وضع داكن
28-11-2024
Logo
الدرس : 24 - سورة آل عمران - تفسير الآيات 81 - 91 كفر اليهود بالنبي وعدم تصديقه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع والعشرين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الواحدة والثمانين، وهي قوله تعالى:

﴿ وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٍ وَحِكۡمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ (82)﴾

[  سورة آل عمران  ]


وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ


1 ـ الأنبياء يصدِّق بعضهم بعضًا:

 الله جل جلاله في هذه الآية يبين أن كل نبي أرسله الله عز وجل، وأيده بالمعجزات، ومنحه الحكمة، ينبغي أن يؤمن بالنبي الذي بعده، لأن الأصل واحد، ولأن هذه الرسالات، وهؤلاء الأنبياء يصدرون عن الله عز وجل، إله واحد، فالأنبياء ينهلون من مشكاة واحدة، والرسل يوحي الله إليهم، فلا معنى نظرياً أن يرفض نبي أن يؤمن بنبي بعده، ولا أن يرفض رسولٌ أن يؤمن برسول بعده، هذا الشيء ما كان له أن يكون، لأن الأنبياء والرسل قِمم البشر، ينصاعون إلى الله انصياعاً لا يوصف، في أدق التفاصيل. 

2 ـ هذه الآية تعني أتباع الأنبياء:

 الحقيقة هذه الآية تعني أتباع الأنبياء، لأنه بالمنطق كيف يُكلَّف نبيٌ أن يؤمن بنبي بعده، وبينهما ستمائة عام؟ مستحيل! سيدنا موسى مُكلَّف أن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مستحيل، سيدنا عيسى مُكلَّف أن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن بعض العلماء قالوا: هذه الآية تخص أتباع الأنبياء، لأن أتباع الأنبياء يتبعون أنبياءهم، وينفذون شرعهم، الأنبياء أُخِذ عليهم العهد.

3 ـ يجب الإيمان بجميع الأنبياء:

 ﴿لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٍ وَحِكۡمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ﴾ الإيمان به: التصديق، النصر: أن تنضوي تحت إمرته، وأن تكون في خدمة هذه الرسالة الجديدة.
 أوضح لكم ذلك بمثل من حياتنا اليومية؛ مؤسسة لها مدير عام، هذه المؤسسة تابعة لوزير، لهذه المملكة ملك، الملك غيّر الوزير، لعله نقله إلى مكان آخر، فجعله سفيرًا، لعله ألّف وزارة جديدة، هل يستطيع مدير هذه المؤسسة أن يقول: أنا لا أتلقى أوامري إلا من الوزير السابق؟ معنى ذلك أن ولاءه للملك غير صحيح، ما دام الملك قد غيّر الوزارة مثلاً، ما دام الملك قد كلّف هذا الوزير الذي كنت تابعاً له بمهمة أخرى، وعيّن وزيرًا آخر، فعلامة ولائك للملك أن تنصاع للوزير الجديد، ولتعليمات الوزير الجديد، وأن تكون منفذاً لتعليماته، قابلاً لخدمته.
 هذا المعنى دقيق؛ لأنه لا يعقل أن نكون مسلمين أصلاً إلا إذا آمنا بالأنبياء السابقين واحداً واحِداً، وأتباع الأنبياء السابقين ينبغي أن يتبعوا النبي الأخير، النبي الخاتم الذي ختم الله به الرسالات، مضمون هذه الآية كذلك: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ﴾ .

4 ـ أخذُ الله ميثاقه على الناس بالإيمان بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام:

 الميثاق هو العهد، أخذ عليهم العهد، والحقيقة أخذ عليهم أن يبلغوا أتباعهم أنه إذا جاء نبي فينبغي أن يؤمنوا به، ويتبعوا رسالته.
 وتعلمون أيها الإخوة أن اليهود وفي كتبهم كلام واضح كالشمس، أن الله عز وجل سيبعث في آخر الزمان رسولاً من العرب اسمه أحمد، قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَمُبَشِّرًۢا بِرَسُولٍۢ يَأْتِى مِنۢ بَعْدِى ٱسْمُهُۥٓ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ(6)﴾

[ سورة الصف ]

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((  إنِّي عندَ اللهِ مَكتوبٌ بخاتَمِ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لِمُنْجَدِلٌ في طينتِه وسأُخبِرُكم بأوَّلِ ذلك: دعوةُ أبي إبراهيمَ وبِشارةُ عيسى ورؤيا أمِّي الَّتي رأَتْ حينَ وضَعَتْني أنَّه خرَج منها نورٌ أضاءَتْ لها منه قصورُ الشَّامِ  ))

[ صحيح ابن حبان ]

 وقال تعالى:

﴿ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(129)﴾

[ سورة البقرة ]

 وقال أيضاً: (وبِشارةُ عيسى) .
 إذاً: الأنبياء أصالة ووكالة عن أتباعهم، كُلِّفوا أنه إذا جاءهم رسول مصدق لمَا معهم ينبغي أن يؤمنوا به، وأن ينصروه بأن يكونوا في خدمته، وخدمة الحق الذي جاء به.
 أيها الإخوة، الله عز وجل يقول: 

﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىٓ إِلَيْهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعْبُدُونِ(25)﴾

[  سورة الأنبياء ]

 فحوى دعوة الأنبياء واحدة‍، وقد ذكرت لكم في درس سابق أن الأنبياء جميعاً من دون استثناء ذُكِروا في القرآن الكريم، ووُصِفوا بأنهم مسلمون، والإسلام بمعناه الواسع أن تستسلم لمنهج الله، أنت عبد كائن معقد تعقيد إعجاز، لك خالق عظيم هو الخبير، أنت مُكلَّف أن تنفّذ تعليماته، أما أن تعبد الله وفق ما تهوى فمستحيل أن تكون عبداً لله بهذه الطريقة، أما أن تعبد الله وفق رأيك لا وفق منهج الله، مستحيل أن تكون عبداً لله، وأنت بهذه العقلية، أما أن تحدد أني أتلقى تعليماتي من هذا النبي وحده، ولن أعترف بني آخر فمن المستحيل أن تكون عبداً لله بهذه العقلية. 
﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ﴾ أخذ ميثاق النبيين من أجل أن يبلغوا أتباعهم لأنه من الممكن أن يكون أتباع نبي في عصرٍ جاء نبي جديد.  
﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٍ وَحِكۡمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمۡ﴾ الدعوة واحدة، والإله واحد، الجنة والنار، الاستقامة على أمر الله، عدم العدوان على الآخرين، عدم الزنى، عدم القتل، المنهج واحد.
 بالمناسبة، لا يُعقَل أن يكون لكل نبي منهج، هناك مناهج مختلفة، لكن مختلفة بحسب تطور الشعوب، والمجتمعات الإنسانية، لكن لا يعقل أن يكون الشيء محللاً هنا ومحرمًا هناك، والإله واحد، فإذا كان ضاراً لِمَ أُحِلّ في هذا الدين؟ وإذا كان نافعاً لمَ حُرِّم في هذا الدين؟ الإله واحد، هذا يأباه العقل السليم، لذلك إن رأيت شيئاً حلالاً في دين، وحراماً في دين آخر، فهذا يعني أن في هذين الدينين تزويرًا، أو تغيرًا، أو تبديلاً، قال عز وجل: 

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾

[ سورة البقرة  ]

 فلذلك الأنبياء أخذ الله عليهم العهد أن يبلغوا أتباعهم أنه إذا جاء نبي في آخر الزمان مصدق لمَا معهم، ويدعو إلى عبادة إله واحد، وإلى الاستقامة على أمره، والإحسان إلى خلقه، فينبغي أن يؤمن أتباع الأنبياء بهذا النبي الجديد، وينبغي أن ينصروه، وأن يضعوا إمكاناتهم -كما يقال الآن- تحت تصرفه. 

قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا


 ﴿قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ﴾ الإصر هو العهد.
﴿قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ﴾ للناس، بلِّغوا أتباعكم ليكون هذا منهجاً في كل دين، لأن أتباع كل دين ينبغي أن يؤمنوا بنبيهم، فإذا جاء نبيٌّ آخر ينبغي أن يؤمنوا به، لأن الله سبحانه وتعالى هو الآمر، والولاء له.
 المثل واضح جداً، أعيده مرة ثانية: مدير مؤسسة تابع لوزير، ولهذا البلد ملك، فالملك نقل هذا الوزير إلى منصب آخر، هل يحق لمدير المؤسسة أن يقول: أنا لا أتلقى تعليماتي إلا من الوزير السابق، معنى ذلك هو يرفض أن ينصاع للملك، هذا أمر ملكي، هذا التوجيه من الملك، إذاً: يشك في حكمته، وفي علمه، ولا يواليه، المعنى أصبح واضحًا. 
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ
 ﴿لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٍ وَحِكۡمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ﴾ وقد ذكرت في دروس سابقة أن شهادة الله عز وجل تعني أن أفعال الله تأتي مصدقة لكلامه .
﴿فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ﴾ والدليل: أن الله ينصر نبيه الكريم الذي جعله خاتم الأنبياء، ويؤيده بالمعجزات النيّرات الواضحات، ثم يقول الله عز وجل: 

﴿  أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83)﴾

[ سورة آل عمران ]


أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ


1 ـ يجب اتباع الدين الذي اختاره الله:

 يجب أن تكون تابعاً للدين الذي اختاره الله للناس.

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)﴾

[ سورة المائدة ]

 رضي الله لنا هذا الدين، رضي لعباده جميعاً، وللناس قاطبة هذا الدين، فإن لم نعتنقه معنى ذلك أننا رفضنا هذا الدين، ورفض دين الله عز وجل شيء كبير في عالم الإيمان. 

2 ـ الكون أسلمَ لله قسرا:

 ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ﴾ هذه شاملة شمولاً مطلقًا، الكون يُعبَّر عنه في القرآن الكريم بالسماوات والأرض، والكون بالتعريف الدقيق: ما سوى الله، والله عز وجل واجب الوجود، وما سواه فممكن الوجود، ما سواه الكون، والتعبير القرآني للكون السماوات والأرض، ﴿وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ كرهاً أوضح، كل واحد منا مؤمنًا كان أو كافراً، مستقيماً أو منحرفاً، عربياً أو أعجمياً، مسلم قسراً لله عز وجل، من منا يستطيع أن يعيش ساعة بلا قلب؟ لو توقف قلبه عن الحركة لكُتِب نعيه، وانتهى أمره، فأنت مقهور بعمل القلب، مقهور بعمل الرئتين، مقهور بنمو الخلايا، مقهور بالحركة، مقهور بالتنفس، أيّ خلل في جسمك يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، أوضح من ذلك، الملوك يموتون، والطب كله بين أيديهم، وأموال الدنيا بين أيديهم، وبإمكانهم أن يستقدموا أطباء العالم ليعالجوهم، فالملك مقهور، والفقير مقهور، والغني مقهور، قد تجد غنياً يملك ملايين طائلة، ويمكن أن ينفقها كلها على بقائه حياً، ولا يستطيع ذلك! يأتيه ملك الموت.

3 ـ المؤمن خضع له طوعاً:

 ﴿وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ المؤمن عرف الله طَوعاً، فخضع له طوعاً في حياته، أما الكافر فعرفه عند الموت، فكان مقهوراً بالموت، وسبحان من قهر عباده بالموت، المؤمن عرفه طواعية في حياته، فأطاعه طواعية، هذا أعلى أنواع الطاعة؛ أن تطيعه مختاراً، أن تطيعه محباً، أن تطيعه بمبادرة منك، لا بقهر، أو ضبط من الآخرين، أن تطيعه، وأنت صحيح، شحيح، قوي، أنت تطيعه، وأنت في مقتبل حياتك، وأنت في عز تألّقك، أن تطيعه، وأنت معافى في جسمك، لكن هناك إنسان يسهو، ويغفل عن الله عز وجل، فإذا جاءته الشدة يطيع الله، على كل حال جيد، فقد استجاب لله عز وجل، ولكن لا بد أن نخضع لله إن اختياراً أو اضطراراً.
 هناك قصة تروى؛ في بلد من بلاد المسلمين امرأة منحرفة أشد الانحراف، لا تحب أن ترى فتاة محتشمة إطلاقاً، فكانت تبالغ في إيذاء من كانت محتشمة في هندامها، وكانت تنزع أي شيء على رأس الفتاة، ثم رُئِيت بعد حين تضع على رأسها الحجاب، فلما سُئلت قالت: أصابني مرض في رأسي، ونصحني الطبيب بوضع شيء من القماش على رأسي، ولما رجوته أن أضع ما يسمى بالباروكة رفض، قال: هذه تسبب حساسية، ضعي قماشة على رأسك، وهكذا يقهر الله عز وجل الإنسان في أي لحظة.
 يمكن أن تركع أمام أحقر الناس، يمكن أن تُنقّب في الحاويات، يمكن أن ترى الموت أكبر نعمة، قد تأتيه الأمراض مجتمعة فلا يرى نعمة أعظم من الموت، سبحان من قهر عباده بالمرض والموت!

4 ـ لماذا الخضوع لغير الله؟

 ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ﴾ أتخضع لغير الله؟ أتنصاع لغير الله؟ أتأبى أن تكون عبداً لله؟ أنت أكبر من أن تطيع الله؟ مركزك أكبر من أن تكون مطيعاً لله؟ أتخشى على الدنيا، وهي فانية، وتعصي الله؟
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ أتبغي أن ترضي مخلوقاً ضعيفاً يموت قبلك؟ أتبغي أن تكون تابعاً لجهة أرضية، وأنت مكرم عند الله؟ أترضى أن تكون محسوباً على غير الله؟ 
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ ماذا تبغي؟ تبغي المال، ماذا تفعل بالمال إذا زاد عن حده؟ انقلب إلى ضده، ماذا تبغي؟ ثم ماذا؟ وصلت إلى أعلى ثروة في العالم، ثم ماذا؟ هؤلاء الذين ملكوا ثروات بأرقام فلكية، واحد عنده سبع وثمانون مليار دولار بأمريكا (بيل غيتس) ، هذا ماذا يفعل بها بعد أن يأتيه ملك الموت؟ ثم ماذا بعد المال؟ وصلت إلى أعلى مرتبة علمية في الدنيا، ثم ماذا بعدها؟ وصلت إلى أعلى منصب في العالم، ثم ماذا بعدها؟ سبحان من قهر عباده بالموت! 
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ أتتجه إلى غير الله؟ أتطمع بغير رحمة الله، ألك مصير إلّا إلى الله؟ هل في الإمكان أن تطلب لجوءًا إلى جهة أخرى؟ هذه الجهة لا يملكها الله عز وجل؟ في الدنيا ممكن، تتجه إلى بلد يعادي بلداً، فتأخذ اللجوء السياسي، لكن هل تستطيع أن تلجأ إلى غير الله؟ لا ملجأ منه إلا إليه. 

خيار الإيمان خيار وقت فقط:


 ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ فرعون ألم يسلم؟ مات مسلمًا، لكن إسلام قهر، قال تعالى:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[   سورة يونس  ]

 لكن متى آمن؟ وهو يغرق، أيقن أن دعوة النبي الكريم موسى عليه السلام حق، وأن الله أغرقه، وقهره، أيليق بالإنسان أن يقهره الله عز وجل إذا كان معانداً؟ 
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ طبعاً قال تعالى: 

﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِىٓ إِيمَٰنِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)﴾

[ سورة الأنعام  ]

 تقبل توبة العبد ما لم يغرغر، إذا كان في النزع الأخير لا توبة أمامه! 

﴿ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ ٱلْـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(18)﴾

[ سورة النساء ]

 هذا الكلام -يا إخوان- له معنى آخر، معناه الآخر أنك في شؤون كثيرة مخيّر خيار قبول أو رفض، قد ترفض هذا البيت لضيقه، وقد ترفض الزواج من هذه المرأة لكبرها في السن فرضاً، وقد ترفض هذه التجارة لأنك مهضوم الحق فيها، وقد ترفض هذه السفرة لأن مردودها قليل، فأنت في أمور كثيرة جداً مخير خيار قبول، أو رفض، إلا في الإيمان فأنت مخير خيار وقت فقط، فإن لم تؤمن في الوقت المناسب فلا بد أن تؤمن في وقت آخر، لكنه غير مناسب، بعد فوات الأوان، كما آمن فرعون. 

الشرائع الأرضية لا تكاليف فيها:


  وأنا أشهد الله أنه ما من عبدٍ على وجه الأرض، ولا أستثني أحداً إذا جاءه ملك الموت آمن بفحوى رسالات السماء تماماً، لأنها هي الحق، لكن في الدنيا يرفض أن يؤمن، يقول: أنا أعتز بأنني بوذي مثلاً، كل واحد يعتز بدينه، لكن المشكلة أن هذه الأديان الوضعية ذات انتشار واسع جداً لأنها تفتقر إلى التكليف، فلا تكليف فيها، بل القضية إعلان ولاء فقط، وهي لا تقدم ولا تؤخر.
 قال لي أحدهم في أمريكا: لماذا يحبون دين البوذية هناك؟ لأنه دين لطيف، لا تكاليف فيه! فيه طقوس خفيفة، فأصبح دينًا، لكن من دون تكاليف، يفعل ما يشاء، يأكل ما يشاء، يمارس أي شهوة كما يشاء، دون أن يحاسب، ومع ذلك فهو بوذي فرضاً، أو هو من السيخ، أو من ديانة أخرى.
 لذلك الشرائع الأرضية شرائع لا تكاليف فيها، فقط فيها ولاءات، الشرائع السماوية حينما تنحرف تخف فيها التكاليف، لا تكاليف فيها، وتظهر فيها العقائد الفاسدة، لمجرد أن تقترف كبيرة فالنبي يشفع لك، هذا شيء مريح جداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( شَفاعَتي لأَهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتِي. ))

[ صحيح ابن حبان ]

 ماذا نفعل بحديث النبي، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ :

(( يا مَعْشَرَ قريشٍ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا بني عبدِ مَنَافٍ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا عباسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ! لا أُغْنِي عنكَ من اللهِ شيئًا، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ اللهِ! لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا، يا فاطمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي من مالي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا. ) )

[  صحيح الجامع ]

(( ومَنْ أبْطأَ بهِ عملُهُ لمْ يُسرِعْ بهِ نَسبُهُ. ))

[ صحيح الجامع ]

 الشرائع السماوية حينما ينحرف أهلها عن الصواب، حينما تُعدَّل، وتُغيّر، وتُبدَّل، وفي بعض الشرائع النصوص لم تتغير، لكن يفهمونها فهماً منحرفاً، القصد تخفيف التكاليف، يقولون: الله قال: 

﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49)﴾

[ سورة الحجر ]

 أكمل الآية : 

﴿  وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ(50)﴾

[ سورة الحجر ]

 يقول لك: الله قال: 

﴿ قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ(53)﴾

[ سورة الزمر ]

 أكمل : 

﴿ وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ(54)﴾

[ سورة الزمر ]

 كمن يقول: 

﴿  فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4)﴾

[ سورة الماعون ]

أكمل: 

﴿  الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ(5)﴾

[ سورة الماعون ]

 إذاً: الآن انتقلنا إلى شيء آخر؛ كل الضلال في الأديان فيه تخفيف التكاليف، واعتماد النصوص الموضوعة، وتأليه الأشخاص، والنزعات العدوانية. 
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ القصص أيها الإخوة التي تقع كل يوم حول: ﴿وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ لا تعد ولا تحصى.

الإنسان عبدُ قهرٍ أو عبدُ شكرٍ:


  إنسان يتمتع بدراسة في جامعات راقية جداً في أوروبا، وإنسان بالتعبير المعروف حضاري راقٍ جداً، وتسلم منصبًا رفيعًا جداً، فقدَ بصره، بعد شهر أُحيل على التقاعد، زاره صديق، قال له: والله أتمنى أن أجلس على الرصيف أتسول على أن يردّ الله لي بصري! أين الدكتوراه، والزوجة، والبيت في أرقى أحياء دمشق، والدخل الفلكي والمركبات، أين؟ أتمنى أن أجلس على الرصيف، أمد يدي للناس، على أن يرد الله لي بصري! أنت مقهور ببصرك، وبسمعك، وبحركتك، وبعمل قلبك، وبعمل رئتيك، وعينيك، وأذنيك، ولسانك، وذاكرتك.
 أحد إخوتنا الكرام -رحمه الله- اتصل بابنه قبل أن يموت وقال له: أين بيتي يا بني؟ قال: ساعة وأنا أبحث، ولم أعرف أين بيتي، هذا فقدُ ذاكرة جزئيٌّ، فقدَ ذاكرته! من الذي يضمن لك أنك إذا ذهبت إلى عملك ترجع إلى بيتك؟ الله جل جلاله.
 لي أقرباء، وهم قبل أن يموتوا بسنوات فقدوا ذاكرتهم، تزورهم يقولون: من أنت؟ يأتيها ابنها، من أنت؟ لا تعرفه، ذاكرتك، وحركتك، وقلبك، وصماماتك، وشريانك التاجي، أعصابك، وعضلاتك، وسمعك، وبصرك، ولسانك، وعمل جهازك الهضمي، الكظر كله بيده، الغدة النخامية ملكة الغدد، أما وزنها فضخم جداً، نصف غرام، تعطي اثني عشر أمرًا هرمونيًا! أحد هذه الأوامر هرمون النمو، لولا هذا الهرمون لعاش الإنسان قزماً! أحد هذه الأوامر هرمون توازن السوائل، لو اضطرب هذا الهرمون لكان شغلك الشاغل أن تقبع جنب الصنبور، ودورة المياه، تشرب ثلاث تنكات (تُنَك) ماء في اليوم، شرب وطرح، لو قرأتم عن هذه الغدة التي هي ملكة الغدد لوجدتم شيئًا لا يصدق، فأي خلل بهرموناتها، وأوامرها تصبح حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، فسبحان من قهر عباده بالمرض والموت! فأنت عبد لله، فكن له عبداً طائعاً.
 لذلك فرّق الله عز وجل بين العبيد والعباد، العبيد جمع عبد القهر، والعباد جمع عبد الشكر قال:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾

[  سورة الفرقان ]

﴿ قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ(53)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ(42)﴾

[ سورة الحجر ]

 لكن:

﴿ مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ (46)﴾

[ سورة فصلت  ]

