- الفقه الإسلامي
- /
- ٠3موضوعات متفرقة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
العدّة :
أيها الأخوة الكرام ... كان موضوعنا في الدرس الماضي العدَّة التي تعتدُّها المرأة إذا طُلِّقت ، أو إذا توفي عنها زوجها ، وقد عُرِّفت العدَّة ، وبُيِّن حكمة مشروعيتها ، وأنواع العدَّة.
فالتي لم يُدخل بها لا عدة لها ، التي لم يُدخل بها إذا مات عنها زوجها ولم يدخل بها فعليها عدة ، المدخول بها على أنواع : إن كانت تحيض فعدتها ثلاثةُ قروء ، أي ثلاثة حَيضات ، وعدة غير الحائض إن كانت صغيرةً لم تحِض بعدُ فعدتها ثلاثة أشهر . وعدة الآيسة من الحيض ثلاثةُ أشهر .
أما إذا طلِّقت المرأة وهي من ذوات الأقراءِ ، من ذوات الحيض - أيْ تحيض - ثم إن لم ترَ الحيض في عادتها ، ولم تدرِ ما سببه ، هذه حالات قد تقع ، طلَّقها زوجها ، وفي الأصل أنها تحيض ، أي من ذوات الحيض ، طلِّقت ، بعد الطلاق لم ترَ الحيض ولم تدر ما السبب ، في مثل هذه الحالات النادرة عليها أن تعتدَّ سنةً بكاملها ، تتربَّص مدة تسعة أشهر لتعلم براءة رحِمها ، لأن هذه المدَّة هي غالب مدة الحمل ، فإذا لم يبن الحمل فيها عُلم براءة الرحم ظاهراً ، ثم تعتدُّ عدة الآيسةِ ثلاثة أشهر ، أي مجموع عدة المرأة التي تحيض ثم طُلقت ولم ترَ الحيض ولم تعلم ما السبب اثنا عشرَ شهراً ؛ تسعة أشهر لبراءة الرحم ، وثلاثة أشهر كعدة الآيسة من الحيض .
عدة الحامل تنتهي بوضع الحمل سواءٌ أكانت مطلَّقةً ، أو متوّفَّى عنها زوجها ، لقول الله تعالى :
﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾
وأما المتوفَّى عنها زوجها فعدَّتها أربعةُ أشهرٍ وعشرة أيام ما لم تكن حاملاً، لقول الله تعالى :
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
إذا طلَّق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً ، ثم مات عنها وهي في العدة ، اعتدَّت بعد الوفاةِ ، لأنه توفي عنها وهي زوجته ، أيْ إذا طلَّق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً ، ثم مات عنها وهي في العدة ، اعتدَّت بعد الوفاة كعدة المتوفى عنها زوجها ، لأن كل امرأةٍ مطلقةٍ طلاقاً رجعياً هي في حكم الزوجة ، وترث ، كل حقوق الزوجة تنالها المُطلقة طلاقاً رجعياً وهي في العدة .
عدة المُستحاضة أي التي ترى الدم باستمرار ، إن كانت لها عادة فعليها أن تُراعي عادتها في الحيض والطُهر ، فإذا مضت ثلاث حِيَضٍ انتهت العدَّة ، وإن كانت آيسة انتهت عدتها لثلاثة أشهر .
لو وقع زواجٌ غير صحيح فيه اشتباهٌ بالنسب ، فعلى المرأة التي تزوَّجت بهذا الزواج عدَّة ، لكن العلماء قالوا : " من زنى بامرأةٍ لم تجب عليها العدَّة ، لأن العدة في الأصل لحفظ النسب ، والزاني لا يلحقه نسب ". وهو رأي الأحناف والشافعيَّة .
عندنا موضوعات دقيقة لكنها تقع ، مثلاً : تحول العدة من الحيض إلى العدة بالأشهر . إذا طلَّق الرجل زوجته وهي من ذوات الحيض ثم مات وهي في العدة ، فإن كان الطلاق رجعياً فإن عليها أن تعتدَّ عدَّة الوفاة ، وهي أربعة أشهرٍ وعشرَ ، لأنها لا تزال زوجةً له ولأن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجة ، ولذا يثبت التوارث بينهما إذا توفي أحدهما وهي في العدة أيْ تأخذ كامل ميراثها إن كانت مطلَّقةً وهي في العدَّة .
فموضوع العدة صار دقيقاً ، في أي لحظةٍ تُعّد العدَّة قد انتهت ؟ إذا الطبيب رأى المريض في حالة نِزاع ، والزوجة كانت مطلَّقة ، وطلاقها رجعي . أي بشكل عام ولو أن الزوج حيٌ يرزق ، متى تملك المرأة نفسها ومتى لا تملك ؟ إذا مضت القروء الثلاثة ولم يراجعها ملكت نفسها ، وهذه بينونة صغرى ، أيُ هو يستطيع أن يراجعها قبل مضي العدَّة ، فإذا مضت ملكت نفسها ، يستطيع أن يتزوجها بمهرٍ جديد ، وبعقدٍ جديد ، وبرضائها ، لكن قبل أن تمضي العدة يستطيع أن يُرْجِعَها من دون رضائها ، يكفي أن يقول لها : راجعتكِ . الموضوع صار فيه مهر، وصار فيه موافقة ، قبل أن تمضي العدة موافقتها لا قيمة لها ، لكن بعد أن تمضي العدَّة موافقتها لها وزن ، فإن قالت : لا ، لن يستطيع إرجاعها ، وإن قالت نعم ، عليه أن يدفع مهراً جديداً .
