- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (037)سورة الصافات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الرابع من سورة الصافات، ومع الآية السابعة والعشرين.
مقدمة:
اللهُ جلَّ جلاله في هذه الآية وفي الآيات التي تليها ينقل مشهداً من مشاهد الدار الآخرة، وما يجري بين أهل النار من خصومات.
﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ(64)﴾
1 ـ مشاهد يوم القيامة للتخويف والوعظ:
الحقيقة قد يسأل سائل: لماذا يذكر الله لنا هذه المشاهد قبل أن تقع؟
أولاً: هو يعلم ما سيكون، ولكن هذه المشاهد التي يصوّرها القرآن الكريم لنا من أجل أن نتعظ في الوقت المناسب، أما إذا رأيناها رأي العين، وشاهدناها في وقتها فلا قيمة لها، فالعبرة كلُّها أن تتعظ في الوقت المناسب.
2 ـ قضية الإيمان خيار وقتٍ:
كنت أقول لكم دائماً: إنَّ قضية الإيمان ليست على الشكل التالي: تؤمن أو لا تؤمن، قضية الإيمان فقط: متى تؤمن؟ لأنه لابدَّ من أن تؤمن، أجل لابد، أكفر الكفَّار، أعتى العتاة، أفجر الفجَّار، أشد الناس بعداً وانحرافاً وكفراً وتيهاً وإنكاراً وجحوداً لابدَّ حينما يأتيهم الموت من أن يؤمنوا، ألم يقل فرعون:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ
هل في الأرض أشدُّ كفراً منه؟ قال:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24)﴾
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ
ومع ذلك حينما جاءه الموت قال:
أيها الإخوة الأكارم، الآيات اليوم:
﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ(27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ(28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ(30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ(31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ(32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ(33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)﴾
3 ـ إنَّه ليس شيءٌ شرًّا من الشر إلا العقاب، وليس شيءٌ خيرًا من الخير إلا الثواب:
أيها الإخوة، الإمام عليٌ كرَّم الله وجهه له نصٌ يفيدنا جداً في هذا المقطع القرآني، هذا النص يتحدَّث عن علاقة الدنيا بالآخرة، هم في الآخرة، وفي سَقَر يتحاورون، ويتناقشون، ويتلاومون، ولكن سيدنا علياً كرَّم الله وجهه يقول:
تصوَّر أنواع الشر، تصور القتل، الزنا، الفُحش، الخيانة، تصوَّر كل أنواع الشر، أن تقتل الناس بالمئات، هؤلاء الذين ألقَوا على بعض مدن اليابان قنبلةً أماتت ثلاثمائة ألف إنسان في ثانية واحدة، تصوَّر هذا الشر، ما هو أشرُّ من الشر، الإمام عليٌ رضي الله عنه يقول:
تصوَّر كل أنواع الخير؛ إطعام الطعام، إفشاء السلام، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إكرام الضيف، رحمة اليتيم، رحمة الأرملة، تصوَّر الدعوة إلى الله، هداية الخلق، كل هذه الأعمال الطيِّبة خيرٌ منها ما أَعَدَّ الله للمؤمنين من نعيمٍ مقيمٍ في الجنَّة، كلامٌ دقيق وسيأتي أدق منه:
4 ـ كل شيءٍ في الدنيا سماعه أعظم من عِيانه:
قال العلماء:
البيت الذي يروق لك بعد أن تسكنه يصبح شيئاً عادياً، العمل الذي تطمح إليه، المركبة التي تقتنيها، أي شيءٍ في الدنيا سماعه أعظم من عِيانه، الحديث عنه أمتع من تملُّكه، الحديث عن مباهج الدنيا أمتع منها، الحديث عن الملذَّات أمتع من الملذَّات، الحديث عن بعض الطموحات أمتع من هذه الطموحات ولو وصلت إليها، هذه سُنَّة الله في خلقه، الدنيا هكذا تقبل عليها، ثم تُفاجأ، لذلك ربنا جلَّ جلاله يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5)﴾
الغَرور هو الشيطان، والغُرور أن ترى الشيء بحجمٍ أكبر من حجمه، فالإنسان في أول حياته قد يظن المال كل شيء، كلَّما تقدَّمت به السن يراه شيئاً، ولكن ليس كل شيء، فإذا شارف الموت يراه ليس بشيء، فالبطولة أن ترى الشيء على حقيقته في الوقت المناسب، فربنا جلَّ جلاله يحذِّرنا من أن نرى الدنيا بحجمٍ كبير، كل شيءٍ في الدنيا سماعه أعظم من عِيانه، لكن مهما وُصِفَت لكم الآخرة، فمعاينتها أعظم بكثير من السماع عنها.
إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بهذه المناسبة عندما رأى سيدنا زيد الخير أو زيد الخيل، كان من أجمل الرجال في عهد النبي، أي أنه مَضْرِبُ المثل في جماله، وفي مروءته، وفي شهامته، عندما رآه النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما اسمُكَ قال أنا زيدُ الخيلِ قال بل أنتَ زيدُ الخيرِ فقال: أسأَلُكَ عن علامَةِ اللهِ فيمن يُرِيدُ وعلامتُهُ فيمن لا يريدُ إني أحبُّ الخيرَ وأهلَهُ ومن يعملْ بِهِ وإنْ عمِلْتُ بِهِ أيقنتُ ثوابَهُ فإنْ فاتَنِي منه شيءٌ حنَنْتُ إليه فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هي علامَةُ اللهِ فيمن يريدُ وعلامَةُ اللهِ فيمَنْ لا يريدُ لو أرادَكَ في الأخرى هيَّأَكَ لَها ثمَّ لا تُبَالِي في أَيِّ وادٍ سلَكْتَ ))
دائماً في الدنيا الإنسان يفَاجأ، يُوصَفُ لك مكانٌ جميل، تذهب إليه، فإذا هو أقلُّ مما وصِف، يُوصف لك بيتٌ جميل، تدخل إليه، فإذا هو أقل مما وُصف، كل شيءٍ في الدنيا سماعه خيرٌ من عِيانه، أما الآخرة فبالعكس، كل شيءٍ في الآخرة عِيانه أعظم من سماعه، لهذا قال الله عزَّ وجل:
﴿
ما قال لو تعلمُ، لو قال: لو تعلمُ لأمكن أن تعلم، بل قال: فلا تعلم، أي: يستحيل على الإنسان أن يعلم ماذا أعدَّ الله له من نعيمٍ مقيم، فلذلك المؤمن حينما يقبض الله روحه، ويرى مَن حوله يبكون، ويتألَّمون، ويندبون حظَّهم، ويضربون وجوههم، ويمزِّقون ثيابهم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الموضوع:
(( إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ))
العلماء حاروا في هذا الحديث، ألم يقل الله عزَّ وجل:
﴿
فما ذنب هذا الرجل يُعَذَّب لأن أهله يبكون عليه؟ قال بعض شرَّاح الحديث: إن المؤمن إذا رأى مقامه في الجنَّة، ورأى أهله يبكون يتألَّم لهم، هو في نعيمٍ مقيم، هو في جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، هو في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، لا خوفٌ عليه ولا هو يحزن.
5 ـ مَن أَحَبَّ لقاء الله أَحَبَّ اللهُ لقاءَه:
لذلك الإنسان من ضعف عقله أن يتعلَّق بالدنيا، ومن رجاحة عقله أن يتعلَّق بالآخرة، وأرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً، وإنَّ أكيسكم أكثركم للموت ذكراً، وأحزمكم أشدكم استعداداً له، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزوُّد لسكنى القبور، والتأهُّب ليوم النشور.
صحابيٌ جليل تفقَّده النبي عَقِبَ معركة أُحُد فلم يجده، قال: أين هو؟ هذا الصحابي هو سعد بن الربيع، كلَّف النبي أصحابه أن يتفقَّدوه في ساحة المعركة، ذهبوا إليه فإذا هو بين الموتى، لم يمت بعد، قال له من كلَّفه النبي بذلك: "يا سعد أبين الأحياء أنت أم بين الأموات؟" أي ما وضعك؟ قال: "أنا بين الأموات"، أي في النزع الأخير، سيدنا سعد بن الربيع قال لهذا الصحابي الرسول:
كان في قمَّة سعادته، وعلامة الإيمان أن المؤمن يشتاق إلى الله عزَّ وجل، يحبُّ لقاء الله، كلَّما استقمت على أمره، وصلُحَ عملك تمنيت لقاء الله عزَّ وجل، هذه قاعدة، ولكن الله جلَّ جلاله يصف اليهود فيقول:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(7)﴾
إذاً: هناك قانون، هذا مقياس لنا جميعاً، تمنّي الموت أن تشتاق إلى الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام عُرِضَت عليه الدنيا فقال:
(( بل الرفيق الأعلى. ))
لقد اختار لقاء الله عزَّ وجل، لذلك سيدنا الصديق بكى حينما قال النبي الكريم في خطبةٍ من خطبه:
((
فبكى الصديق بكاءً شديداً، وقال: "بل نفديك بأرواحنا يا رسول الله"، عَلِمَ أن المعني هو رسول الله. وحينما نزلت الآية الكريمة:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)﴾
قال الصحابي الجليل:
أخطر حدثٍ في حياتك حدث مفارقة الدنيا، وأعقل إنسان هو الذي يعدُّ لهذا الحدث الذي لابدَّ منه، لابدَّ من ساعةٍ يُوضَع الإنسان في القبر، لابدَّ من ساعةٍ يترك الدنيا كلها؛ بيته، أهله، أولاده، بلدته، مكانته، أمواله، متنزَّهه، مقصفه، أبداً، يدع كل شيء، لذلك أعقل إنسان هو الذي يترك الدنيا قبل أن تتركه، هو الذي يتعلَّق بالآخرة قبل أن تجذبه، هو الذي يقدِّم ماله أمامه حتَّى يسرَّه اللحاق به.
6 ـ فليكفكم من العيان السماعُ، ومن الغيب الخبرُ:
هناك شيء آخر، إذاً:
الآن قال العلماء:
إذا كانت دنياك متواضعة ومحدودة، وكانت أخراك غنيَّة مُتْرَعة، فهذا هو التوفيق، أما إذا زاد نصيبك من الدنيا، وقلَّ في الآخرة فهذا هو المصاب الكبير، "واعلموا أن ما نقص من الدنيا، وزاد في الآخرة خيرٌ مما نقص في الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوصٍ رابح، وكم من مزيدٍ خاسر، واعلموا أن الذي أُمِرْتم به أوسع من الذي نُهِيتم عنه"، قال تعالى:
﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
نسبة المحرَّمات إلى ما هو حلال نسبةٌ ضئيلةٌ جداً جِداً جداً، الخمر محرَّمة، عد كم شراباً مباحاً؟ كم شراباً لك أن تشربه هنيئاً مريئاً طيِّباً مباركاً؟ مئات؛ بل ألوف، لحم الخنزير محرَّم، كم من الأطعمة مباحةٌ لك؟ أنواع منوَّعة لا يعلم عددها إلا الله عزَّ وجل، إذاً:
7 ـ لا تشتغلْ بما لم تُكَلَّف به:
أوضح مثل لهذا الموضوع: في مدينة دمشق مدرسة، هي التجهيز الأولى قديماً، هذه المدرسة كانت الثانويَّة الأولى في القطر، في عام (1937 ـ 1938) كانت الثانويَّة الوحيدة في القطر، وكان فيها نظام المبيت الليلي، فكان فيها مطابخ، وفيها مهاجع، وفيها قاعات للمطالعة، فهذا الطالب مكلَّف بالدوام، مكلَّف بحضور الدروس، مكلَّف بالمطالعة والمذاكرة والدراسة، وهناك عاملون في المطبخ، وفي إعداد الطعام، وفي تهيئة الطعام، وفي طبخ الطعام، وهناك من يجلب الأرزاق، وهناك من يهيِّئ الأطباق، ولكن الطالب مضمون له الطعام في الوقت المحدَّد، يُقْرَع الجرس، فيتوجَّه إلى المطعم، فإذا كل شيءٍ على الطاولة؛ الطعام، والشراب، والفاكهة، والحلويات، مطلوبٌ منه أن يدرس، وقد تكفَّلت له المدرسة بثلاث وجباتٍ أساسية متوازنة وكاملة، ما قولك بطالبٍ ترك قاعة المطالعة، وترك مذاكرة الدروس، وترك حضور المحاضرات، وتوجَّه إلى المطبخ يسألهم: هل أتيتم بالبصل؟ ماذا فعلتم بالأكلة الفلانيَّة؟ هل تمَّ نضجها؟ هذا ليس شغلك، كُلِّفت بالدراسة، وتكفلنا لك بالطعام، فلماذا تركت الدراسة، وحشرت أنفك في الطعام؟
هذه قضيَّةٌ مهمَّةٌ جداً، الإنسان الضالّ، المُضِلّ، الغافل، التائه، يشغل نفسه بما تكفَّل الله له به، ويُعْرِضُ عما كُلِّف به.
﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى(39)﴾
ليس لك إلا ما سعيت، الآية دقيقة جداً ففيها قصر، لو أن الله عزَّ وجل قال: للإنسان ما سعى، وله ما لم يسعَ، لكن
لذلك يقول الإمام علي:
8 ـ بادِروا بالعمل، وخافوا بغتة الأجل:
ما من إنسان يموت أحدٌ من أقربائه إلا ويسأل سؤالاً فيه فضول: كيف مات؟ هل كان مريضاً؟ يُفاجأ الإنسان أحياناً أن الشخص لا يشكو شيئاً، في ذهنه آمالُ عشرين سنة قادمة، يأتيه الموت فجأةً بغتةً، فهذا الموت السريع، المغادرة السريعة وما أكثرها، ولا سيما في هذه الأيام، ألِفنا بفطرتنا أن الإنسان يمرض سنتين، ثلاثاً، عشر سنوات يبقى طريح الفراش، ثم يأتيه الموت على انتظار، أما أن يتناول الإنسان طعام الفطور في بيته بين أولاده، وفي الظهيرة تراه مُسَجَّى على فراش الموت، أو ينام فلا يستيقظ، أو يستيقظ فلا ينام، يذهب فلا يعود، أو يعود فلا يذهب، فهذا شيء عجيب، يقول سيدنا علي:
ربنا عزَّ وجل ماذا قال؟ قال:
﴿
الآية فيها صورة جميلة، أي أن المؤمن لا يركن للدنيا، فالمضجع مكان للراحة، لا يستريح إلا إذا أحسَّ أن الله راضٍ عنه، لا يستريح إلا إذا رأى عمله موافقاً للشرع، لا يستريح إلا إذا صلَّى فرضي عن صلاته، لا يستريح إلا إذا ذكر فرضي عن ذكره، لا يستريح إلا إذا أكرمه الله بالعِلم، لا يستريح إلا إذا أكرمه الله بالاستقامة، لا يستريح إلا إذا أجرى الله الخير على يديه، عندئذٍ يطمئن؛ أما إذا جاءته الدنيا فما قيمة الدنيا؟ لابدَّ من أن تزول.
سمعت عن رجلٍ قبل أكثر من خمسة عشرَ عاماً، كان يملك قصراً في مدينة من مدن الشمال يزيد ثمنه عن خمسةٍ وثلاثين مليوناً، قبل خمسة عشرَ عاماً، الآن يمكن أن يكون ثمنه خمسمائة مليون، قصر كبير، مات في مقتبل العمر، مات في سنٍ لا تزيد على اثنتين وأربعين سنة، وشاءت حكمة الله عزَّ وجل ـ كان طويل القامة ـ أن يكون القبر الذي دُفِنَ فيه أقصر من قامته، فاضطرَّ حفَّار القبر أن يضعه على الأرض، وأن يدفعه بصدره، فانثنى رأسه ليسعه القبر، هذا البيت العظيم الذي فيه رخام بما يزيد عن خمسة ملايين تركه، وغادر الدنيا فجأةً، وهناك قصص كثيرةٌ جداً نسمعها، إنسان أعدَّ كل شيء، رتَّب كل شيء، دقَّق في كل شيء، ثمَّ قال له مَلَك الموت: تفضَّل، الآن؟ الآن لأنه:
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ
أجملُ كلمة:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)﴾
9 ـ ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟:
أيها الإخوة الأكارم، نحن الآن أحياء نُرزَق، قلبنا ينبض، نفَسُنا يدخل ويخرج، نحن الآن في بحبوحة؛ باب التوبة مفتوح، باب العمل مفتوح، باب الإنابة مفتوح، باب الذكر مفتوح، باب فهم كلام الله مفتوح، أبواب الجنَّة كلُّها مفتَّحة، لذلك:
((
ماذا ينتظر أحدكم؟ الحديث دقيق جداً، يا ترى أنا كل يوم استيقظ كاليوم السابق من دون شيء؟ أليس هناك مفاجآت؟ ولكن هؤلاء الذين غادروا الدنيا كيف غادروها؟ بخبر مفاجئ؛ إما في كليته، وإما في قلبه، وإما في دماغه، وإما في شرايينه، لابدَّ من مفاجأة، فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ
أيها الإخوة الأكارم، قدَّمت لكم هذا النص من كلام الإمام عليٍ كرَّم الله وجهه تقديماً لهذا الحوار:
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
أي كنتم توسوسون لنا، تدفعوننا إلى المنكر، إلى المعاصي.
1 ـ الذي أُضِل كانت عنده رغبةٌ في الضلال:
2 ـ الإنسان ابن نفسه:
لو كنتم مؤمنين لمَا استجبتم لنا، لو كنتم مؤمنين لمَا أصغيتم لنا، لو كنتم مؤمنين لمَا سرتم معنا، لو كنتم مؤمنين لمَا وافقتمونا، لو كنتم مؤمنين لاستعصيتم علينا، معنى ذلك المؤمن وقَّافٌ عند كلام الله، ما يقال عن البيئة، والمحيط، والوراثة، وجو البيت، والمنزل، والعائلة والأسرة، والثقافة، والفساد العام، هذا كله كلام فارغ.
مرَّةً قال لنا أستاذ في الجامعة وهو أستاذ في علم النفس: صحيحٌ أن الإنسان ابن بيئته، وصحيحٌ أن الإنسان ابن وراثته، وصحيحٌ أن الإنسان ابن أبويه، وصحيحٌ أن الإنسان ابن ثقافته؛ ولكن الأصحَّ من ذلك كلِّه أن الإنسان ابن نفسه.
الإنسان له اختيار، وهذا يؤكِّده أن بيئةً سيئةً جداً يخرج منها شابٌ مؤمن، نقول: يا الله!! عجباً، صاحب البيت يدير أكبر ملهى فيه كل المعاصي، وهذه الفتاة التي جاءت من صلبه، لماذا اختارت طريق الهدى؟ لماذا أبت أن تأكل من طعام أبيها؟ لماذا تحجَّبت؟ لماذا صلَّت قيام الليل؟ لماذا حفظت القرآن وأبوها يدير ملهى؟ لماذا؟ لماذا امرأة فرعون كانت مؤمنة؟ لأن لها اختياراً، الإنسان مخيَّر، فهل هناك جو أصعب من فرعون؟ فرعون وقصر فرعون وحاشية فرعون؟ وامرأة فرعون..
﴿
فهل هناك بيئة أعظم من بيئة نبي؟ وهل هناك بيت أطهر من بيت نبي؟ مهما كان الأب عالِماً، وكان ورعاً وتقياً ونقياً، ومتبحِّراً في العلم، ويتحلَّى بأخلاق عالية، ولديه حلم، يا ترى فهل ستكون أخلاقه وعلمه أعظم من أخلاق نبي؟ ومع ذلك:
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(11)﴾
أرأيتم إلى أن البيت لا قيمة له، والوراثة لا قيمة لها، طبعاً لها تأثير، ولكن غير كلي، لكي يكون كلامي علمياً، هناك أثر للبيئة والثقافة والوراثة والأسرة، ولكن هذا الأثر لا يلغي اختيار الإنسان، لو أن الإنسان أراد، وقد قرأت مرَّةً كلمةً لا تزال ترنُّ في أذني: إنَّ القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلَّما تنقضه الأيَّام، إذا كان صادراً حقَّاً عن إرادةٍ وإيمان، فإذا اتخذت قراراً بالصلح مع الله، أهل الأرض كلُّهم لا يستطيعون أن يثنوك عن هذا القرار.
والله سمعت قصَّة من أحد علماء دمشق، ثمَّ تثبَّت منها، خلاصتها أن: أحد شيوخ الأزهر الكبار، وأحد العلماء الأجلاَّء الورعين في الزمن الماضي طبعاً، كان أمياً، لا يقرأ ولا يكتب، وهو من صعيد مصر، يبدو أنه رأى طالب علمٍ فتمنَّى من كل قلبه أن يكون عالِماً، وهو في الخامسة والخمسين من عمره، واسمه زكريَّا الأنصاري، ركب دابَّته وتوجَّه إلى مصر ـ هذه القصَّة قديمة جداً، وأذكر أنها حدثت في الأربعينات ـ فسأل أحد الباعة في مشارف القاهرة: أين الأزعر؟ قال له: ما الأزعر يا أخي؟ قال له: محل العلم، قال له: اسمه الأزهر، أي أزعر؟ إنه الأزهر، دلَّه على هذا المكان الطيِّب، فهذا الرجل وهو في الخامسة والخمسين ـ صدِّقوا هذا الكلام ـ أحد إخواننا في الخامسة والخمسين حفظ القرآن الكريم ـ هذا الإنسان تعلَّم القراءة والكتابة في الخامسة والخمسين، وقرأ القرآن وحفظه، وطلب العلم، وما مات في السادسة والتسعين إلا وهو شيخ الأزهر.
إذا طلب الإنسان شيئاً فإنه يفعل المستحيل، فلا بيئة، ولا ظروف، ولا معطيات ـ هذه كلمة حديثة ـ معطيات، وظروف، وبيئة، وعقبات، ووراثة، ومحيط، هذا كله كلام فارغ، إذا أردت الله عزَّ وجل يسَّر الله لك كل شيء، وإذا لم تكن صادقاً في الطلب فلن تصل، لهذا فالله عزَّ وجل لا يتعامل مع التمنيَّات أبداً، فهل يا ترى في القطر العربي السوري، هل هناك طالب من طلاب الشهادة الثانويَّة لا يتمنَّى أن يكون الأول على القطر؟ التمني سهل، الفقير يتمنى الغنى، والجاهل يتمنى العلم، ولكن لا يوجد حركة، ولا عمل، ولا سعي ولا شوق، لذلك فالله جلَّ جلاله لا يتعامل مع التمنيات..
﴿
أما قول الله تعالى:
﴿
فلم يقل: وسعى لها؛ بل قال:
أخلِقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمـــــن القرع لـلأبواب أن يـلجـــــــا
إذاً:
الآية الثانية:
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ
الحقيقة الثانية أن أحداً على وجه الأرض لا يملك على أحدٍ أي سلطان، فكل قولٍ يقوله الإنسان حينما يسب الشيطان، يرتكب المعصية فيسبُّ الشيطان، فهذا كلام فارغ إذ يحمل الشيطان كلامه أو أفعاله..
﴿
1 ـ الإنسان مختار:
فهل من الممكن لإنسان أن يتوجَّه إلى مخفر للشرطة، وهو يرتدي أجمل الثياب البيضاء في الصيف، فإذا هي ملطَّخةٌ بالوحل، والماء الآسن الأسود، ثم يدَّعي على فلان؟ قال المسؤول: على فلان، لماذا؟ قال: لأنه هو السبب في هذا، قال له المحقِّق: يا ترى دفعك إلى هذه الحفرة؟ قال له: لا والله ما دفعني، قال: شهرَ عليك سلاحاً وأجبرك أن تنزل فيها؟ قال: لا والله، قال: فكيف تدَّعي عليه ذلك؟ قال: هو الذي قال لي: انزل فنزلت، فهذا الإنسان ألا يستحقُّ أن يُوضَع في مستشفى الأمراض العقليَّة؟ لم يكن له سلطان عليه، قال:
إذاً الحقيقة الثانية: أن أحداً لا يستطيع أن يضلَّ أحداً، لأنه ليس له عليه سلطان، لا سلطان لأحدٍ عليك، فأي شيءٍ تفعله محاسبٌ عنه.
لذلك الذي جاء أحد الخلفاء، وقد ضُبِطَ متلبِّساً بشرب الخمر، قال له: "يا أمير المؤمنين إن الله قدَّر عليَّ ذلك"، فقال الخليفة:
أنت مخيَّر ولست بمسيَّر بهذا الموضوع، أنت مخيَّر فيما كُلِّفت، إذاً:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ
أيّ إضلالٍ يُعزى في القرآن إلى الله عزَّ وجل فيما يبدو، فالمفسِّرون أجمعوا على أن هذا الإضلال هو الإضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري، إذا قلت: الله أضلَّهم، بمعنى أنهم اختاروا الضلالة، فساروا في طريقها بموافقة من الله عزَّ وجل، فالإضلال إذا عُزِي إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري، استنباطاً من قول الله عزَّ وجل:
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ
الآن:
أحياناً على المستوى الصحي، يأتي طبيب فيلقي محاضرة عن آثار التدخين، وعلاقة الدخان بالجلطة، وعلاقة الدخَّان بضيق الشريان التاجي، وعلاقة الدخان بتكوين المادة التي تسبِّب تجمُّد الدم، وعلاقة الدخَّان بسرطان الرئة، وعلاقة الدخان بسرطان البلعوم، وعلاقة الدخان بضيق الأوردة والشرايين، وهذا الإنسان لا يبالي، آثر لذَّة الدخَّان على أخطاره، فحينما تأتي المصائب، حينما يصاب بآفات في أجهزته الدمويَّة والتنفسيَّة، وحينما يدفع الثمن باهظاً، عندئذٍ يندم ولات ساعة مندمِ، أي لا ينفع الندم، وليست الساعة ساعة ندم، ماذا يجدي؟ فهنا:
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ
فنحن لم نكن مهتدين فأضللناكم، لا، بل نحن كنَّا غاوين مثلكم، نحن لم نكن مهتدين، نحن قلنا لكم ما كنَّا نتوهَّمه من باطل، فإذا هو باطل، كنَّا نحن قوماً طاغين، ومنحرفين
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
فأجمل صورة نصوّر بها الحالة: عندما يشكِّل شخص عصابة ويعطيها وعوداً كاذبة، أنهم غداً تصبحون من الأغنياء الكبار، ونسافر خارج القُطر، ونشتري ونعمل، فإذا ألقي عليهم القبض جميعاً، ودخلوا إلى السجن، فإذا نظر بعضهم إلى بعضٍ بدا وكأنه يريد أن يفتك به: أنت كنت السبب، يرد عليه: أنت لماذا وافقت معي؟
هذه حكاية القصَّة كلها بشكل ملخَّص، لو أن زعيم عصابة أقنع أفراد عصابته بارتكاب جريمة، ومنَّاهم بالأموال الطائلة والسفر، والانغماس في الملذَّات المحرَّمة، ثم أُلقي القبض عليهم، وأُودعوا في السجن، وذاقوا ألوان العذاب، فإذا قال أحدٌ من هؤلاء الذين غُرِّرَ بهم على حدِّ قول الصحافة، إذا قال أحدهم: أنت الذي كنت السبب، يقول لك: فلماذا وافقتني على ما طلبت منك؟ هذا الذي يحدث يوم القيامة..
إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ
إذا عَزَيْتَ الأمر كله لله عزَّ وجل، والله هو المسيِّر وبيده كل شيء، فهذا الكلام يزعجه كثيراً، لا يقبله، بل يريد شركاء لله، ويقول لك: الأمر يتعلق بزيد وعُبَيد، وفلان وعلاَّن، أنه يريد أن يبقى في الأرض، وألا يصعد إلى السماء، ويريد ألا يكون لله دخلٌ في الحوادث اليوميَّة، فكل هذا الشقاء سببه الشِرك.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.