 أي إنسان عبد قهر، مقهور، ألا يوجد أشخاص ماتوا في أوج عظمتهم؟ وفي أوج صحتهم؟ بحادث، وفي أوج قوتهم، وفي أوج غناهم؟ سبحان الله الإنسان بالتعبير المعاصر سريع العطب، مائة سبب يجعل الإنسان يفقد حياته في ثانية!
 لي قريب طالب في الطب، كان متألقًا جداً، وعلى مستوى من الذكاء عالٍ جداً، فجأة حدث معه فقر دم، زار أطباء كثر فقالوا له: إنه فقر دم! صحته جيدة، ويأكل طعامًا جيدًا، وهو طبيب درس الطب، بعد حين، وبعد سفر إلى أوروبا وأخذ الخزعات اكتُشِف أن الطحال عنده يعمل بنشاط زائد، الطحال مقبرة كريات الدم الحمراء، ومعمل كريات احتياط، ومخزن لكريات الدم، مستودع، ومعمل، ومقبرة، وهو مهمته أن يلتقط كرية الدم الحمراء الميتة، يقبرها عنده، ثم يحللها إلى هيموغلوبين يرسله إلى الكبد، وإلى حديد يرسله إلى معامل كريات الدم الحمراء في نقي العظام، المشكلة أن هذا الطحال بدأ يأخذ الكريات الحيّة، ويقتلها ليحلّلها، نحن فرضاً نأتي بمعمل، ونكبس السيارة التي هي للأنقاض، أما هذا المعمل نستخدمه لسيارات حديثة جداً؟ غير معقول، فالخطأ البسيط لهذا الجهاز الطحال أودت بحياة هذا الأخ، العالم كله وقف مكتوف اليدين! ماذا نعمل مع الطحال؟ يأخذ الكرية الحمراء الشابة، ويقتلها كي يحللها، أصبح هناك فقر الدم، هذا الإنسان غذاؤه جيد جداً، فبرأيك كم من جهاز ينهي حياتنا؟ والله هناك مليون سبب للموت، ولا أبالغ، وهناك موت بلا سبب، والرجل بكامل صحته!
 حدثني أخ رجل رياضي من الطراز الأول من ثلاثين سنة، كل شيء يتكلم به عن الرياضة، والمشي، والجري، والصحة، وخبز النخالة، والفاكهة، والخضراوات والسلطات، والحركة، والنشاط، والفيتامينات، ليس له شغل شاغل غير صحته، حدثني أخ كريم، وهو في سن مبكرة، وليست متأخرة عندما كان في المسبح وقع ميتاً بلا سبب.
 أخ ثان كان يقول في جلسة سمر: أنا أمامي وقت لأموت، فقال له واحد: لماذا لا تموت؟ قال: أنا رجل طعامي قليل، وأعتني بصحتي، وأمشي كل يوم، ولا أدخن، ولا أهتم للأمور، هذا كلام علمي، تكلم، وكل شيء صحيح، كل يوم سبت عنده جلسة، في السبت الثاني كان مدفوناً في التراب!
 نحن جميعاً مقهورون، لا أحد يعرف متى يموت، لا أحد يعلم ما في جسمه، تجد شخصًا بأعلى درجة من العناية بصحته، فجأة ينشأ تفلت بنمو الخلايا بلا سبب، هذه سبحان الله الأمراض العضالة لا سبب لها ولا علاج، أنا سميتها بوابات خروج، كيف سيخرج الواحد؟ قالت امرأة لطبيب قلب: ما نسبة نجاح العملية؟ قال: ثمانون بالمائة، قالت: ما تعني هذه النسبة؟ قال: يأتي مائة شخص يموت منهم عشرون، قالت: لا أريد، فقال لها الطبيب: إذاً كيف نموت نحن؟ إذا كان كله ينجح، لم يعد هناك موت، فرب العالمين خاطب حبيبه سيدنا محمد وقال: 

﴿  إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)﴾

[  سورة الزمر ]

 بطولتنا أن نعمل لهذه الحفرة التي لا بد منها، شئنا أم أبينا، نحن محكومون جميعاً بالموت مع وقف التنفيذ. 

﴿ أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعًا وَكَرۡهًا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ (83) قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٍ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ (84)﴾

[ سورة آل عمران ]

 فحوى دعوة الأنبياء واحدة، ومضمونها واحدة ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىٓ إِلَيْهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعْبُدُونِ﴾ ﴿وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾ ثم قال تعالى:

﴿ وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ (85)﴾

[ سورة آل عمران ]


نحتاج إلى إسلام الباطن أولا:


 الإسلام في جوهره أن تستسلم لله، ليس عند الله دين فلكلور، وعباءة بيضاء، ومسواك، ومسبحة، وعطر مسك من مكة أحضره معه، والمعاصي لا حدود لها، ليس عند الله مثل هذا الدين، هذا دين فلكلور، دين ثقافة فقط، إسلام صالونات، دين حفلات، وإلقاء كلمات، هذا غير موجود عند الله، الدين فكر فقط، رد على أفكار أعداء الدين، لكن لا يوجد التزام أبداً، هذا كله أنواع من الدين عجيبة، دين إسلام صالونات، إسلام عزائم، إسلام أناشيد، طرب، أو مظاهر، إسلام ألقاب علمية.
 الدين عند الله أن تستسلم له في كل أمر وفي كل نهي، 

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾

[ سورة آل عمران ]

 أن تخضع لله في شؤون حياتك كلها، الدين الحقيقي أن يحكمك الإسلام بكل تفصيلاته، لا أن تنتقي منه ما يعجبك، كثير من الناس يحبون العمرة؛ ركوب طائرة، وإقامة بفندق، وسفر، ومشاهدات، يقول لك: اعتمرت ثلاثاً وثلاثين عمرة، العمرة واجبة، لكن في غير العمرة لا التزام في الدين إطلاقاً، فأكثر المسلمين ينتقون من الدين ما يعجبهم، هذه سهلة، هذه فيها رحلة، هذه فيها نشاط، أما قل له: دع هذه السهرة المختلطة فلا يقبل، أنفق من مالك في سبيل الله، اضبط نفسك، كل شيء يتعارض مع مصالحه وشهواته يرفضه، هو يختار من الدين، وينتقي منه ما يعجبه، فهذا الدين لا قيمة له عند الله، ولأن هذا الدين ليس مرضياً عند الله فلا يمكّن أصحابه في الدنيا.

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور ]

 هذا الدين ليس مرضياً عند الله، ﴿وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾، لذلك قال الله عز وجل : 

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)﴾

[ سورة البقرة ]

 إذاً: في الانتماءات الشكلية، الانتماء الشكلي لا قيمة له إطلاقاً ﴿مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
 أي من آمن بالله الإيمان الحقيقي، وكان عمله انصياعاً لمنهج الله، وعطاء للناس ﴿مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا﴾ فهذا الناجي ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾ ثم يقول الله عز وجل: 

﴿  كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمًا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ (86)﴾

[ سورة آل عمران ]


كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ


1 ـ هكذا كفر اليهود بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام:

 هؤلاء اليهود الذين استفتحوا على المشركين، أنه سيأتي نبي في آخر الزمان، وسنؤمن به، وسنسبقكم إلى الإيمان به، فلما جاء النبي الكريم أنكروا عليه نبوته، ورفضوا أن يؤمنوا، قال بعض العلماء: هذه الآية تعني هؤلاء، آمنوا به قبل أن يأتي، ولما أتى كفروا به، "كيف" هنا تفيد النفي، لا يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم، هم يدينون لمصالحهم إذاً، تحصيل حاصل.

2 ـ كلُّ الأدلة تشهد على أحقية هذا الدين:

﴿كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمًا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ﴾ والله أيها الإخوة هناك أدلة لا تعد ولا تحصى على أحقية هذا الدين، قبل يومين أطالع في بعض المواقع المعلوماتية، وجدت صورة لجامع في إزميت، والقصة قديمة جداً، ومعهدًا شرعيًا، لم يبقَ سالماً إلا هذا المسجد والمعهد الشرعي، وما سوى ذلك أنقاض لا يزيد ارتفاعها على أربعين سنتيمترًا! الأبنية كلها، أليست هذه رسالة من الله؟ آلاف الرسائل من الله، 

﴿ فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَٰغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (35)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِمَا كَفَرُواْ ۖ وَهَلْ نُجَٰزِىٓ إِلَّا ٱلْكَفُورَ (17)﴾

[ سورة سبأ ]

 تجد كلما انحرف الناس جاء العلاج الإلهي ﴿كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمًا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم. 

3 ـ لابد من الثبات على الدين وعدم التزعزع:

 إخواننا الكرام بالمناسبة: أفضل ألف مرة أن تبدأ حياة الإنسان في شرود عن الله، ثم يصطلح مع الله، لا أن يبدأ حياته في اصطلاح مع الله، ثم ينتكس، الارتداد مخيف جداً، يسبب اختلال توازن كبيرًا، ورضًّا شديدًا، ينبغي أنك إذا اصطلحت مع الله أن تكون ثابتاً، قال تعالى:

﴿  مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

 في معركة الخندق حينما كاد المشركون أن ينتصروا، وأن يُمحى الإسلام أصلاً قال أحدهم: أيعدنا صاحبكم أن تُفتَح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟ كأنه ارتد، والآن يقول لك أحدهم: أين الله؟
والله البارحة سألني أخ فقال: الكفار أقوياء جداً، يفعلون ما يريدون، هذا امتحان صعب، الكافر الملحد المتغطرس القوي يبطش، ويهدم، ويسحق، ويقتل، ولا أحد يحاسبه، أما إذا أصيبت هرة من طرفه بشظية تقوم الدنيا ولا تقعد، شيء لا يحتمل.
 نحن في امتحان صعب جداً أيها الإخوة، والله عز وجل له امتحانات عديدة، أحد هذه الامتحانات أن يقوي الكافر إلى درجة أن يقول ضعيف الإيمان: أين الله؟ ثم يُظهِر الله آياته، إلى أن يقول الملحد لا إله إلا الله، ينبغي أن نصبر. 

﴿  وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)﴾

[ سورة آل عمران ]

4 ـ هؤلاء قوم ظالمون:

 ﴿كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمًا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ هؤلاء ظلموا أنفسهم فابتعدوا عن الهداية، أرادوا الدنيا، ظلمَ نفسه، أو ظلم غيره، فالظالم محجوب عن الله عز وجل. 

﴿  أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ (87)﴾

[ سورة آل عمران ]


أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ


انظر مَن لعن هؤلاءِ ، واعتبر بعدها :
 الله يلعنهم، والملائكة تلعنهم، والناس أجمعون يلعنونهم، فشتان بين أن تكون في رحمة الله، أو في لعنة الله، الكافر في لعنة، بعيد، حياته شقاء، قال تعالى:

﴿  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)﴾  

[ سورة طه  ]

﴿  خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ (88)﴾

[ سورة آل عمران ]


خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ


1 ـ أين مَن يدخل الآخرةَ في حساباته ؟!

 بربكم كم شخصاً من المسلمين أدخلَ الآخرة في حساباته اليومية؟ ترك مبلغًا قال: معاذ الله، هذا حرام أن آكله، أخلص في عمله، خاف من الله، ترك مغنمًا كبيرًا خوف غضب القدير، كم من هؤلاء المسلمين يخشى الله عز وجل؟ هم قلة، والكثرة الكثيرة لا يخشون الله، لذلك: وكأنهم غير مبعوثين، وكأن لسان حالهم يقول: وما نحن بمبعوثين.
﴿أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ*خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ 

2 ـ الكافر يوم القيامة في ذلةٍ وصَغارٍ:

 هو أصغر من أن يستحق نظرة الله عز وجل! في الدنيا ما كان يعرفه أبداً، وما كان يرحم عباده أبداً، إن أردتم رحمتي فارحموا خلقي.

﴿  إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(89)﴾

[ سورة آل عمران ]


إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم


 سبحان الله كلما جاءت آيات الشدة جاءت آيات الرحمة .

﴿ وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ(3)﴾

[ سورة العصر ]

1 ـ مغفرة الله للعبد بعد توبته وإصلاحه:

 ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ دققوا: تابوا وأصلحوا، قال تعالى:

﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٍۢ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (119)﴾

[ سورة النحل ]

هناك آيات كثيرة يقول الله فيها: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعْدِهَا﴾ فالله مغفرته بعد أن تتوب، وبعد أن تصلح علاقتك بالله عز وجل.
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ غفور يمحو الماضي، رحيم يعطيك عطاء جزيلاً، غفور كلمة سلبية، نظّفنا هذا البيت، ثم فرشناه بأفخر الأثاث، غفور عفا عن كل ما مضى، ورحيم منحك كل عطاء، بشرط: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ فالحقيقة التوبة والإصلاح يعنيان أن تقلع عن الذنب فوراً، وأن تعقد العزم على ألّا تعود إليه مستقبلاً، وأن ترمّم ما مضى سابقاً، فهناك عملية متعلقة بالماضي، وعملية متعلقة بالمستقبل، وعملية متعلقة بالحاضر، فعملية الحاضر إقلاع، وعميلة المستقبل عزم، وفي الماضي إصلاح، فهذا الذي تاب، وأصلح فإن الله غفور رحيم. 

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرًا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ (90)﴾

[ سورة آل عمران ]


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا


1 ـ الموقف الفكري سلوك خطير:

 يروي بعض المفسرين أن اليهود أيضاً آمنوا بالنبي قبل أن يُبعَث، ولما بُعِث كفروا به، وازدادوا كفراً بإيذائه، أحياناً تجد كافرًا مسالمًا، هو كافر، لكن ثمة كافر يتدخل في شؤون المسلمين كي يؤذيهم، ويضعفهم، وهذا ما يفعله أعداؤنا، هو في بحبوحة كبيرة فيحب أن يأكل كل شيء، يحب أن يضعف المسلمين، وأن يفقرهم، أن يحتل أرضهم، فعندنا كافر، وكافر مؤذٍ. 
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرًا﴾ أحياناً الموقف الفكري وحده خطأ كبير، لكن أحياناً مع الموقف الفكري سلوك خطير، هناك إنسان نمطه مسالم، لكنه شهواني، هذا أقرب إلى التوبة من هذا الذي يفسد، هناك فاسد مُفسِد، وهناك مذنب، ويحمل الناس على الذنب، وهناك شخص فاعل، وشخص يفعل في غيره ما يفعله في نفسه، هذا من أشد المعاصي والآثام.
هؤلاء ﴿لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ﴾ العلماء أجمعوا أنهم إذا ماتوا على هذا الحال لن تقبل توبتهم، أما إذا تابوا فلا مشكلة.  
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرًا﴾ ولقوا الله على هذه الحال، وحُشِروا على هذه الحال ﴿لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ﴾ الآية الأخيرة:  

﴿  إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبًا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ (91)﴾

[ سورة آل عمران ]


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ


لا ينفع مالٌ يوم القيامة للنجاة من عذاب الله:

 إذا كان مع شخص كيلو من الذهب، ثمنه خمسمائة ألف، الأرض كم كيلو؟ يوجد أرقام كبيرة جداً، مليارات الأطنان، لو أن وزن الأرض ذهباً، وقدمته يوم القيامة لتنجو من عذاب الله لا يُقبَل، أما الآن فمطلوب منك دفع ثمن أقلّ بكثير، واحد بمليار المليار، أن تستقيم على أمر الله، وأن تصلي، أن تدعو الله، وأن تغض بصرك، وأن تحصن فرجك، وأن تحرر دخلك، أن تنفق مالك في سبيل الله، أنت مكلف بأشياء ضمن إمكانيتك، لكن يوم القيامة لو معك ملء الأرض ذهبًا من أجل أن تدفعه كفدية من عذاب الله لا تستطيع، الآن مطلوب منك شيء بسيط جداً ضمن إمكانيتك، قال عز وجل:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبًا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ﴾ نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور