كلّها ، فقال له ابنه : رحمك الله يا أبي ، لقد تكلَّفَت أُمِّي وصنعت لك هذا الخبيص ، وكنا نشتهي أن تأكل منه فأطْعمْتهُ لهذا الرجل الذي لا يدري ما أكل ، فقال : يا بني إذا كان هذا الرجل لا يدري ماذا يأكل فإنّ الله يدري ، ثمّ تلا قوله عز وجل:

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران: 92]

وفيما هو كذلك إذْ دخل عليه رجل من ذوي قُرْبة ، وقال : يا أبا يزيد ! قُتِلَ الحُسَيْن بن عليّ كرَّم الله وجهه ، وابن فاطمة عليها وعليه السلام ، فقال الربيع : إنا لله وإنا إليه راجعون ثمّ تلا قوله تعالى:

﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾

[ سورة الزمر : 46 ]

ولكنَّ الرجل لم يشْفه كلامه ، فقال له : ما تقول في قتله ؟ قال: أقول إلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم ! قال هلال : ثمَّ إنِّي رأيتُ وقت الظهر قد اقترب فقلتُ للشيخ أوْصِني ؟ قال: لا يَغُرَّنَك يا هلال كثرة ثناء الناس عليك ، فإنَّ الناس لا يعلمون منك إلا ظاهرك ، واعْلم أنَّك صائرٌ إلى عملك ، وأنَّ كلّ عملٍ لا يُبْتغى به وجْه الله يضْمحِلّ - والله كلمات تكتب بماء الذهب - فقال المنذر : وأوْصني أنا أيضًا جُزيت خيرًا ؟ قال : يا منذر اتَّق الله فيما علمْت ، وما اسْتأثر عليك بعلمه فَكِلْهُ إلى عالمه ، لا تقل فيما لا تعلم ، يا منذر لا يقل أحدكم : اللهمّ إني أتوب إليك ، ثمّ لا يتوب ثمّ تكون كِذْبة ، ولكن قلْ : اللهمّ تُب عليّ ، فيكون دُعاءً ، واعْلم يا منذر أنَّه لا خَير في كلامٍ إلا في تهليل الله أي التوحيد ، وتحميد الله أي الحمْد ، وتسبيح الله في التنزيه ، وسؤالك من الخير ، وتعوُّذك من الشرّ ، وأمرِكَ بالمعروف ، ونَهْيِكَ عن المنكر ، وقراءة القرآن ، فقال المنذر : قد جالسْناك فما سمعناك تتمثَّل بالشِّعر ، وقد رأينا بعض أصحابك يتمثَّلون به ؟ فقال : ما من شيءٍ تقوله هناك إلا كتِبَ وقرأ عليك هناك يوم القيامة ، وأنا أكرهُ أن أجد في كتابي بيت شِعْر يقرأ عليَّ يوم يقوم الحساب ثمّ الْتفتَ إلينا جميعًا وقال : أكْثروا من ذِكْر الموت فهو غائبكم المُرتقب ، كلّنا ينتظرنا الموت ، والمطابع جاهزة ، وإنّ الغائب إذا طالتْ غَيبَتُه أوْشكَتْ أوْبَتُه ، ثمَّ اسْتعْبَر أيْ بكى ، وقال : ماذا نصْنعُ غدًا إذا دُكَّت الأرض دكًّا دكًّا وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا وجيء يومئذٍ بِجَهَنَّم ؟ قال هلال : وما كاد الربيع أن ينتهي من كلامه حتى أُذِّن للظُّهر فأقْبل على ابنه وقال : هيَّا نُجِبْ داعيَ الله ؟ فقال ابنهُ : أعينوني على حَمْلهِ إلى المسجد جُزيتُم خيرًا ؟ فرفعناهُ ووضعَ يمناهُ على كتف ابنه ، ويُسْراه على كتفي وجعل يتهادى بيننا ، ورجلاه تخطان على الأرض خطا ، فقال المنذر : يا أبا يزيد لقد رخَّص الله لك ، فلو صلَّيْت في بيتك ! فقال : إنَّه كما تقول : ولكنَّني سمعتُ المنادي ينادي حيّ على الفلاح ، فمَن سَمِع منكم المنادي ينادي إلى الفلاح فلْيُجِبْهُ ، ولو حَبْواً .
الربيع بن خثيم علمٌ من أعلام التابعين ، لا أريد أن أطيل عليكم ، نأخذه في درس آخر ، ولكن آخر كلمة تركت في نفسي أثرًا : لقد ظلَّ الربيع حياته كلّها يترقَّب الموت ويستعدّ للقائه ، هذا الذي أريده من الإخوة الأكارم ، من الآن إلى عند الموت استعدّ له ، وهذا مكسب لك وتكون أذكى الناس وأعقلهم ، استعدّ ، وأكثر من العمل الصالح ، وابذل من مالك ، كن ورعًا، ادفع مالك أمامك ، إذا دفعته أمامك سرَّكَ اللَّحاق به ، وإذا خلَّفْتهُ وراءك أزْعجَكَ تركَهُ ، ما هو المال ؟ وسائل راحة ، زوجة ، أولاد ، وأموال طائلة ، إذا تركته في الدنيا ، والله خروجك منها تمزيق ، أما إذا دفعته أمامك فأسهل شيء أن تسافر عند مالك ، لذلك استعدُّوا للموت منذ الآن بالعمل الصالح ، والاستقامة ، وحضور مجالس العلم ، والقرآن الكريم بقراءته ، وفهمه، وتطبيقه . 

نص الزوار

إخفاء الصور