- ندوات إذاعية
- /
- ٠03برنامج فيه هدى للناس - إذاعة دمشق
مقدمة :
الأستاذ جمال شيخ بكري :
أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم جميعاً بكل خير، هذه دعوة متجددة لمتابعة هذا اللقاء الطيب مع صاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة، دكتور السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور راتب:
دكتور محمد راتب النابلسي، في كل أسبوع نلتقي يوم الجمعة الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً وحتى الثانية عشرة وربع، لقاء طيب دائماً نستفيد من معلوماتكم ومن ثقافتكم، دكتور خطر في بالي موضوع نعيشه في وطننا، ودائماً بعض الناس يتذكرونه، لكن أحياناً يغفلون عنه، وهو نعمة الأمن والأمان التي نعيشها في بلدنا، وكثير من الناس في العالم يعيشون هذه النعمة، كيف نتحدث عن نعمة هي كنعمة الغذاء والدواء والشراب والصحة والعافية؟
الأمن و السلامة :
الدكتور راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أستاذ جمال جزاكم الله خيراً، بادئ ذي بدء الله عز وجل يقول:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾
هذه النعمة لا تعدلها نعمة، هناك فرق بين السلامة وبين الأمن، إنسان عاش سنة من عمره لم يصب بشيء نقول: عاش سنة سلامة لكن ما عاش سنة أمن، الأمن غير السلامة، السلامة عدم حدوث شيء مزعج، أما الأمن فعدم توقع شيء مزعج، فرق كبير بين أن تعيش بقلق ولم يحدث شيء يزعجك، وبين أن تكون في مأمن من توقعات مزعجة، لذلك الله عز وجل طمأن المؤمنين:
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا ﴾
﴿ لَنْ ﴾
لتأبيد النفي،
﴿ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾
لنا ولم يقل علينا، فرق أيضاً كبير بين كتب لنا، لمصلحتنا، لخيرنا، وبين كتب علينا، إذاً هذه نعمة لا تعدلها نعمة والدليل جعلها الله في رأس نعمه الكبرى:
﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾
أعظم نعمة على الإطلاق أن يتمتع الإنسان بالأمن :
كما تفضلتم قبل قليل هناك أناس كثيرون تغيب عنهم هذه النعمة، هي أعظم نعمة على الإطلاق أن تتمتع بنعمة الأمن، أي ألا تتوقع شركاً، لذلك قال علماء النفس: توقع المصيبة مصيبة أكبر منها، وأنت من خوف الفقر في فقر، وأنت من خوف المرض في مرض، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها، فلذلك هناك أمراض تصيب القلب بسبب الخوف من أمراض القلب، القلق الشديد على قلب الإنسان قد يورثه مرضاً في القلب، فلذلك نعمة الأمن بنص القرآن الكريم يتمتع بها المؤمن، فإذا كنا في بلدة طيبة نعرف حقوق بعضنا بعضاً، نعرف نعم ربنا الكبرى، فالله عز وجل يسبغ علينا هذه النعمة، وهذه النعمة لا يعرفها إلا من فقدها، أنا قابلت إنساناً من بلد مجاور محتل من قبل العالم الغربي، أقسم لي بالله أنه يُوَدّع أهله وأولاده كل يوم، لأن احتمال موته خمسون بالمئة، فأحدنا يرسل ابنه الساعة الثانية ليلاً ليأتي له بحاجة من البقالية، وهو آمن عليه، فهذه النعمة أقول لك مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، لا تعدلها نعمة، لذلك هذا الحديث الشريف:
(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه))
الأمن الذي لا يعدله نعمة على الإطلاق أمن الإيمان لا الأمن المادي :
لكن أنا لي تعليق دقيق هنا لا أقصد الأمن المادي، أمن الإيمان، أنت حينما ترضي الواحد الديان، أنت حينما ترضي الله، الذي بيده كل شيء، الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، أنت حينما ترضي الإله الذي بيده مقادير كل شيء، الذي بيده من هو فوقك، ومن تحتك، ومن حولك، ومن دونك، بيده رزقك وصحتك، بيده الشريان التاجي، بيده عمل الكليتين، بيده كل عضو من أعضائك، أنت حينما ترضي الإله جلّ جلاله، يتفضل عليك بنعمة لا تعدلها نعمة على الإطلاق:
﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾
يقابل هذه آية:
﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾
دقق:
﴿ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾
﴿ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾
لذلك ما من مصيبة على الإطلاق تصيب الإنسان إلا بسبب منه، وهنا أقول هذه الكلمة: لا يخافن العبد إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه، فإن هاتين الكلمتين جمعتا الدين كله.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
الدكتور محمد راتب النابلسي أستشف من مقدمتك الرائعة حول نعمة الأمن والأمان التي نعيشها في أوطاننا، وأقول: هناك قضية هامة جداً تحقق الأمن للجميع ألا وهي الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
الأمن أن يصطلح الإنسان مع الله عز وجل :
الدكتور راتب:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
لماذا؟ أنت حينما تؤمن بإله واحد أحد، فرد صمد، بيده مقاليد كل شيء تتوهمه، أي الإنسان حريص على صحته، صحتك بيد الله عز وجل، حريص على علاقته بزوجته، العلاقة الزوجية بيد الله، حريص على أن يكون أبناؤك أبراراً، كي يكون الولد باراً أمره بيد الله عز وجل، حريص على رزقك، فكل طموحات الإنسان عند الله موجودة.
لذلك: "إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي ـ الله رؤوف رحيم ـ لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها" .
أستاذ جمال لماذا المؤمن ينعم بالأمن؟ لأن كل علاقاته مع جهة واحدة، إله بيده كل شيء يرضيه، إذا أرضيته أرضى عنك الناس.
(( من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط الناس عليه ))
هناك قواعد أساسية في الدين، فالإنسان حينما تستقيم وجهته إلى الله عز وجل، وحينما يصطلح معه، ورد في بعض الآثار:" إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله"، قمة الأمن أن تصطلح مع الله.
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لــغيرنا
و لـو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولــو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا
* * *
الأستاذ جمال شيخ بكري :
إذا أرضى الله عز وجل هذا الإنسان عاش في أمان في نفسه أولاً، ثم انعكس هذا الأمن والأمان على من حوله؛ الجيران، الزوجة، الأهل، الوطن، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "حب الوطن من الإيمان".
الأمن والأمان الذي يعيشه المؤمن في نفسه ينعكس على أهله ومجتمعه :
الدكتور راتب:
الإنسان المؤمن ينتمي إلى المجموع، أنا أريد أن أوضح ما معنى أن تنتمي إلى ذاتك؟ أذكر هذا المثل أعيده كثيراً، إنسان اضطجع تحت شجرة تفاح قد قطفت، إلا أن الذي قطفها نسي تفاحة كبيرة ذات لون أصفر مثير، وخد أحمر كما يقول عوام الناس، فاشتهى هذه التفاحة، معه منشار شجر، قطع الشجرة ليأكل هذه التفاحة، هذه مشكلة الانتماء الفردي، المؤمن ينتمي للمجموع، انتماؤه للمجموع يرفع قدره عند الله وعند الناس، الإنسان دائماً عنده حاجات شخصية، وحاجات عامة، إذا خرج من ذاته، من شخصه، من مصالحه، من شهواته، من أهوائه، إلى خدمة المجموع، ارتقى عند الله، لأن الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، فلمجرد أن تفكر في الآخر، في أن يكون الآخر سعيداً، لماذا نقول نحن: اللهم صلِّ على أسعدنا محمد؟ لأنه إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين، أستاذ جمال قبل ثلاثين سنة فيما أذكر كنت أقتني مجلة "ريدل دايجز" هذه مجلة تلخص أجمل ما في مقالات المجلات في العالم، اسمها المختار من "ريدل دايجز"، هناك مقالة انتهت برأس الصفحة، هناك صفحة فارغة فكتبوا حكمة في هذه الصفحة الفارغة، هذه الحكمة لا أنساها حتى الموت، إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين تكن أسعدهم.