فقال الفقهاء : " إذا كانت تغتسل من الحيضة الثالثة ، فإذا بقي عضوٌ من أعضائها لم تغسله ، وقال زوجها من وراء الباب : قد راجعتكِ . رجعت إليه ، أما إذا انتهت من الاغتسال فقد ملكت نفسها " . هذا حد ، أحياناً الإنسان يبقى لآخر لحظة ، ولابد من حدّ فاصل، الحد الفاصل الاغتسال من الحيض ، إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة ولم يراجعها ملكت نفسها ، لا تعود إلا بمهر ، ولا تعود إلا برضاها ، وهذه هي البينونة الصغرى .
طلاق الفار :
طلاق الفار ؛ قد لا ينتبه الإنسان لمعنى طلاق الفار ، الفار من ماذا ؟ الفار من الزحف ؟ الفار من الجهاد ؟ قال : هناك طلاق الفار من الإرث ، أي أن هناك أزواجاً يبلغ بهم اللؤمُ أن هذه التي قضت معه عمراً طويلاً - ثلاثون سنة - وهو في مرض الموت يطلقها ليحرمها من الإرث يفِرُّ من الإرث . العلماء لهم آراء متعددة في هذا الطلاق .
فلو إنسان على فراش الموت طلَّق امرأته ، وليس هناك سبب ، ليس هناك خلاف ، ليس هناك مشاحنة ، طلَقها لا لشيء إلا ليحرمها الميراث . مثلاً : كان مهرها خمسمئة ليرة سوري ـ تزوجها من أربعين سنةـ هذا كان مبلغ ضخم ، والآن صار عنده أراض ، وأموال منقولة، وغير منقولة ، وبساتين ، وضياع ، وما شاكل ذلك . فقال : أطلقها وأدفع مهرها المؤجَّل وأفرُّ من حصتها الكبرى من الميراث .
أما العلماء رضي الله عنهم لهم آراء دقيقة في هذا الموضوع .
طلاق الفار هو أن يطلق المريض مرض الموت امرأته طلاقاً بائناً بغير رضاها ، ثم يموت وهي في العدة ، فإنه يعتبر في هذه الحال فاراً من الميراث . ولهذا قال مالك : " ترث ولو مات بعد انقضاء عدَّتها ، وبعد نكاح زوجٍ آخر معاملةً له بنقيض قصده ".
سمعت إنساناً - الغباء موجود - سمع أن الإنسان إذا فقد أسنانه أُعفي من الخدمة الإلزاميَّة . شابٌ في مقتبل العمر ذهب إلى طبيب وقال له : اقلع لي كل أسناني . هذا الطبيب صاحب وجدان ، رفض . طبيب آخر أغري بمالٍ كثير فقلع له أسنانه كُلَّها ؛ العلويَّة والسفليَّة وهو في مقتبل العمر ، وصل للجنة الفاحصة خبر أن هذا قلع أسنانه تهرُّباً من الخدمة الإلزاميَّة فكان العقاب مضاعفةُ الخدمة الإلزاميَّة . لماذا كان هذا العقاب ؟ لأن هذا الذي فعل هذا تهرُّباً يجب أن يعامل معاملةً بعكس قَصْدِهِ ، وإذا أردتم الحقيقة والله الذي لا إله إلا هو هذا هو القانون الذي يعامل الله به عباده، كيف ؟ .. من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا .
قد يرجو الإنسان نجاحاً بعلامات عالية ويترك الصلاة ، أنا ما عندي وقت لأصلي، هذا يجب أن يصاب بمرض قبل الامتحان فيرسب ، هو لمَ ترك الصلاة ؟ لمَ ترك حضور مجالس العلم ؟ من أجل التفوُّق . الله سبحانه وتعالى يعامله معاملهً بعكس قصده ، ماذا يقصد ؟ التفوُّق . حُرِمَ الامتحان كلَّه . لماذا قَبِلَ هذا التاجر هذه الصفقة مع أن فيها ربا ؟ ابتغاء الربح . يخسر رضاء الله عزَّ وجل ويخسر الصَفْقَة ، أبداً هذا قانون ، إذا آثرت الدُنيا خسرت الدنيا والآخرة ، وإذا آثرت الآخرة ربحت الدنيا والآخرة ، من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً .
فهذا الشخص الذي قلع أسنانه ، كنت مع صديق لي قال لي : الآن سأريك شخصاً انتبه لأسنانه . فعلاً أنا دققت فوجدته واضع بدلتين ؛ بدلة علويَّة وبدلة سفليَّة وهو في مقتبل العمر وقَضَّى الخدمة خمس سنوات غير الاحتياط .." من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى " .
هذا الحديث يجب أن يكون أمام أعين كل الناس ، أي طريق تؤثر به الدنيا على الآخرة تخسر الدنيا والآخرة ، أي طريق تؤثر به مرضاة الله عزَّ وجل تربح به الدنيا والآخرة .
ويرى أبو حنيفة أن الحكم في هذه الحال يتغيَّر ، فتكون عدتها أطول الأجلين ، عدة الطلاق وعدة الوفاة . أيُّ الأجلين أطول الطلاق أم الوفاة ؟ أطول الأجلين عدة المرأة التي طلَّقها زوجها فراراً من الميراث . هذا رأي الإمام أبو حنيفة .
امرأةٌ لا تحيض ؛ عدتها ثلاث حيضات ، طُلِّقت طلاقاً تعَسُّفياً ـ فراراً من الإرث ـ تنقلب عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام ، فلعلَّه يموت قبل هذه المدة فتأخذ الميراث بكامله ، في مثل هذه الحالة تنقلب عدَّتها إلى أطول العدَّتين ، أي أن أربعة أشهر وعشرة أيام عدتها قبل أن يموت من أجل أن تكسب الوقت . هذا رأي الإمام أبي حنيفة .
لكن الإمام الشافعي يقول : " إنها لا ترث كالمطلقة طلاقاً بائناً في الصحَّة " . وحجته أن : " الزوجيَّة قد انتهت بالطلاق قبل الموت ، فقد زال السبب في الميراث ، ولا عبرة بمظنة الفرار ، لأن الأحكام الشرعية تُناط بالأسباب الظاهرة لا بالنيَّات الخفيَّة " . هذا رأي الإمام الشافعي ، ورأي أبي حنيفة ، ورأي الإمام مالك .
واتفقوا على أنه إن أبانها في مرضه فماتت المرأة فلا ميراث له . أنا أعرف شخصاً فعل المستحيل كي يفرَّ ـ هو رجل من الأغنياء ، وهو غني كبير فعل المستحيل كي يحرم زوجته من الإرث ، فمات قبلها ، فورثته . هو كان يتوقَّع أن تموت قبله ، فعمل تحويلات بالأملاك حتى لا يصيبها شيء ، فلما مات قبلها ورثته ، أيْ أن الله عزَّ وجل بالمرصاد .
العدة قد تكون بالأشهر تنتقل إلى الحَيْضات ، إذا شرعت المرأة في العدة بالشهور لصغرها ، أو لبلوغها سن اليأس ، ثم حاضت ، لزمها الانتقال إلى الحَيض ، لأن الشهور بدل عن الحيض فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود الأصل .
وإذا انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت ، لم يلزمها الاستئناف للعدة بالإقراء لأن هذا حدث بعد انقضاء العدَّة .
الموضوع الأخير في العدة نأخذه في الدرس القادم إن شاء الله ، ماذا ينبغي على المرأة وهي في العدة أن تفعل ؟ منها : لزوم البيت ، عدم التبرُّج . أشياء كثيرة ، وهناك موضوعات خلافيَّة بين الفقهاء .
* * *
تعجيل عقوبة البغي و العقوق في الدنيا :
والآن إلى بعض الأحاديث الشريفة للنبي عليه الصلاة والسلام :
(( بابان معجَّلان عقوبتهما فى الدنيا البغي والعقوق ))
البغي أي الظلم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
((اتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً ... ))
((ليعمل العاقُّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة " . وفي رواية : فلن يغفر له))
اليوم زرت شخصاً له أعمال في الديكور الشَرقي ، هذا شيء غال جداً ، فسألت الصانع : لمن هذا ؟ أبواب تأخذ بالألباب ، تيجان ، زخارف ، لوحات . قال لي : هذا لبيت معلمي - أي صاحب المنشرة - لكنه شيء نفيس ، كبار الأمراء ، كبار الأغنياء ، فعلى مستوى أغنى الناس يصنعون غرف شرقيَّة ، فلما قال : هذا لبيت معلمي . توقعت أن معلِّمه على مستوى رفيع جداً من الناس ، أنا لي عنده مشكلة ، مشكلة إصلاح بين زوجين ، فجاء هذا المعلِّم حدَّثني عن قصَّة ، أن عنده والده ، وله أخوات بنات ، وله أخوات ذكور ، وهذه الوالدة قَعَدَت ، أي أصيبت بشلل ، الزوجة بعد فترة تبرَّمت من خدمتها . كل حماس الأسرة من الذكور والإناث حينما رأوا أن المرأة أصبحت مقعدة تنصَّلوا جميعاً ، وانسحبوا إلى بيوتهم ، وبدؤوا يقومون بزيارات مجاملة من حين لآخر ، فبقي عبء هذه الوالدة على هذا الابن .
قال لي : والله ما تأنَّفت من خدمتها ؛ وخدمتها شاقَّة ، فالبنت لا تتحمَّل ، هناك إقياء مع الخدمة ، شيء لا يحتمله إنسان ، والإنسان إذا أقعد تصبح حركته ثقيلة ، ورائحته كريهة جداً ، فقال لي : خدمتها خدمة ، أنام بجانبها ، كل دقيقتين توقظني ، أريد أن أقضي حاجة ، فيستيقظ ، الدواء ، الطعام ، الشراب ، بذل جهد مضنٍ وهو راضٍ ، وكان يرى أن هذا هو الكسب .
بعد ذلك حدَّثني عن حالته الراهنة ، أراني في محل آخر التزيينات الرائعة ـ قال لي هذا للأمير الفلاني ، هذا للأمير الفلاني . قلت له : هذه اللوحة ما قيمتها تقريباً ؟ وهي متران بمترين . قال لي : هذه ثمنها ثلاثون ألفاً ، لوحة فسيفساء ، فالبيت كله من الديكورات ، جدرانه كلها ، وهناك أيضاً أقواس ، تصورت البيت يأخذ ثلاثة أرباع المليون ليرة إذا كان كله بهذا الشكل ، وعليه إقبال منقطع النظير ، وكأنه في منجاة من هموم الناس الآن . قال لي : كل هذا بسبب الرضا الذي اكتسبته من والدتي . قال لي : والله لا أدري كيف يأتي المال ، من دون جهد دائماً عندي طلبيات لشهر وشهرين خارج القطر ، سبحان الله ! أنا تأثرت ، طبعاً عمل بيتاً له على هذا الترتيب لأنه أولى ، ليس قصدي الحديث عن الزينة ، ولكن قصدي أن الإنسان إذا عمل عملاً صالحاً خالصاً لوجه الله عزَّ وجل ، الله عزَّ وجل قد يكرمه في الدنيا والآخرة .
(( بابان معجَّلان عقوبتهما فى الدنيا البغي والعقوق ))
و :
((ليعمل العاقُّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ))
سبعة أشياء تنتظر الذي لا يريد الله ورسوله :
حديث آخر كنت قد أسمعتكم إيَّاه كثيراً ، لكنني أعيده لشدَّة تأثري به ، فهو مؤلم لكن واقعي ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ ))
فهل يستيقظ الإنسان كل يوم صباحاً مثل البارحة ؟ لا . يستيقظ يوماً يقول لك: تعبان ، شاعر بضيق ، يمكن أن يستيقظ أحد الأيام ويحس بعدم الحركة ، لي قريبة دعت أقرباءها إلى الطعام ، استلقت على السرير فأرادت أن تقوم وإذا ليس بها حركة ، شيء صعب ، شلل نصفي ..
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ ))
نريد الدنيا ، فما الذي في الدنيا ؟ ماذا تلد الدنيا ؟ قال المتنبي :
أبنت الدهر عندي كل بنتٍ فكيف وصلتِ أنتِ من الزحامِ ؟
* * *
بنت الدهر أي المصيبة ، الدهر ماذا يلد ؟ المصائب . هذا الكلام ليس للمؤمنين ، هذا الكلام موجَّه لمن أصرَّ على الدنيا ، لا يريد إلا الدنيا ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ ))
فهو الآن بالأربعين ، فماذا يتوقَّع أن يكون وهو في الخمسين ؟ بصحة أطيب ؟ لا. التقيت مع شخص وهو صاحب نكتة ، عمره بالثمانين قال لي : سبحان الله ! وأنا قبل أربعين سنة أنشط من الآن !! قلت له : هذا شيء طبيعي ، مع تقدم العمر ماذا يحصل ؟ هناك كولسترول ، وأسيد أوريك ، ووجع مفاصل ، وانحناء ظهر ، وشَيْب ، وضعف بصر، وضعف سمع ، وآلام بالمعدة ، وآلام بالأمعاء ، وديسك بالظهر ، فالأمراض لا تعد ولا تحصى ، قال :
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ ))
1 ـ الفقر المنسي :
أجاب النبي الكريم سبعة أشياء ، قال :
((هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا...))
أنا أشعر أن كثيراً من الأشخاص كانوا في بحبوحة ، والله العمل توقف ، كان يلعب بالمال لعباً ، الآن يقول لك : لم يبقَ شيء ، المصلحة صارت لا تطعم خبزاً ، كان له دخل كبير تقلص تقلص ، هذه أغلقت ، وهذه أغلقت ، المحل سلَّمه ، بقي بدون دخل ، فالفقر على الله ليس صعباً ، إذا إنسان وصل لمال كثير ، مثلما أعطاه الله يأخذ ، إذا أعطى أدهش ، وإذا حاسب فتَّش . فالله عزَّ وجل قدير على أن يذهب المال كلَّه دفعةً واحدة ، فهناك فقر ، الفقر الشديد ينسي الإنسان ، النبي الكريم وصف الفقر أنه ينسي ، قد ينسي طاعة الله عزَّ وجل ـ كاد الفقر أن يكون كفراً ..
2 ـ أو الغنى المطغي :
(( .......أَوْ غِنًى مُطْغِيًا...))
كذلك الغنى مصيبة ، إذا كان ليس معه فقه ، ما معه علم ، هناك غنى مغر ، أحياناً يفكر بعمل رحلة إلى أوروبا ، يفكر يذهب إلى الأمكنة الموبوءة بأوروبا ، يريد أن يرى الحي اللاتيني في باريس ، ما الذي في الحي اللاتيني ؟ الحي الفلاني ، المكان الفلاني ، صار عنده رغبة ليتَطَّلع إلى المعصية ، يتشوَّف للمعصية هذا بالغنى ، عندما كان معاشه لا يكفيه كان لا يوجد الحي اللاتيني بحياته ، متى جاء الحي اللاتيني ؟ عندما صار معه نقود ، هذا الغنى المطغي ، أو يستحي بزوجته ، هذه لا تليق بمقامه ، يريد زوجة ثانية سبور ، فهناك غنى مطغ أحياناً ..
3 ـ أو المرض المفسد :
((هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ... ))
يقول لك : منعوني من اللحم ، والخضر المطبوخة ، لا توجد إلا الخضر المسلوقة بدون ملح . يقول لك : مللت منها . هذا مرض مفسد للصحة ، أحياناً يشتهي قرص فلافل ، يقول لك : ممنوع لأن هذا مقلي بالزيت ، يشتهي صحناً من الحمص . يقول لك : معي أسيد أوريك لا أستطيع . يشتهي قرص كبة ، يقول لك : يمكن هذه تعمل لي مشكلة . فما الذي يأكله إذاً ؟ كله ممنوع عنه ..
((هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ... ))
أفسد له حياته .
4 ـ أو الهرم المفند :
((أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا .. ))
ما صار له شيء ، لا افتقر ولا اغتنى ، لا افتقر افتقاراً يُنْسِيه ، ولا اغتنى اغتناء مطغياً ، ولا صار معه مرض مفسد ، لكن صار عمره سبعة وثمانين ، فلم يعد يتذكر جيداً ، هل أطعمتموني ؟ الآن أطعمناك . أنا أكلت ؟ لكن ما الذي عملته الآن ؟ يأتيه ضيف فيقول له: إنهم لا يطعموني . هذا هرم مُفَنِّد ، أي عيوب الإنسان تظهر ، لذلك هناك أشخاص يدعون وأنا والله معهم في هذا الدعاء : أن الله عزَّ وجل يتوفَّانا ونحن في صحتنا ، وفي ذاكرتنا . وإلا صار الوضع غير جيد .
والله أحد الأشخاص وصف لي حالة شخص ، شهد الله أن الموت من نعم الله ، فقد وعيه ومفلوج ، يمسك من تحته ويأكل ، ربطوا له يديه ، ربطوا له رجليه ، يداه مقيَّدتان ورجلاه مقيَّدتان ، وهو أب ، إنسان يرى والده مقيده بحبال ؟! إذا أطلقوا له يديه سيأكل من تحته. هذا هرم فلا أحد يعتز بشبابه ، العبرة للآخرة .
لذلك : التقوى أقوى . لذلك : حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر . لذلك من تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت ، لذلك قارئ القرآن لا يحزن ، البطولة في خريف العمر ، كل الشباب تجدهم أقوياء ، تجده يأكل أشكالاً ألواناً ، معدته مثل المطحنة ، لكن بعد ذلك خمسين علَّة ، تجده إذا ذهب نزهة معه كمية من الأدوية ، فهذه يتناولها بعد ساعة ، وهذه بعد ربع ساعة ، لا يستطيع .
((هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا... ))
والله شيء واضح ! كلام واضح كالشمس ، أول واحدة : فقر منسي، وغنىً مطغي، ومرض مفسد ، وهرم مفنِّد ..
5 ـ أو الموت المجهز :
((أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا... ))
أيْ موت ينهي الحياة ، انتهاء الحياة ؛ كبر مفنِّد ، مرض مفسد ، غنىً مطغي، فقر ..
6 ـ أو الدجال :
((... أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ .....))
7 ـ أو الساعة :
((....أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ... ))
فأشراط الساعة كلكم تعرفونها ، فسبعة أشياء تنتظر الذي لا يريد الله ورسوله ؛ تنتظر الذي يريد الدنيا ويصرُّ عليها . هنيئاً لمن عرف الله فوقاه الله من هذا المصير .
إذا بلغ العبد الأربعين أو أكثر لا أذكر نص الحديث ـ عبدي كبرت سنك ، وانحنى ظهرك ، وشاب شعرك ، فاستحِ مني فأنا أستحي منك .
فيا خجلي منه إذا هـو قال لــي يـا عبـدنا أمـا قرأت كتابنــــا؟
أما تختـشــي منا ويكفيـك ما جـرى أما تختشي من عتبنا يوم جمعنا؟
أما آن أنْ تُـقلع عن الذنـب راجـعاً وتنظــر ما به جــاء وعدنا؟
* * *
فإذا إنسان بلغ الأربعين أو الخمسين ولا يصلي ، قاعد في القهوة يلعب طاولة سبحان الله ! ماذا جعل لآخرته هذا ؟ إلى أين يمشي ؟ على حواف الموت ، على مشارف الموت ولا يعرف الله إطلاقاً !!.
إذاً..
((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ))
هذا من الأحاديث الصحيحة عن أبي هريرة .
فضل الغدو باكراً :
حديثٌ أخير :
((باكروا في طلب الرزق والحوائج فإن الغدو بركة ونجاح))
هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها ، هناك أشخاص معتادون أن ينطلقوا إلى أعمالهم باكراً ، تجد للساعة الحادية عشرة حلَّ مليون مشكلة ، وهناك أشخاص يعتادون العكس ـ أنا قضيت عمراً بالتدريس تسعاً وعشرين سنة ـ الساعة السابعة أبدأ الدرس ، مرة انتهوا الساعات، فرجعت إلى البيت الساعة الحادية عشرة ، لي جار تاجر قال لي : أين ذاهب الآن ؟ مازال الوقت باكراً؟!! قلت له : أنا راجع من عملي ، انتهيت . قلت له : أنا راجع . والثاني يظن أني متأخر عن العمل . النبي الكريم كان يحب الغدو باكراً ، تحل أعمالاً كثيرة .
* * *
عامر بن شُرَحْبيل الشعْبِي :
والآن إلى قصة تابعيٍ جليل . هذا التابعي هو الإمام : عامر بن شُرَحْبيل الشَعْبِي.
كان واسع العلم ، عظيم الحلم ، وإنه من الإسلام بمكان . لِسِتِّ سنواتٍ خلت من خلافة الفاروق رضوان الله عليه ، وُلِد للمسلمين مولودٌ نحيل الجسم ، ضئيل الجِرم ، فالحجم ليس له قيمة ، الرجال تقاس بأعمالها وأخلاقها وعلمها وإيمانها فقط ـ ذلك لأن أخاه زاحمه على رحم أمه فلم يدع له مجالاً لنموِّه ، ولكنه لم يستطع أن يزاحمه لا هو ولا غيره في مجالات العلم، والحلم ، والحفظ ، والفهم ، والعبقريَّة . أيْ ..
فلا تقل : أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
* * *
أحياناً الإنسان بدلاً من أن يفتخر بآبائه يفتخر به آباؤه ، أحياناً بدل أن يفتخر بأبيه، أبوه يفتخر به ، لأن باب التحصيل مفتوح ..أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً .
(( لا منكم، ولا منكم، سلمان منَّا أهل البيت ))
(( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه))
ذلكم هو عامر بن شرحبيل المعروف بالشّعبي ، نابغة المسلمين في عصره ، ولد في الكوفة وفيها نشأ ، لكن المدينة المنوَّرة كانت مهوى فؤاده ومطمح نفسه ، كان يؤمّها من حين لآخر ليلقى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وليأخذ عنهم ، كما كان الصحابة الكرام يؤمون الكوفة ليتخذوها منطلقاً للجهاد في سبيل الله أو داراً لإقامتهم .
أتيح لهذا التابعي الجليل أن يلقى نحواً من خمسمئةٍ من الصحابة الكرام ، وأن يروي عن عددٍ كبيرٍ من جِلَّتهم من أمثال علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقَّاص ، وزيد بن ثابت، وعبادة بن الصامت ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي سعيد الخُدري ، والنُعمان بن البشير ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس ، وعدّي بن حاتم ، وأبي هريرة ، وعائشة أم المؤمنين ، طبعاً من وراء حجاب ـ وغيرِهم وغيرهم .
وقد كان الشعبيُّ فتىً متوقِّد الذكاء ، يقظ الفؤاد ، مرهف الذهن ، دقيق الفهم ، آيةً في قوة الحافظة والذاكرة . من منا يستطيع أن تُتلى عليه سورة البقرة فيحفظها تواً ؟ هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلَّم ، أحدث بحوث للذاكرة أن الذاكرة لها علاقةٌ بالاهتمام ، أيْ إذا بلغ اهتمامك بالقرآن اهتمام النبي العدنان تحفظ البقرة إذا سمعتها مرةً واحدة ، فقوة الذاكرة شيء أساسي .
كان يقول عن نفسه : " ما كتبت سوداء في بيضاء قط- أيْ ما كتب حرفاً أسود على ورق أبيض في حياته ، أي أنه عنده ذاكرة أقوى من الكتابة - ولا حدثني رجلٌ بحديثٍ إلا حفظته ، ولا سمعت من امرئ كلاماً ثم أحببت أن يعيده عليَّ " . نحن إذا شخص نطق بحكمة جميلة ، بالله عليك دقيقة ، بالله عليك أعدها علينا إذا أمكن . يعيدها لك ، أما هو كان عندما يسمعها فيحفظها على الفور ، لا يضطر ليقول له : أعدها لي ، من أي مصدر آخذها ؟ أين الكتاب ؟ ..
وقد كان الفتى مولعاً بالعلم ، مشغوفاً بالمعرفة ، يبذل في سبيلهما النفس والنَفيس ويستهلُّ من أجلهما المصاعب ، إذ كان يقول : " لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ـ اسمعوا هذا القول ، ليس على الطائرة جامبو ، لا ، - مشياً على الأقدام - تصور الآن أن تذهب إلى الزبداني مشياً ، تصور ما الذي يصير معك ؟ تحتاج إلى يومين ، وتبقى مطروحاً في الفراش عشرة أيام ، لم يكن هناك إلا مشي أو ركب دواب - لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام - أي من حلب - إلى أقصى اليمن فحفظ كلمةً واحدةً تنفعه فيما يستقبل من عمره لرأيت أن سفره لم يضع ". إذا جئت من آخر أحياء دمشق ؛ ركبت أول باص والثاني ، تصور ساعة وربعاً راكباً في الباصات ، وسمعت حديثاً شريفاً واحداً ، وانهمرت دمعة من عيونك على هذا الحديث ، وتأثَّرت فيه وطبَّقته ، هذا الذهاب والإياب ما ضاع عند الله سُدىً أبداً . هو يقول : من أقصى الشام إلى أقصى اليمن .
وقد بلغ من علمه أنه كان يقول : " أقلُّ شيءٍ تعلَّمته الشعر " . أي أن كلام الله عزَّ وجل :
﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ﴾
هذه معروفة ، لكن ..
﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾
أي لا يليق بهذا النبي الكريم أن يكون شاعراً ، معنى هذا أن الشعر مرتبة دون:
﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾
قال : " أقل شيءٍ تعلَّمته الشعر ولو شئت لأنشدتكم منه شهراً دون أن أعيد شيئاً مما أنشدته " . هذا أقل شيء حافظه من الشعر . وكانت تعقد له حلقةٌ في جامع الكوفة فيلتف الناس حوله زمراً زمراً ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحياءُ ، يروحون ويغدون بين أظهر الناس . من الصعب جداً أن تلفت نجمة نظرك في النهار ، الشمس مغطية على الكل ، إنها لمضنيةٌ مؤلمةٌ تلك الجهود التي تبذلها النجوم كي تضيء في حضرة الشموس . شيء صعب ، فإذا واحد استطاع أن يحكي مع وجود الصحابة معنى هذا له مكان كبير عند الله عزَّ وجل ، أحياناً الإنسان مع من علَّمه يخجل . يقول له : سكت إجلالاً لعلمك . فتجد الطبيب متحدثاً بارعاً إلا أمام أساتذته تجده يخجل . أي إنسان تعلَّم العلم أمام أستاذه فلا تجد عنده إمكانية يتفاصح أمامه ، يخجل لأنه هو علمه ، حتى أحياناً من آداب المريد مع أستاذه أن يسكت إجلالاً لعلمه .
بل إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه سمعه ذات مرة يقصُّ على الناس أخبار المَغازي ، بخفاياها ودقائقها ، فأرهف سمعه إليه وقال : " لقد شهدت بعض ما يَقُصُّه بعيني، وسمعته بأذني ، ومع ذلك فهو أروى له مني " . سيدنا عبد الله بن عمر شاهدت بعيني وسمعت بأذني وهو مع ذلك - عن الشعبي- أروى له مني .
شواهد سعة علم الشّعبي :
شواهد سعة علم الشَعبي ، وحضور ذهنه غزيرةٌ وفيرة ، من ذلك ما رواه عن نفسه قال : " أتاني رجلان يتفاخران ، أحدهما من بني عامر والآخر من بني أسد ، وقد غَلَبَ العامري صاحبه ، وعلا عليه ، وأخذه من ثوبه ، وجعله يجرُّه نحوي جراً ، والأسدي مخذولٌ أمامه يقول له : دعني دعني . وهو يقول له : والله لا أدعك حتى يحكم الشّعبي لي عليك . فالتفَتُّ إلى العامري وقلت له : دع صاحبك حتى أحكم بينكما . ثم نظرت إلى الأسدي وقلت : ما لي أراك تتخاذل له ؟ ولقد كانت لكم مفاخر سِتُّ لم تكن لأحدٍ من العرب ؛ أولها أنها كانت منكم امرأةٌ خطبها سيد الخلق محمد بن عبد الله ، فزوجه الله إيَّاها من فوق سبع سموات ـ زينب وحدها زوجها الله ، فزوجنكها ، هذه مفخرة لهذا الأسدي ـ وكان السفير بينهما جبريل عليه السلام ، إنها أم المؤمنين زينب بنت جحش ، فكانت هذه المأثرة لقومك ولم تكن لأحدٍ من العرب غيركم .
والثانية أنه كان منكم رجلٌ من أهل الجنة يمشي على الأرض ، هو عكاشة بن مُحصن .
اللهمَّ صلِّ عليه كان قمة الذوق ، مرَّ عُكَّاشة فبشَّره بالجنَّة ، دخل آخر فقال له : وأنا ؟ ماذا سيقول له اللهمَّ صلِّ عليه ؟ هو ليس من أهل الجنة ، إذا قال له : أنت لست من هؤلاء يكون حطَّمه ، و إذا قال له : أنت من أهل الجنة يكون غشَّه ، ضع نفسك في هذا الموقف ، عكَّاشة بشِّر بالجنة ، أما هذا الذي دخل على النبي بعده فقال : وأنا يا رسول الله ؟ قال له : " سبقك بها عكَّاشة " . أنت تأخرت فسبقك هو وأخذها . فهذا منتهى الذكاء ، منتهى الذوق ، منتهى اللطف إن قال له : لا . فقد حطَّمه ، وإن قال له : نعم . فقد غشَّه ، قال له : " سبقك بها عكَّاشة " .
( من تاريخ الإحياء )
وكانت هذه لكم يا بني أسد ولم تكن لسواكم من الناس .
والثالثة أن أول لواءٍ عُقِدَ في الإسلام كان لرجلٍ منكم هو عبد الله .
والرابعة أن أول مَغْنَمٍ قُسم في الإسلام كان مَغْنَمَهُ .
والخامسة أن أول من بايع بيعة الرضوان كان مِنكم ، فقد جاء صاحبكم أبو سِنان بن وهبٍ إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : " يا رسول الله ابسط يدك أبايعك . قال: على ماذا تبايعني ؟ قال : على ما في نفسك - معك على طول الخط ، على أي شيء تريده، ما هذه المحبة ؟- قال له : على ماذا تبايعني ؟ قال له : على ما في نفسك يا رسول الله .؟ قال : وما في نفسي ؟ قال له : فتحٌ أو شهادة . قال : نعم . فبايعه ، فجعل الناس يبايعون على بيعة أبي سنان " .
والسادسة أن قومك بني أسد كانوا سُبُعَ المهاجرين يوم بدر- السبع منهم - فبهت العامري وسكت .
ولا ريب أن الشعبي أراد أن ينصر الضعيف المغلوب على القوي الغالب ، ولو كان العامري هو المخذول لذكر له من مآثر قومه ما لم يُحِطْ به خبرا .
حكمة الشعبي و دهاء ملك الروم :
ولَّما آلت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج عامله على العراق : " أن ابعث إليَّ رجلاً يصلح للدين والدنيا ، أتخذه سميراً وجليساً " . فبعث إليه بالشعبي فجعله من خاصَّته ، وأخذ يفزع إلى علمه في المُعْضلات ، ويعوِّل على رأيه في المُلِمَّات ، ويبعثه سفيراً بينه وبين الملوك .
انظروا إلى هذا الموقف .
أرسله مرةً في مهمةٍ إلى جستنيان- ملك الروم - فلما وفد عليه واستمع إليه ، سأله الملك الرومي : " أمن أهل بيت المُلك أنت ؟ قال : " لا إنما أنا رجل من جملة المسلمين ، أنا واحد من الدَهْمَاء " هذا من باب رفع شأن المسلمين . فلما أذن له بالرحيل قال له : " إذا رجعت إلى صاحبك - ويعني المَلك عبد الملك - وأبلغته جميع ما يريد معرفته ، فادفع إليه هذه الرقعة ـ أعطاه رسالة ـ "
فلما عاد الشعبي إلى دمشق بادر إلى لقاء عبد الملك ، وأفضى إليه بكل ما رآه وسمعه ، وأجابه عن جميع ما سأله ، ولمَّا نهض لينصرف قال: " يا أمير المؤمنين إن ملك الروم حمَّلني إليك هذه الرقعة " . ودفعها إليه وانصرف .
فلما قرأها عبد الملك قال لغلمانه : " ردوه عليَّ " . فردوه .
ـ فقال له : " أعلمت ما في هذه الرقعة ؟ " .
ـ قال : لا أيها الأمير .
ـ قال عبد الملك : لقد كتب إليَّ ملك الروم يقول : عجبت للعرب كيف ملَّكت عليها رجلاً غير هذا الفتى ؟!! هذه الرسالة فيها لغم .
ـ فبادره الشعبي قائلاً : إنه قال هذا لأنه لم يرك ، ولو رآك يا أمير المؤمنين لما قال ذلك .
ـ فقال عبد الملك : أفتدري لمَ كتب إليَّ ملك الروم بهذا ؟
ـ قال : لا يا أمير المؤمنين .
ـ قال عبد الملك : إنما كتب إليَّ بذلك لأنه حسدني عليك ، فأراد أن يغريني بقتلك والتخلُّص منك .
ـ فبلغ ذلك ملك الروم فقال : لله أبوه !! والله ما أردت غير ذلك .
