- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد الله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ... من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله تركنا على حجة بيضاءِ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ...
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعترته الطيبين الطاهرين .
اللهم إن نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من العمل ، اللهم إن نعوذ بك من التكلف في ما لا نحسن ، كما نعوذ بك من العجب في ما نحسن .
عباد الله ... أوصيكم بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير وبعد :
العمل الصالح :
فلقد تحدثت في خطبة سابقة عن الحياة الطيبة التي وعد الله عباده المؤمنين في الدنيا ، وبينت أن الإيمان الحق دفعة أولى من ثمنها ، والإيمان الحق ما وقر في القلب وصدقه العمل لذلك كان العمل الصالح الدفعة الثانية من ثمن هذه الحياة .
العمل الصالح ... أيها الأخوة المؤمنون :
أولاً : استقامة على أمر الله .
ثانياً : بذلُ للمعروف .
أما الاستقامة ؛ فتعني الائتمار بما أمر الله والانتهاء عما عنه نهى .
بل إن الإيمان الحق ليحمل الإنسان على الاستقامة التامة ، وأي خلل في الإيمان يقابله انحراف في الاستقامة .
فمن أيقن أو آمن بخصائص البنزين مثلاً ولا سيما اشتعاله لا يقرب منه لهباً إذا كان يريد السلامة لنفسه والصون لماله .
قال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا و َأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾
وعن سفيان بن عبد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قلت: يا رَسُول اللَّهِ قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك . قال :
(( قل آمنت بالله ثم استقم ))
الإسلام والمسلمون :
لكن المشكلة الكبرى التي يعاني منها المسلمون في شتى أقطارهم هي أنهم متعاطفون مع الإسلام بمشاعرهم ، متناقضون مع تعاليمه بسلوكهم لذلك لا يقطفون ثماره اليانعة ولا يجنون شهده الذكي .
إن عظمة الإسلام وسره في تطبيقه لا في التحدث به .
وقد غدا الإسلام بين مسلمي هذا العصر ثقافةً يتحذلقون بها وعبادةً شكليةً يؤديها بعضهم وكأنها طقوس لا يفهمون لها معنى ، وبهذا بعد الإسلام عن الحياة وانزوى في دور العبادة التي لا يؤمها اليوم إلا نفرُ قليل بل أقل من القليل فلا ينبغي أن نربط بالإسلام تخلفنا الفكري والحضاري والأخلاقي لأنه غائب تماماً عن مجريات الأحداث ، بل إن هذا التخلف ما كان له أن يظهر على نحو ما ظهر لولا بعدنا عن هذا الدين الحنيف فالإسلام قوةُ وكرامة ، وعلم وإبداع ، وأخلاقُ ونظام ، وتقدم ورقي .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا النموذج المشوه للإسلام لا يغري كثيراً شبابنا و شاباتنا فالآباء والمربون يتحملون قسطاً من هذه المسئولية ، مسئولية ازدراء أبنائهم عن تعاليم دينهم .
ولكن لو حللنا نفسية هذا المسلم المقصر في التمسك بتعاليم دينه لوجدناه يتصور أن الأوامر الإلهية تكاليف وأعباءُ وقيود تحد من حريته ، والنفس إلى التحرر والانطلاق والانفلات أميل .
إن تعاليم الإسلام بهذا المعنى تثقل على النفس وتصبح عبئاً عليها وقيوداً تسل قواها .
وهذا فهم سقيم ونظرةُ تائهة لا تصدر إلا عن جهل أو خبث .
والحقيقة كل الحقيقة أن تعاليم الدين حدود لسلامة الإنسان وليست قيودا تحد من حريته .
فهل نعد أمراً يحظر علينا التجول في أرض مزروعة بالألغام حداً لحريتنا أم ضماناً لسلامتنا .
إن الأوامر الإلهية ليست أوامر تعبدنا الله بها فحسب ليميز الطائعين من العاصين ، ولكنها جلب لخير ، ودفع لشر ، وضمان لسلامة الإنسان جسماً ونفساً وعقلاً ، ولسلامة المجتمع اجتماعياً واقتصاديا وأخلاقياً .
فالدين :
﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾
الطاعة والمعصية :
إن العلاقة بين الطاعة وثوابها ، والمعصية وعقابها ، علاقة علة بنتيجة .
إن طبيعة الطاعة تنطوي على بذور خيراتها .
وطبيعة المعصية تنطوي على بذور شرورها .
والجزاء من جنس العمل ولنستعرض بعض الأوامر الإلهية لنر نتائجها الخيرة ، وبعض المنهيات لنر نتائجها الشريرة .
غض بصرك عن محارم الله ، وانظر أية سعادة تنعم بها في بيتك ، وتأمل في هذا الجو الودي الذي سيكون بينك وبين زوجتك ، والذي سينش فيه أبناؤك ، وأثر ذلك في صحتهم النفسية ، وتكوين شخصيتهم المتوازنة ، فضلاً عن هذه الحلاوة التي تحسها في قلبك ، وهذا السمو الذي ترضاه من نفسك .
وكم من زوج أطلق بصره في المحرمات فذاق من ألوان الجحيم المنزلي ما لا سبيل إلى تحمله ، لقد أعجبه طول هذه ولون تلك حتى جرد من هذه الصفات الموزعة مثالا وهميا لا يتوافر لا عند زوجته ولا عند أية امرأة أخرى ، فإذا النفور يقع بينه وبين زوجته ، وإذا التبرم والنكد يتسرب إلى حياتهما ويؤلمه من زوجته عبوسها وتجهمها وتعليقاتها ، ويؤلمها منه سرعة غضبه وثورته لأتفه الأسباب ، وينشأ الأولاد في جو مشحون بالبغضاء والخصام فتتعقد نفوسهم وتضطرب موازينهم وتضعف شخصيتهم وتتمزق قلوبهم بين عزيزين عليهم أمهم وأبيهم .
أما ربنا فيقول في كتابه الكريم :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
عن حذيفة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيمانا يجد حلاوته في قلبه ))
وكما أن السهم المسموم يسمم الجسم كله ثم يتلفه ، وكذلك هذه النظرة تسمم الحياة كلها وتقضي على سعادة الإنسان .
كـل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة أثرت في قلب صاحبها فعل السهام بـلا قوس ولا وتـر
يسر ناظره مـا ضـر خـاطره لا مرحبا بسرور عـاد بالضرر
واذهب إلى المحاكم الشرعية وانظر كم كان الاختلاط والتبرج والتحلل وهذا ما يحرمه الإسلام كم كان وراء كثير من حوادث الطلاق وانهيار الأسر وضياع الأولاد .
وهذا الأب الذي يسمح لأولاده شباب وشابات أن يتابعوا قصصاً تمثيلية رخيصة تصور العلاقة غير الصحيحة بين الرجل والمرأة ، وتصور الرذيلة ، واختلاط الأنساب على أنها استجابة لنداء القلب ، والخيانة على أنها انتقام مشروع من الزوج ، كل ذلك باسم الفن والترفيه .
إخوتي المؤمنين ؛ يجب أن لا نغمس رؤوسنا في الرمال ونتعامى عن النتائج والأخطار ، هذه الغرائز التي أودعها الله فينا حفظاً للنوع سلاح ذو حدين فهي قوة بناء وإبداع وهي قوة تدمير وتخريب ، هذه الغرائز حينما تثار ثم لا تروى فأي انفجار وأي انحراف سيكون !
وكلكم يرى آثار هذا الانحراف الساكن أو الانفجار المدوي في صفوف الشباب ، فإن كنت أيها الأب محصناً فهل فكرت في هؤلاء الأبناء المتقدمين غير المحصنين .
هذا كله خطوات تسبق الانحراف أو الزنا وقد حرم الله الزنا وما قرب إليه من قول أو عمل فقال :
﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾
لاحظوا كلمة
﴿ ولا تقربوا ﴾
فهي تشير إلى النهي عن الزنا وما قرب إليه .
وهذا الأب الذي لا يعبأ كثيراً بتعاليم الدين جهلاً أو تجاهلاً فيسمح للخاطب أن يجلس إلى ابنته منفردين وأن يخرجا معاً متنزهين قبل إبرام عقد النكاح ، وإذا بالخاطب يصل إلى كل ما يريد ثم يختفي وتقع الطامة الكبرى ، فالفتاة سحقت نفسياً واجتماعياً ، والأب غاصت به الأرض ، والأم التي دارت بها الدنيا ، والأسرة مرغت سمعتها في الوحل ، كل ذلك لمخالفة القاعدة الشرعية التي تقول ليس للخاطب أن يرى من مخطوبته سوى وجهها وكفيها .
شكا رجل إلى صديق لي أن أولاده الثلاثة مصابون بهشاشة في عظامهم ، وحالتهم يتفطر لها القلب ، وبعد الاستفسار عن الزوجة تبين أنها من محارم الزوج في الرضاع ، وهذه مخالفة للقاعدة الشرعية التي تقول يحرم من الرضاع ما يحرم في النسب .
إخوتي ؛ هذه القصص ليست من خيال الأدباء ولكنها من ملفات القضاء وعيادات الأطباء ، وليست نادرة الوقوع ولكنها كثيرة الحدوث ، لذلك لا تسمح أيها المؤمن للمعتقدات الفاسدة أن تعشعش في تفكيرك فتقول مثلاً :
الدنيا حظوظ ..
الظروف تعاكسني ..
والقدر يسخر مني ..
والدهر يومان يوم لك ويوم عليك ..
هذا كله كلام فارغ لا معنى له ولا يصل بك إلى شيء .
حلل جميع مشكلاتك في ضوء القرآن الكريم والشرع الحنيف ، فلا تجد من علة لمتاعبك النفسية والزوجية والاجتماعية حتى والاقتصادية سوى مخالفة الشرع . قال تعالى :
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾
وقال النبي الكريم :
(( ما من عثرة ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يغفر الله أكثر ))
وتأكد أن الإسلام وازن بين حاجات الجسد وحاجات النفس ، وحينما لبي حاجات الجسد لباها من طريق نظيف يحفظ الحقوق ويصون الأخلاق ويرقى بالنفوس ..
ومجمل القول : أن أوامر الدين ليست قيودا تحد من حريتك ولكنها حدود لسلامتك .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وصلوا ما بينكم وبين ربكم تسعدوا ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، واصرف عنا شر الأعمال لا يصرفها عنا إلا أنت .