لذلك هؤلاء الذين يقدمون الخير للبشرية هم أسعد البشر، عاشوا للآخرين، هذا ينقلنا إلى أن الهرم البشري الضخم ستة آلاف مليون، على رأسهم زمرتان، الأقوياء والأنبياء، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا.
من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها، فالمؤمن لأنه يعمل لوجه واحد، المؤمن يشعر بالأمن لأنه يتعامل مع جهة واحدة هي الله، المؤمن يشعر بالأمن والطمأنينة لأن الذي بيده كل شيء إلى جانبه، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ ويا رب ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك؟
الأستاذ جمال شيخ بكري :
إذاً الأمن والأمان الذي يعيشه المؤمن أولاً في نفسه ثم ينعكس هذا من خلال إيمان هذا الإنسان على أهله، على أسرته، على مجتمعه، هذا هو الأمان الذي نشعر به في أوطاننا، نسأل الله عز وجل أن يهبنا الأمن والأمان، دكتور عندما نتحدث عن الأمن والأمان تحدثت عن موضوع الإيمان الذي ما إن تغلغل في القلب حتى تحول رحمة من هذا الإنسان تجاه كل إنسان، هذه الرحمة حبذا لو نسلط الضوء عليها، لأنها إن تحققت في قلب مؤمن عمّ الأمن وعمّ الأمان.
الاتصال بالله يملأ القلب رحمة وهي أعظم عطاء إلهي :
الدكتور راتب:
هذه الرحمة أستاذ جمال أعظم عطاء إلهي، لك أن تسميها السكينة، هذه الرحمة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، هذه الرحمة عطاء الله الأكبر، هل تكون الرحمة صحة؟ هي صحة، زواج ناجح، أولاد أبرار، رزق وفير، سمعة طيبة، مكانة اجتماعية، هدى، وضوح، بيان، دعوة، فالرحمة تكاد تكون عطاء الله الأكبر:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
لأن الله عز وجل أودع في قلب نبيه الرحمة فكان ليناً لهم، وهذه الآية أستاذ جمال تنقلنا إلى قانون رائع جداً كمعادلة رياضية، حينما يتصل الإنسان بالله يشتق منه الرحمة، هذه الرحمة تنعكس في تعامله مع الآخرين ليناً ولطفاً، يلتفون عنه، صار هناك اتصال، رحمة، لين، التفاف، ولو كان المرء منقطعاً عن الله لامتلأ القلب قسوة، ولانعكست القسوة غلظة، فانفض الناس من حولك، وكأن الآية معادلة رياضية، اتصال رحمة لين التفاف، انقطاع قسوة غلظة انفضاض، فهذه الآية يحتاجها الأب والأم وكل إنسان وكل إنسان أوكله الله بمجموعة من البشر، فباتصالك بالله يمتلئ القلب رحمة، وهي أعظم عطاء إلهي :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
فالتفوا من حولك:
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
يحتاجها الأب، والمعلم، وأي منصب قيادي على الإطلاق، هذه الرحمة أكبر عطاء إلهي، أن يشعر القلب بحب الآخر، أن يشعر بعطفه عليه، والإنسان بقدر إحسانه يرقى عند الله وعند الناس.
العبادة علة التطمين و التمكين و الاستخلاف :
أنا الذي أتمنى أن يكون واضحاً هو أن الله عز وجل:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾
والاستخلاف شيء كبير جداً:
﴿ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى ﴾
وكأنه قانون:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
الإيمان الذي يحملهم على طاعته،
﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾
البند الثاني:
﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾
والبند الثالث:
﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
نعمة الاستخلاف، العرب في جاهليتهم كانوا رعاة للغنم، فلما عرفوا الله، واصطلحوا معه، وآمنوا به، وأطاعوه، أصبحوا قادة للأمم، والبون كبير جداً بين أن تكون الأمة رعاة للغنم وبين أن تكون قادة للأمم:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾
هناك ملمح دقيق في الآية، أي دين وعد الله بتمكينه؟ الدين الذي يرتضيه، فإن لم نُمكّن معنى ذلك أن فهمنا للدين لم يرضِ الله عز وجل:
﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
هنا الشاهد، وقد تكون الحقيقة المُرّة أفضل ألف مَرّة من الوهم المريح، فإذا كان المسلمون اليوم ليسوا مستخلفين، وليسوا ممكنين، وليسوا آمنين، فهناك علة فينا، لأن الآية تقول:
﴿ يَعْبُدُونَنِي ﴾
فعلة هذا التمكين، وهذا التطمين، وذلك الاستخلاف، العبادة، فإذا أخلّ الطرف الآخر بما عليه فالفريق الأول وهو الله عز وجل في حلٍّ من وعوده الثلاث، فلذلك القضية دقيقة جداً إذا كنا مع الله كان الله معنا، وإذا كنا مع الله كنا أقوى أمة، وهذا الدين عظمته أنه دين جماعي، ودين فردي، لو طبقه الفرد المسلم وحده قطف كل ثماره، ولو طبقته الأمة قطفت الأمة ثمارها، وثمار هذا الدين أن تنتصر على أعدائها.
القلب السليم :
النقطة الدقيقة أن الله عز وجل قال:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
ومن أجمل ما قرأت عن تفسير القلب السليم، أنه القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، والقلب السليم هو القلب الذي لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، والقلب السليم هو القلب الذي لا يعبد غير الله، والقلب السليم هو القلب الذي لا يحتكم إلا لله، هذه مقتطفات من الرحمة التي وعد الله بها المؤمنين .
الأستاذ جمال شيخ بكري :
دكتور محمد راتب النابلسي، لطالما نتعرف عن تحقيق نعمة الأمن والأمان في أوطاننا، كيف نتحدث عن العلاقة ما بين الناس فيما بينهم في أداء الحقوق، ألا يؤدي أداء الحقوق إلى أن يؤدي كل إنسان ما عليه للآخرين في تحقيق الأمن والأمان في أي مجتمع؟
الفلاح والنجاح :
الدكتور راتب:
أستاذ جمال الإنسان يعيش بشيئين إما بإيمانه أو بذكائه، فالذكي أحياناً يؤدي ما عليه، فيسعد بمن حوله، لكن هذا الذكاء يوصله إلى القبر فقط، وبعد القبر هناك حساب آخر، فالإنسان يعيشه بذكائه أو بإيمانه، بالذكاء تستطيع أن تجلب الناس حولك، وأن تعيش معهم حياة هادئة ناعمة، ولكن هذا ينتهي عند الموت، لكن الإيمان يسعدك في الدنيا والآخرة، قد ينفعك الذكاء في الدنيا بينما الإيمان يسعدك في الدنيا والآخرة، لذلك فرق العلماء بين كلمة نجاح وكلمة فلاح، فالنجاح في الدنيا قد ينجح الإنسان في جمع ثروة طائلة، لكن إذا جاء الموت ولم يكن قد عرف ربه، ولم يكن قد طبق منهجه، ولم يكن قد أعدّ للآخرة عملاً صالحاً يشقى، لكن بالإيمان يسعد في الدنيا والآخر، لذلك الله عز وجل يقول :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾
دقق في هذا الاستثناء، آمن لكن لم يلبس إيمانه بظلم، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، لأن الخلق كلهم عيال الله.
الفلاح والنجاح سبيلا الإنسان للوصول إلى سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة :
أستاذ جمال ما من صحابي كان النبي عليه الصلاة والسلام يرحب به كسيدنا سعد بن أبي وقاص، كان إذا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( هذا خالي، فَلْيُرِنِي امرُؤٌ خالَه ))
وكان في الحرب يفديه بأمه وأبيه، وما فدى النبي عليه الصلاة والسلام في حياته صحابياً بأمه وأبيه إلا سعد بن أبي وقاص، قال :
(( يا سعد ارم فداك أبي وأمي ))
لكن لعملاق الإسلام سيدنا عمر رضي الله عنه كلمة رائعة لهذا الصحابي الجليل قال له : "يا سعد، لا يغرَّنك أنه قد قيل خال رسول الله، فالخلق كلُّهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له".
وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
فالإنسان بإيمانه ينجح في الدنيا والآخرة، والنجاح في الدنيا والآخرة معاً يعد فلاحاً:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾
أما الذكاء كما يفعل إنسان ذكي يأخذ ما له ويدع ما ليس له يكسب محبة من حوله، هذه السعادة تنتهي عند الموت، فالبطولة أن نكون سعداء في الآخرة.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
إذاً الفلاح والنجاح سبيلان للوصول إلى سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، وأيضاً يحققان في مجتمعاتنا الأمن والأمان الذي ننشده.
دكتور محمد راتب النابلسي، أين نحن من تربية أولادنا التربية الصالحة للوصول إلى الأمن والأمان الذين ننشده دائماً.
الإنسان حينما يلبي حاجات عقله وقلبه وجسمه يتفوق ويسعد وينعم بالأمن :
الدكتور راتب:
أستاذ جمال جزاك الله خيراً، الإنسان بشكل مختصر عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، فحينما يلبي الإنسان حاجات عقله وقلبه وجسمه يتفوق، ويسعد، وينعم بالأمن، تغذية عقله بالعلم، باليقينيات لا بالأباطيل، لا بالأوهام والترهات، لا بما يشاع في صفوف الناس من أشياء غير دقيقة، أما غذاء القلب الحب، هناك حب يسمو بك، وحب يهوي بك، الحب ميل القلب، فالذي يحب الله عز وجل من فروع محبة الله أن يحب أنبياءه، ورسوله، ويحب أصحاب نبيه جميعاً، وأن يحب المؤمنين، وأن يحب أهل بلدته، بل أهل وطنه، بل أمته، علامة حبه لأمته أن يسعى لخدمتها لرقيها، فالمؤمن يعمل لصالح المجموع، المؤمن ينتمي للمجموع، المؤمن يعد فريق عمل وحده، هذه النقطة الدقيقة أن غذى عقله بالعلم، وغذى قلبه بالحب، بل إن محبة الزوجة ـ كما قال بعض العلماء ـ فرع من محبة الله، لأن هذا الإله العظيم صمم لك هذه الزوجة، العلاقة بين الذكر والأنثى علاقة زواج، هناك إنجاب أولاد، هناك بنات و أصهار و زوجات أبناء، هناك أحفاد، نقول نحن في عقود القران:"اللهم بارك للزوجين، بارك لهما وفيهما وعليهما، أنجب منهم الكثير الطيب"، فأنت حينما تتحرك بدافع الهوى وفق منهج الله فأنت في رضوان الله، والدليل الآية الكريمة:
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
المعنى المخالف، أي أن الذي يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه، بل إن الله يباركه، فلذلك أنا حينما أغذي عقلي بالعلم الصحيح، وأغذي قلبي بالحب الذي يسمو بي، وأغذي جسمي بالطعام والشراب المدروس، أتفوق، وأشعر بنعمة الأمن.
السلامة و السعادة :
شيء آخر: ذكرت أستاذ جمال عن تربية الأولاد، الإنسان فضلاً عن ذلك جُبل من قبل الله، أو فطر، اسمان لمسمى واحد، فطر أو جبل على حبّ وجوده، و على حبّ سلامة وجوده، و على حبّ كمال وجوده، و على حبّ استمرار وجوده، بادئ ذي بدء أنت أعقد آلة في الكون، هذا التعقيد تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز، ولهذه الآلة صانع حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة، فالجهة الوحيدة في حياة الإنسان التي ينبغي أن تتبع تعليماتها هي الجهة الصانعة، فلمجرد أن تطبق تعليمات الصانع نلت الأمن، كما تعتني بمركبة وتطبق تعليمات المصنع بدقة بالغة، تنعم بهذه المركبة طوال حياتك، فلذلك الإنسان أعقد آلة في الكون، ولهذه الآلة صانع حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة، فالمجرد أن تطبق تعليمات الصانع تنعم بالأمن والرحمة.
هذه واحدة، هذه تحقق السلامة، طاعتك لله تحقق السلامة، لكن تقربك إليه بعمل صالح لخدمة خلقه، لخدمة الأمة، بالانتماء للمجموع، بالبذل، والتضحية، هذا يسعدك، السلامة شيء والسعادة شيء آخر، أنت بتطبيقات تعليمات الصانع تسلم، لكن بالتقرب إلى الصانع بخدمة عباده تسعد، لكن متى تحقق استمرار وجودك؟ بتربية أولادك، أنت حينما تربي أولادك كأنه استمر وجودك، مبدؤك قيمك بل نجاحك، بل كان السلف الصالح إذا نجح الإنسان في حرفة ما، ابنه سيخلفه في هذه الحرفة، فهذه الخبرات المتراكمة من قبل الأب أخذها الابن، وتابع مسيرة والده، فأنت بتربية أولادك يستمر وجودك، وبتقربك من الله تسعد، وباستقامتك على أمره تسلم، فأنت مجبول على حبّ وجودك، وعلى حبّ سلامة وجودك، و على حبّ كمال وجودك، و على حبّ استمرار وجودك، فبتطبيق تعليمات الصانع تسلم، وبالتقرب إليه بالعمل الصالح تسعد، وبتربية أولادك يستمر وجودك، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
الأستاذ جمال شيخ بكري :
وبذلك يتحقق الأمن في مجتمعاتنا.
الدكتور راتب:
الأمن أساسه أن نعرف الله أولاً فإذا عرفناه عرفنا حقوقنا، وعرفنا واجباتنا.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
في ختام هذا اللقاء الدكتور نابلسي ماذا نقول؟ كيف يمكن أن يتحقق الأمن لنا أو لمجتمعاتنا؟
الطريق الأمثل لتحقيق الأمن لنا و لمجتمعاتنا :
الدكتور راتب:
إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، المؤمن يعامل من قبل الله أطيب معاملة، والدين كما قلت: دين جماعي ودين فردي: إن طبقته الأمة تنتصر على أعدائها انتصاراً مؤزراً، وإن طبقه الفرد أعطاه الله مكافأة خاصة.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
الدين الحقيقي.
الدكتور راتب:
الدين الحقيقي الذي أراده الله:
﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾
أي دين وعد بتمكينه؟ الدين الذي يرتضيه الله عز وجل، الله لا يرتضي ديناً فلكلورياً، دين مشاعر إسلامية فقط لك، إنما هناك أعمال، دين زخرفة إسلامية، دين بطاقة إسلامية، دين خلفية إسلامية، الدين منهج إذا طبقنا هذا المنهج قطفنا ثماره في الدنيا والآخرة، وهذا تؤكده بعض الجرعات المنعشة التي أعطانا الله إياها في حرب أخوتنا في غزة، كيف أن هؤلاء الأبطال العشرة آلاف وقفوا أمام رابع جيش في العالم اثنين وعشرين يوماً، دون أن يحقق هذا الجيش ولا هدف من أهدافه، هذا جرعة منعشة.
خاتمة و توديع :
الأستاذ جمال شيخ بكري :
إذاً الموضوع فعلاً يستحق أن نقف عنده، موضوع نعمة الأمن والأمان التي ننعم بها في أوطاننا، وتحدث بها صاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي من خلال هذا اللقاء عن كيف يمكن أن يتحقق الأمن والأمان؟ أولاً الإيمان بالله، صلة الإنسان بخالقه، عند ذلك تتحقق إنسانيته، ويعود هذا أولاً بالسعادة على نفسه، ثم على مجتمعه، بالسعادة المثلى التي نطلبها، فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي دائماً تسعدنا لقاءاتك، وأفكارك، ومعلوماتك.
الدكتور راتب:
بارك الله بك ونفع بك إن شاء الله.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
أيها الأعزاء: إن شاء الله لقاؤنا في الأسبوع القادم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته