وضع داكن
01-12-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 001 - مقدمة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تمهيد :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ انطلاقاً من قول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( من عرف نفسه عرف ربه ))

 فالإنسان من دون جميع المخلوقات , يتمتع بما وهبه الله عزّ وجل بقوة إدراكية ، فإذا غفل عن سر وجوده , وعن حقيقة وجوده , وعن مهمته في الدنيا , فقد ضلَّ سواء السبيل ، الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾

[سورة الكهف الآية : 103]

 يجب أن نقف قليلاً عند كلمة الأخسرين ؛ إنها جمع الأخسر , والأخسر : اسم تفضيل , الأشد خسارة .
 الإنسان في الدنيا قد يخسر ماله ويعوضه ، قد يخسر مركزه ويعوّضه ، ولكن الإنسان في الآخرة : حينما يكتشف أنه ضلَّ سواء السبيل ، وحينما يكتشف أن أمامه شقاءً أبدياً ، لا يُقال له : خاسر , يقال له : أخسر ، خسر نفسه , وخسر الآخرة الأبدية , وضيَعها من أجل لعاعة من الدنيا , كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام الدنيا .
 إذا :

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[سورة الكهف الآية : 103-104]

 فالناس مختلفون :
 منهم من يدري ويدري أنه يدري فهذا عالمٌ فاتبعوه ، ومنهم من يدري ولا يدري أنه يدري فهذا غافلٌ فنبّهوه ، ومنهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهلٌ فعلّموه ، ومنهم من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا شيطان فاحذروه .
  إذاً : الإنسان دون جميع المخلوقات , زوده الله بقوة إدراكية .
 إذا قلت لكم : إن أعظم شيء خلقه الله في الأرض أو في الكون هو العقل البشري , لا أكون مبالغاً ، الإنسان به يرقى ، وبه ينحط , الإنسان هل هو إلا عقل يدرك وقلب يحب ؟ والعلاقة بين العقل والقلب كما ورد في الحديث الشريف :

(( أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ))

 كلما رجَحَ عقلك ازداد حبك .
 انطلاقاً من أنه :

(( من عرف نفسه عرف ربه ))

 يجب أن نعرف أنفسنا من نحن ؟
 ماهويتنا ؟
 لئلا تستهلكنا الحياة ، الحياة تستهلك الناس من عملٍ , إلى نومٍ , إلى راحةٍ , إلى متعةٍ , إلى ندوةٍ , إلى سهرةٍ , إلى نزهةٍ , إلى لقاء , إلى خصومةٍ , إلى مجادلةٍ , ويأتي الأجل وقد ضيّع الإنسان كل شيء , فمن أجل أن لا تستهلكنا الدنيا , ومن أجل أن لا نكون ضحية الجهل , الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾

[سورة الطلاق الآية: 12]

علة وجود الإنسان .

 كأن علّة وجودنا في هذه الأرض أن نعلم ، ويبدو أن العلم إذا كان كما أراد الله عزّ وجل ينقلب إلى عمل ، وإذا صحّ العمل , سَعِدَ الإنسان في الدنيا والآخرة .
 قال الله عزّ وجل :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[سورة الذاريات الآية: 56]

 العبادة في الأصل : غاية الخضوع إلى الله عزّ وجل ، غاية الاستسلام ، غاية المحبة ، غاية التوجه , والإنسان يتوجه إلى الله ويعبده , ويحبه , ويستسلم له إذا عرفه , وإذا توجه إليه يسعد لقربه , ولذلك خلقه .
 ويقول الله عزّ وجل :

﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾

 أنت أيها الإنسان مهمتك الأولى أن تعبد الله عزّ وجل .
 الإنسان هو المخلوق الأول , لأنه قَبِلَ حمل الأمانة , سَخّرَ الله له ما في السماوات والأرض , حَملُ الأمانة مأخوذ من قوله تعالى :

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 72 ]

 هذه الأمانة عُرضت على جميع المخلوقات في عالم الأزل ، أشفقن منها , وحملها الإنسان , لأنه حملها , استحق أن يسخّرَ له ما في السماوات وما في الأرض , وتعلمون أن المسخّرَ له أقربُ دائماً من المُسخّر , المسخّرُ له وهو الإنسان أكرمُ على الله من المسخّر ، لذلك الله عزّ وجل يقول :

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾

[سورة الإسراء الآية: 70]