افتكر أن عبد الملك أحمق ، يقول له : هذا الملك وليس أنت . فيقتله ويرتاح منه، أما كان جوابه في منتهى الروعة !!
الشمائل التي يتصف بها الشّعبي :
بلغ الشعبي في العلم منزلةً جعلته رابعَ ثلاثةٍ في عصره ، فقد كان الزهري يقول: العلماء أربعة ؛ سعيد بن المسيِّب في المدينة ، وعامر الشَعبي في الكوفة ، والحسن البَصري في البصرة ، ومكحولٌ في الشام . لكن الشعبي كان لتواضعه يخجل إذا خلع عليه أحدٌ لقب العالِم .
فقد خاطبه أحدهم قائلاً : أجبني أيها الفقيه العالِم ؟ فقال : ويحك لا تطرنا بما ليس فينا ، الفقيه من تورَّع عن محارم الله ، والعالِم من خشي الله ، وأين نحن من ذلك ؟ .
سأله آخر في مسألة ، قال : قال فيها عمر بن الخطاب كذا ، وقال فيها علي بن أبي طالب كذا . فقال له السائل : وأنت ماذا تقول ؟ فابتسم في استحياء وقال له : وماذا تصنع بقولي بعد أن سمعت مقالة عمر وعلي ؟ . ماذا تريد من كلامي ؟ ..
كان الشعبي يتحلَّى بكريم الشمائل ، من ذلك أنه كان يكره المِراء ، ويتصاون عن الخوض فيما لا يعنيه . كلَّمه أحد أصحابه ذات يوم فقال له :
ـ يا أبا عمرو .
ـ قال له : لبيك .
ـ قال : ما تقول فيما يتكلَّم فيه الناس من أمر هذين الرجلين ؛ عثمان وعلي ؟ .
ـ فقال : " إني والله لفي غنىً عن أن أجيء يوم القيامة خصيماً لعثمان بن عفان أو لعليّ بن أبي طالب " ..
((إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا))
كان حليماً . يروى أن رجلاً شتمه أقبح الشتم ، وأسمعه أقذع الكلام ، فلم يزد عن أن قال له : " إن كنت صادقاً فيما ترميني به غفر الله لي ، وإن كنت كاذباً غفر الله لك ".
هل هناك حالة ثالثة ؟ إن كنت صادقاً أرجو الله أن يغفر لي ، وإن كنت كاذباً غفر الله لك . فهل عندك أعصاب تواجه إنساناً اتهمك بأقذع تهمة ؟ أنت تكيل له الصاع صاعين . أما هو فقال له : " إن كنت صادقاً غفر الله لي ، وإن كنت كاذباً غفر الله لك ؟ "
ولم يكن الشعبي على جلالة قدره ، وجذالة فهمه يأنف أن يأخذ المعرفة ، أو يتلقَّى الحكمة عن أهون الناس شأناً ؛ لقد دأب أعرابيٌ على حضور مجالسه ، غير أنه كان يلوذ بالصمت دائماً ، لا يتكلَّم ولا كلمة ، فقال له مرة : ـ " تكلَّم يا رجل " ؟. تكلَّم كلمة نفهم من أنت؟ ما هو تفكيرك ؟ نعجبك أم لم نعجبك ؟ ما هو وضعك ؟ تقبل هذا الكلام أم لا تقبل ؟ احكِ كلمة، أحياناً الأخ يتكلَّم كلمة فتفهم ما هو وضعه ، أنه مسرور أم غير مسرور ؟ شخص ساكت لا تعرف ما هو وضعه ، فقال له هذا الأعرابي: أسكت فأسلم ، وأسمع فأعلم ، وإن حظ المرء من أذنه يعود عليه ، أما حظه من لسانه فيعود على غيره .
فظلَّ الشعبي يردِّد هذه الكلمة ما امتدَّت به الحياة : أسكت فأسلم ، وأسمع فأعلم ، وإن حظ المرء من أذنه يعود عليه ، وحظه من لسانه يعود على غيره .
كان عنده فصاحة وجرأة ؛ مرة كلَّم أمير العراق عمر بن أبي هبيرة الفزاري في جماعةٍ حبسهم ، فقال : " أيها الأمير إن كنت حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم ، وإن كنت حبستهم بالحق فالعفو يَسَعَهُم " . فأعجب بقوله وأطلقهم كرامةً لهم .
كان صاحب مرح ، النبي الكريم كان صاحب مرح ، قال :
((روحوا القلوب ساعةً بعد ساعة فإن القلوب إذا كلَّت عميت))
لقد دخل عليه رجل وهو جالسٌ عند امرأته فقال : أيكما الشعبي ؟ فقال : هذه .
وسأله آخر : ماذا كانت تسمَّى زوجة إبليس ؟ فقال له : " والله هذا عُرْسٌ لم نشهده" أنا ما حضرت الحفلة فلا أعرف ما هو اسمها ، وليس هناك بطاقة كريمة فلانة أو فلان ، لا توجد .
ولعلَّ خير ما يصوّر كلام الشعبي ما حكاه عن نفسه : " ما حللت حبوتي إلى شيءٍ مما ينظر إليه الناس- أي أنه كان يجلس في مجلس العلم لا يلتفت لشيءٍ - ولا ضربت غلاماً لي - جالس في مجلس علم ، كل حاجات الناس التي يتطلعون لها لم تكن تخطر في باله ، دخل في هذا المجلس فاستغرق فيه - وما مات ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلا قضيته عنه ". عليَّ دينه ، انتهى أمره .
عُمِّر الشعبي نيِّفاً وثمانين عاماً ، فلما لبَّى نداء ربه ونُعي إلى الحسن البصري قال: " يرحمه الله فقد كان واسع العلم ، عظيم الحلم ، وإنه من الإسلام بمكان " .