 أنت المخلوق الأول في هذا الكون ، المخلوق المكرّم ، أنت مكلّفٌ بالأمانة ، مكلّفُ بهذه النفس التي بين جنبيك .
 أنت كائن ؛ لك جسد , ولك نفس , ولك روح , في أرجح الأقوال ذاتك , ذاتك التي وصفها الله عزّ وجل بأنها ذات الصدور , والله عليم بذات الصدور , قال تعالى :

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾

[سورة الفجر الآية: 26-28]

 ذاتك التي هي موضع الأمر والنهي ، وهي التي تؤمن وتكفر ، وهي التي تسعد وتشقى ، وهي التي ترضى وتغضب ، وهي ذات الإنسان التي خلقها الله عزّ وجل , لتبقى في أبد الآبدين , إنها نفسك .
 لك جسد , والله سبحانه وتعالى بطريقةٍ أو بأخرى ربط الجسد بالنفس ، هذا الجسد وعاءٌ لها ، حاملٌ لها , ثوبٌ لها ، رداءٌ لها ، وهذا الجسد شيءٌ مؤقت ينتهي عند الموت , فالذي يبالغ في إمتاع جسده , والعناية به , ويهمل نفسه , وهذا حال أهل الأرض ، تعيس تعيس , ماذا قال بعض زعمائهم ؟: ملكنا العالم ولم نملك أنفسنا , سيطروا على الطبيعة على حدِ زعمهم , ولكن لم يسيطروا على هذه النفس , أنفسهم لم تسعد ، تمتعت أعضاؤهم ، تمتعت حواسهم ، ولكن نفوسهم لا تسعد , لأن فِطرة الله عزّ وجل التي فطر الإنسان عليها , لا تسعد إلا بقربه , الدليل :

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾

[سورة الروم الآية: 30]

 أن تقيم وجهك للدين حنيفاً , وأن تُقبل على ربك , وأن تلتزم أمره ونهيه , هو الوضع الطبيعي للنفس البشرية .

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾

 المفارقة : أن أهل الغرب اعتنوا بأجسادهم , ولكن هذه النفس الغالية التي كرّمها الله عزّ وجل وضعوها في الوحول , وضعوها في الشهوات الخسيسة .
 أنت لك نفس , هذه النفس تذوق الموت ولا تموت ، هي خالدةٌ ؛ إما في جنةٍ يدوم نعيمها , أو في نارٍ لا ينفذ عذابها , هذه النفس تسعد بقربها من الله , وتشقى ببعدها عنه , قال الله عزّ وجل :

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

[سورة طه الآية: 124]

 لن تجد إنساناً واحداً على وجه الأرض سعيداً , وهو بعيد عن الله عزّ وجل , فهذه الحالة مستحيلة .
 بعض المفسرين تساءلوا حول هذه الآية : ما بال الملوك ، ما بال الأغنياء ، ليس عندهم ولا مشكلة ؟ الأمور كلها موفورة لديهم , فأجاب بعضهم : بأنه ضيق القلب , ضيق القلب : هو الذي عناه الله عزّ وجل من قوله تعالى :

﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ﴾

 وجه اهتمامك إلى هذه النفس التي بين جنبيــك ، وانتبه لها .
 يقول سيدنا عمر : تعاهد قلبك , فالإنسان إذا أصاب عينــه عارضٌ ، يقلق قلقاً شديداً , ويذهب إلى أمهر الأطباء , ويبذل مئات الليرات ليطمئن , هذا الحـــرص على سلامة العين ، وعلى أن تتمتع بها طوال حياتك , هو كحرص الدعاة إلى الله , بل هم أشد حرصاً على أنفسهم , وعلى طهارتها , وعلى سلامتها , وعلى اصطباغها بالكمال , من حرصهم على أعينهم إذا أصابها عارض .

 

 الإنسان : نفس وجسد وروح .
 الروح في رأي بعضهم : قوة الله أودعها الله في الإنسان .
 فالعين ترى بالروح .
 هذا الكبد : الذي له خمسة آلاف وظيفة دون روح لا قيمة له ، أما بالروح له وظائف يعجز عن إدراكها العلماء فضلاً عن معرفة كنهها .
 هذا الكظر ، هذا البنكرياس ، هذه الأمعاء .
 هذه العين : بإمكانها أن ترى الفرق بين لونين بينهما واحد من 800 ألف درجة , لو أننا درّجنا اللون الأخضر ثمانمئة ألف درجة , العين البشرية تفرّق بين درجتين .
 العين ترى بالروح ، والأذن تسمع بما أودع الله في هذه الأذن فيما يبدو قوة السمع , فإذا ذهبت الروح , أصبح الإنسان جثة هامدة , فالروح قوة الله عزّ وجل يستردها عند الموت ، والجسد يبلى ، النفس هي التي تبقى ، هنيئاً لمن اعتنى بنفسه , نظر إلى أمراضها , نظر إلى عللها , نظر إلى ما يسعدها , نظر إلى ما يشقيها .
 الإنسان نفسٌ , هي ذات الإنسان , هي المعنية بالخطاب , هي التي تؤمن ، هي التي تكفر ، هي التي ترضى ، هي التي تسخط ، هي التي تسعد ، هي التي تشقى ، وله وعاءٌ هو الجسد , وفيه قوة محركة هي الروح .
 الإنسان حينما قَبِلَ الأمانة , استحق أن تسخر له السموات والأرض , والله سبحانه وتعالى منّ عليه بهذا العقل , العقل قوة إدراكية يميز بها الإنسان عما سواه من المخلوقات ، أعطاه فِطرة , ربنا عزّ وجل قال :

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾

[سورة الشمس الآية: 6-8 ]

 هناك تفسير لهذه الآية يتصل بفطرة الإنسان , يعني الإنسان إذا فعل شيئاً مخالفاً لفطرته يتألم ، إذا خرج عن قواعد فطرته يشعر بالضيق ، حتى إن الأجانب حينما يصفون الأمراض النفسية , من جملة هذه الأمراض الشعور بالكآبة , هذا مرض يعقب الانحراف , لو أن هذا الإنسان ما وصله الحق , ولا بلغه الحق , إن فطرته وحدها كفيلة كي تنبهه إذا انحرف , هذه هي الفطرة .
 قال تعالى :

﴿ ألهمها فجورها ﴾

 هذه النفس , لأنها فُطرت فِطرةً عالية جداً , إذا هي انحرفت , تشعر بانحرافها , وتضيق بهذا الانحراف , هذا معنى : ألهمها فجورها وألهما تقواها , وإذا اتقت الله عزّ وجل , وكانت عند الأمر والنهي , وكانت مطيعةً له , ترتاح هذه النفس وتسعد , هذا معنى :

﴿ ألهمها فجورها وتقواها ﴾

مقومات التكليف :

 أعطانا الكون , وأعطانا العقل ميزاناً , ولكن أتمنى على أخوتنا الأكارم أن يعلموا : أن هذا الميزان يشبه إلى حدٍ كبير العين , مهما دقت العين تحتاج إلى ضوء لترى به ، والعقل مهما نما ومهما رجح يحتاج إلى نورٍ إلهي يهتدي به ، العقل وحده يضل , والعقل دون نورٍ رباني يزل .
 العقل قوة إدراكية , وهو ميزان , والشرع ميزانٌ على الميزان ، أعطانا كوناً , وأعطانا عقلاً , وأعطانا فِطرةً , والفِطرة ميزان نفسي , والعقل ميزان علمي , وأعطانا بعد كل هذا : حرية الاختيار , كي تُثمّنَ أعمالنا , وأعطانا شهواتٍ نرقى بها إلى الله صابرين وشاكرين , وأعطانا فيما يبدو لنا قوةً نحقق بها إرادتنا هذا فيما يبدو , أما في الحقيقة الفِعلُ فِعلُ الله عزّ وجل , هذه المقومات مقومات التكليف : يجب أن تكون ماثلةً بين أيدينا .
 أولاً : أنت كائن لك نفسٌ وروحٌ وجسد .
 ثانياً أنت مكلّف , مكلّفٌ ومكرّمٌ ، ومخلوق أول , مكلّفٌ بنفسك , والدليل قوله تعالى :

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾

[سورة الشمس الآية: 9-10 ]

مراحل الهدى :

 الله سبحانه وتعالى بعد أن خلقنا , هدانا في القرآن الكريم , آية تقول :

﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾

[سورة طه الآية: 123]

﴿ فمن اتبعَ هدايَ فلا يضل ولا يشقى ﴾

 الهدى على أربعة مراحل :

 

1-هداية الحواس الخمس :

 الله سبحانه وتعالى أعطاك الحواس الخمس , هذه هداية تشترك فيها مع كل المخلوقات :

﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾

[سورة طه الآية: 49-50]

 هداه بالعينين , بالسمع , بالإدراك , بالحركة , بالشمِ , بحواسه الخمس , هداه بعقله .

2-هدى الوحي :

 الهدى الثاني هو : هدى الوحي , أنت كمخلوق رحمة الله بك واسعة ، وحرصه عليك شديد :

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾

[سورة المؤمنون الآية: 115]

﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾

[سورة القيامة الآية: 36]

 بلا أمر وبلا نهي , حينما أنزل الله الكتب على أنبيائه ، هذا هو الهدى هدى الوحي :

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾

[سورة الكهف الآية: 13]

3-4هدى التوفيق ثم الهدى إلى الجنة :

 هدى التوفيق ؛ إذا آمنت بالله عزّ وجل , ينقلك من حالٍ إلى حال , ومن مقامٍ إلى مقام ، يلهمك فِعلَ الخيرات وترك المنكرات , يمكنّك من الدعوة إلى الله ، يعطيك مالاً تنفقه في سبيل الله ، هذه المقومات مقومات الأعمال الصالحة عند بعض العلماء : هدى التوفيق ، الهدى العام ، هدى الوحي ، والهدى الأخير هو : الهدى إلى الجنة .

الإنسان :

 مخلوق أنت كي تعبد الله عزّ وجل , الإنسان قد يأخذ وقد يعطي ، المخلوق لا يستطيع أن يأخذ إلا بقدر استيعابه , لكن الإنسان حينما جاء إلى الدنيا , جاء ليعمل الصالحات , وبهذه الصالحات , وهذه المؤثرات , وهذه التضحيات , يشعر أن الله يحبه ، بهذا الشعور الدقيق يقبل عليه ، بإقباله عليه يأخذ أكثر مما يعطى غيره , هذا هو سِرُ حمل الأمانة , يعني أنت جئت إلى الدنيا لتؤاثر الله على كل شيء :

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾

[سورة النازعات الآية: 40-41]

 أنت لك طبعٌ وعندك تكليف، وغالباً الطبع يتناقض مع التكليف, أنت مكلفٌ أن تغض بصرك, وطبعك يدعوك إلى النظر، أنت مكلفٌ أن تصلي الفجر في وقته, وطبعك يدعوك إلى النوم، أنت مكلفٌ أن تصمت عند الغيبة والنميمة, وطبعك يدعوك إلى ذكر هذه القصص الغريبة، أنت مكلفٌ أن تنفق المال, وطبعك يدعوك إلى كسب المال، قال تعالى:

﴿ فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى ﴾

 إذاً: من هذا التعارض بين الطبع وبين التكليف يرقى الإنسان، لكن في الشهوات يرقى مرتين؛ يرقى صابراً ويرقى شاكراً، إذا غض بصره عن محارم الله، إذا امتنع عن أكل المال الحرام يرقى صابراً, أما إذا أنفق أو إذا مارسَ هذه الشهوة وفق القناة التي سمح الله بها يرقى شاكراً, فأنت ترقى مرتين بالشهوة؛ ترقى صابراً وترقى شاكراً, عليك أن تعبد الله عزّ وجل, وهذا سر وجودك .

﴿ وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾

 مقامك أن تعبده, ولن تعبده إلا إذا عرفته, ولكن كيف تعرفه؟.
 الحقيقة هناك مصادر عِدة لمعرفة الله عزّ وجل .
 أولاً : جاءك خطابٌ منه وهو القرآن الكريم , فإذا قرأت القرآن , وتدبرته , أو جلست في مجلس علمٍ , وتعلمت تفسيره وأحكامه , فهذا باب كبير من أبواب معرفة الله عزّ وجل .
 ثانياً : وهناك باب آخر جاء في القرآن الكريم , إذا تأملت في خلق السموات والأرض , رأيت عظيم الصنعة , ودقة الصنعةِ , والحكمة والعلم ، كأن هذا الكون مظهر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى .
 معك القرآن مصدر لمعرفة كلامه , والكون مصدر آخر , وأفعاله مصدر ثالث .

 

أنواع المعرفة بالله كما فرقها الغزالي :

 الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- فرّق بين أنواع ثلاثة قال : هناك من يعرفه ، وهناك من يعرف أمره ، وهناك من يعرف خلقه .

1-العلم بخلقه :

 فخلقه : العلوم العصرية؛ الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، الجيولوجيا، الفلك، الفيزياء النووية، الفيزياء الكيميائية، الكيمياء العضوية، الكيمياء المعدنية, هذه كلها فروع معرفة خلقه, العلم في هذه الموضوعات نما نمواً مذهلاً, إذا تأملت في خلق السموات والأرض, ترى دقة الصنعة، ترى الاتقان، ترى الإعجاز، ترى أن هذه الصنعة تكشف عن علمٍ, وعن حكمة, وعن تقديرٍ, وعن رحمةٍ, وعن إكرامٍ، فأشياء كثيرة خُلقت خصيصاً لك .

﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾

[سورة ياسين الآية: 72]

2-العلم بأمره :

 العلم الثاني : العلم بأمره، الله عزّ وجل له أمرٌ وله نهي, وهذا الأمر مأخوذ من كتاب الله أولاً, ومن سنته ثانياً, ومن الإجماع والقياس ثالثاً ورابعاً, والعلم بأمره يقتضي الدراسة والاستماع والمطالعة والحفظ والتذكر, يعني الطريقة المدرسية لا بد من أن تقرأ, ولا بد من أن يعلمك معلم, ولا بد من أن يثقفك مثقف, ولا بد من أن تسأل, ولا بد من أن تجاب, ولا بد من أن تحفظ, ولا بد من أن تذكر, هذا العلم بأمر الله .

3-العلم به :

 أما العلم بالله شيء آخر, وربما الباعث لهذا الدرس, أن تزداد معرفتنا بالله عزّ وجل, العلم بالله طبيعته ليست من طبيعة العلم بأمره وخلقه، العلم بأمره وخلقه: هذان الاثنان يحتاجان إلى الطرق المعروفة في اكتساب العلم, الطرق المعروفة؛ الدراسة، القراءة، المتابعة، الحفظ، التذكر, ولكن العلم بالله عزّ وجل هذا له طبيعة خاصة, الإمام الغزالي لخصها بكلمتين قال: جاهد تُشاهد, والنبي عليه الصلاة والسلام لخصها في الحديث قال:

(( من عَمِلَ بما عَلم -من طبّق الشرع تماماً- أورثه الله عِلمَ مالم يعلم ))

 يعني أنت أمام معرفة الله عزّ وجل, لا تحتاج إلى قراءةٍ كمعرفة أمره وخلقه، تحتاج إلى غض بصرٍ, وإلى تحرير دخلٍ، وإلى ضبط نفسٍ، وإلى صيانة الجوارح عن المعاصي، وإلى الإحسان، وإلى البذل، وإلى العطاء، كلما ازددت قرباً من الله عزّ وجل, قذف الله في قلبك النور، ازداد قربك من الله, وازداد قلبك إشراقاً .

 

صلة العبد بربه :

 المُعَوَلُ عليه ، قوله تعالى :

﴿قد أفلح من زكاها﴾

 مؤمن يكذب ، مؤمن يتساهل, يفعل بعض المعاصي, لن تنعقد الصلة بينه وبين الله أبداً، وما لم تنعقد هذه الصلة, لا تقطف ثمار الدين، الدين يصبح حركات، الصلاة يصبح طقوساً، الصلاة والصوم والحج تنقلب إلى طقوس ، والمعلومات تنقلب إلى ثقافات، والثقافة تُملّ, والطقوس تُملّ, لهذا وصف الله المنافقين بأنهم:

﴿إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى* يراؤون الناس ولايذكرون الله إلا قليلاً﴾

 في الدين ثمرات يانعات، هذه السعادة سعادة أبدية، وطمأنينة نفسية، وشعور بأن الله يحبك، بأن الله راضٍ عنك، وسمو في النفس، وبعد عن سفاسف الأمور، فجوانح المؤمن نقية طاهرة, لا تحقد، لا تبغض، لا تنتقم، لا تنافق، لا تخنع، هذه النفس الأبية التي جاء وصفها في القرآن الكريم, لن تسطيع أن تمتلكها, إلا إذا اتصلت بالله عزّ وجل .
 جاهد تُشاهد, يمكن أن تعرف أمر الله إذا كنت ذكياً, ولك ثقافة جيدة, وعندك المراجع الكافية, يمكن أن تقرأ قراءةً متقنةً, وأن تلّخص, وأن تراجع, وأن تذاكر, وأن تؤدي امتحاناً, وأن تنال شهادةً, هذا بإمكانك, لكنه لن يتجلى الله على قلبك إلا إذا كنت مستقيماً، إلا إذا كنت عند الأمر والنهي, فالسرّ سرُ أن تسعدَ بالدين, أن تُقبل على الله ربِ العالمين, والله لا يقبل إلا طيباً, إن الله طيبٌ ولا يقبل إلا طيباً, وإن الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسلين .
 نحن أمام علمٍ بالله، هذا العلم بالله طبيعته غير طبيعة العلم بأمره والعلم بخلقه .

 

النبي :

 بعضهم قال النبي عليه الصلاة والسلام :
 أقواله شريعة , وأفعاله طريقة , وأحواله حقيقة .

أقوله شريعة :

 كل شيءٍ أمر به فهو تشريع ، كل شيء نهى عنه فهو تشريع ، كل شيء أقرّه فهو تشريع ، كل شيء سكت عنه فهو تشريع .

 

أفعاله :

 كيف صلى ؟ نحن أمام فقيه , أمام عالم بالشريعة وعالم بالطريقة ، عالم الشريعة يقول : يجب أن تستقبل القِبلة ، ويجب أن تكــون طاهراً ؛ طاهر البدن وطاهر الثوب , وأن يكون المكان طاهراً ، ويجب أن تقف منتصب القامة ، ويجب أن تقرأ الفاتحة وسورةً أو ثلاث آيات , وأن تركع مطمئناً , هذه الشروط والأركان والواجبات والسنن والمستحبات , هذه حركات الصلاة الظاهرة ، هذه يعرفها علماء الشريعة معرفة يقينية ، أما علماء الطريقة يقولون لك : يجب أن تستقيم على أمر الله حتى تصلي , يجب أن تغض البصر ، أن تحرر الدخل ، يلزمونك بالاستقامة كي تنعقد لك الكرامة , هذا من عمل علماء الطريقة .

وأحواله حقيقة :

 ما أن تتقلبَ في معرفة اللهِ من حالٍ إلى حال ، ومن مرتبةٍ إلى مرتبة ، ومن منزلةٍ إلى منزلة , فهذا من اختصاص علماء الحقيقة .
 هذا العلمُ بالله كما قال الإمام الغزالي : جاهد تُشاهد .
 في كلمة قالها أعجبتني : ثمنه من غير طبيعة , الشيء المعروف : أن العلم يحتاج إلى كتاب , وإلى قراءة , وإلى تلقي , وإلى تعلم , ولكن العلم بالله يحتاج إلى استقامة , وكأن النبي عنى هذا المعنى حينما قال :عَنْ مُسْلِمٍ, عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:

((كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ, وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ))

[أخرجه الدارمي في سننه]

 يقول الإمام الغزالي : إن هذا العلم بالله ثمنه باهظ , ونتائجه باهرة .
 يقرأ إنسان كتاباً, وهو مقيم على معصية، يعطي نفسه ما تشتهي, يفعل ما يريد, ويقرأ, وهو ذكي الحافظة، ذكي الفكر، قوي الحافظة, يستوعب, وهذا الثمن بسيط، ولكن ثمن العلم بالله ثمن باهظ, إذا كان هناك شهوةً تقيم عليها، إذا كان هناك معصيةً تصر عليها، فالطريق إلى الله مسدود, لن يسمح لك أن تقترب، لن يسمح لك أن تسعدَ به، لن يلقي على قلبك من نوره, ومن تجلياته, ومن جلاله, إلا إذا آثرته على كل شهواتك, وعلى كل خلقه, لذلك حينما قال الله عزّ وجل:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾

[سورة المؤمنون الآية: 1-3]

 قالوا اللغو: كلُ ما سِوى الله .
 عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشْعَرِيِّ قَالَ :

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمَانِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأ الْمِيزَانَ, وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأانِ أَوْ تَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ))

[أخرجه مسلم في الصحيح, والترمذي والنسائي في سننهما]

 الإمام الغزالي قال : هناك أربعة مستويات لفهم هذا الحديث .
 المستوى الأول : أن تُطّهر أعضاءك من النجاسات والقاذورات ، المؤمن نظيف بالمعنى المادي .
 المستوى الثاني : أن تُطّهــــر جوارحك من المعاصي والآثام .
 المستوى الثالث : أن تُطّهر نفسك من الأخلاق المذمومة ؛ الغضب ، الكبر ، الحسد .
 المستوى الرابع : أن تُطّهــر قلبك مما سوى الله .
 أربعة مستويات لطهارة البدن ثمنها باهظ .
 ألا إن سلعة اللهِ غالية .
 إنسان يطــــوف حول الكعبة ويقول : يا ربي هل أنت راضٍ عني ؟ كان وراءه الإمام الشافعي قال : هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال : يا هذا من أنت ؟ قال : أنا محمد بن إدريس , قال : وكيف أرضى عنه وأنا أتمنى رضاه ؟ قال : إذا كان سرورك بالنِقمةِ كسرورك بالنِعمةِ فقد رضيت عن الله .
 الثمن باهظ , أن تضع كل الشهوات تحت قدمك ، أن تضع كل الرغبات تحت قدمك ، أن تقول : إلهي أنت مقصودي ورِضاكَ مطلوبي .

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾

[الآية: 111 سورة التوبة ]

 أنفسهم وأموالهم : في أكثر آيات القرآن, قدّمَ الله المالَ على النفس, لسهولةِ إنفاقه أمام النفس، الإنسان ينفق الأسهل فالأصعب، إنفاق المال أسهل من إنفاق النفس, إلا في هذه الآية, قدّمَ النفسَ على المال لأنه هو الأصل, لأن النفسَ هي الأغلى, والجودُ بالنفسِ أقصى غاية الجودِ .
 نحن الآن على مستوى الحياة الدنيا: إنسان ينال دكتوراه, وهو نائم, مسترخ, مستلق في فراشه, دائماً مع رفاقه, يمضي الساعات الطِوال في القيـــل والقال, وفي المُزاح, ويأخذ الدكتوراه, مستحيل!! لا بد من أن ينقطع، لا بد من أن يؤثر الدراسة على كلَ شيء، من أجل شهادة دنيوية, أتريد مقاماً عند الله؟ أتريد مقعدَ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر؟ أتريد أن يحبك خالق الكون؟ هذا يحتاج إلى بذل، إلى انضباط, الثمن باهظ جداً, الثمن: أن تضع كل الرغبات تحت قدمك, الوقت كله لله عزّ وجل .
 الشيء الثاني: قال له: يا سيدي كم الزكاة؟ قال له: عندكم أم عندنا؟ ما عندكم وما عندنا؟ قال: عندكــم ربع العشر، أما عندنا العبد وماله لسيده, وقتك, ومالك, وطاقاتك, وذكاؤك, وفكرك, وعضلاتك, وبيتك دائماً لله عزّ وجل .
 الكلمة الثانية للإمام الغــزالي : والنتائج باهرة جداً, إذا علمت أمر الله فقط, هذه الأوامر, والنواهي, والدقائق, والتفصيلات, والأدلة, والقواعد الأصولية, كلها محشوةٌ في الدماغ، تجد عنده قدرة رائعة جداً للإجابة عن أي سؤال, ومع ذلك: إذا مرت امرأة في الطريق على جانبٍ من الجمال, ملأ منها عينيه, غريب!! هذا عالمٌ بأمر الله, وليس عالماً بالله عزّ وجل, إن عصيت الله لا تعرفه, أنت لا تعرفه, لا تنظر إلى صِغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت, لو أنك تعرفه حق المعرفة, لما اجترأت على معصيته إطلاقاً, أنت تعرف أمره ولا تعرفه، لو عرفته لما عصيته, هذا ماعناه النبي عليه الصلاة والسلام:

((كفى بالمرء علماً أن يخشى الله))

 فالمعلومات التي تنالها من كتاب, وتحفظها جيداً, وتؤدي بها امتحاناً وتنجح, هذه كلها محشوةٌ في الدماغ، لكن النفسَ في وادٍ آخر, قد تشتهي المعصية، قد تشتهي العمل الذي لا يُرضي الله .
 يقول الإمام الغزالي: النتائج باهرة جداً, يعني العلم بالله يشيع في النفس الإنسانية فيسمو بها، كيف تُحس بهذا؟ إنك إن جلست مع إنسان من أهل الدنيا, ترى دناءته، ترى سخافة عقله، ترى تعلّقه بالسفاسف، ترى أنانيته، تُحس أن بينك وبينك دورٌ شاسع, دورٌ كبير,
 العلم بالله يحتاج إلى طاعة, وإلى بذل, ماذا قال النبي؟ سُئل عن الإيمان, قال عليه الصلاة والسلام:

((الإيمان عِفةٌ عن المطامع عِفةٌ عن المحارم))

 الإيمان: الصبر والسماحة, إذا جاءك شيء بالأمر التكويني مزعج، عليك الرضا, لأن الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين, إذا جاءك أمر الله التكويني ترضى به, الصبر, وإذا جاءك الأمر التكليفي تنفق، فأنت بين صبرٍ وبين بذلٍ، الصبر تلقي والبذل عطاء, فالإيمان الصبر والسماحة، يجب أن نضع أيدينا على جوهر الدين .
 قصة أقولها كثيراً: هذا البدوي الراعي الذي قال: أين الله؟ حينما أغراه سيدنا عمر أن يعطيه الشاة, ويأخذ ثمنها دون علم صاحبها .
 ما ذاق طعم الإيمان إلا من استقام على أمر الله، وما ذاق طعم الإيمان إلا من أقبل عليه ، وما ذاق طعم الإيمان إلا من ائتمر بأمره .
 الإمام الجنيد سُئل: من وليُ الله؛ أهو الذي يمشي على وجه الماء, أم الذي يطير في الهواء؟ قال: لا، الولي ُكلُ الولي: الذي تجده عند الأمر والنهي, هذا وليُ الله .
 فالعلمٌ بخلقه؛ الجامعات كلها في أنحاء العالم تُعلّم الناس القوانين والقواعد التي أودعها الله في هذا الكون, وحتى هذه القوانين: يمكن أن تكون طريقاً إلى الله عزّ وجل, الطبيب إذا أراد أن يعرف الله عزّ وجل من خلال الدقائق التي يقرؤها, يمكن أن يكون عِلمُ الخليقةِ باباً إلى الله, الطبيب الذي يتمنى أن يكون طبيباً ذائع الشهرة, ويكسب الآلاف المؤلفة, هذا لا يرى في آيات الله شيئاً, يقرأ ولا يرى شيئاً، لكن الطبيب الذي يريد أن يعرف الله من خلال عِلمه, يصبح عِلمُ الخليقةِ باباً إلى الله, ويصبح أيُ علِمٍ من العلوم الأرضية العصرية الكونية باباً إلى الله عزّ وجل، متعلّق بمشيئة الطالب .
 عِلم الخليقةِ يحتاج إلى مُدارسة, نُلخص القراءة, والمذاكرة, والتلخيص, والحفظ, وأداء الامتحانات بكلمة مُدارسة .
 عِلمُ الخليقةِ يحتاج إلى مُدارسة, وتبقى نتائجه في الدماغ, والعلم بأمر الله يحتاج إلى مُدارسة, وتبقى نتائجه في الدماغ, الفكرة هي تُفسّر لكم: أن إنساناً يعرف أن هذا حرام ويفعله, هذا عَلِمَ الأمر ولم يعرف الله عزّ وجل، عَرَفَ أمره ولم يعرفه .

 

المراحل التي مر بها النبي :

 فالنبي عليه الصلاة والسلام بدأ بمرحلتين ؛ المرحلة المكيّة والمرحلة المدنّية .
 المرحلـة المكيّة : تعريفٌ باللهِ عـزّ وجل .
 والمرحلـة المدنيّة : تعريفٌ بأمره , وأيةُ دعوةٍ إلى الله تتجاهل هذا الترتيب , وتبدأ بتعريف الناس بالأمر قبل تعريفهم باللهِ عزّ وجل , هي دعوةٌ ليست ناجحة , تنشأ الحيل الشرعية , ما دام عَرَفَ أمره ولم يعرفه, يحتال على تطبيق أمره .

 موضــوع الحيل الشرعية, في أغلبه بعد عن الله، هذا الموضـوع أساسه: إذا وضعت زكاة مالك في رغيف, وقدّمته إلى فقير, وقلتَ له: خذه هِبةً مني، وبعد أن أخذه, سألته: أتهبني إياه وخذ مائة ليرة؟ الرغيف فيه خمسة آلاف, من يفعل هذا عَرَفَ الأمرَ ولم يعرف الآمر، مشكلتنا: يجب أن نعرف الآمر قبل الأمر، يجب أن نعرف الله قبل أن نعرف أمره، وإذا عرفنا الله وأمره معاً لا مانع، أما أن نبدأ بأمره فقط دون أن نعرفه, أغلب الظن أن الذي عَرَفَ أمره لا يطبّقُ أمره، بل يحتال على هذا الأمر كي لا يطبّقه، فالعِلمُ بالأمرِ، والعِلمُ بالخلقِ، والعِلمُ باللهِ, أساسه طاعةُ اللهِ عزّ وجل, ويجب أن يكون الحديث الشريف: من عَمِلَ بما عَلم, ورّثه الله عِلمَ مالم يعلم.
 يعني أنت إذا اتقيت الله عزّ وجل, طبّقت أمره كله, عندئذٍ يأتيك العلم الذي نتحدث عنه في هذا الدرس, وفي دروس قادمة إن شاء الله تعالى .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور