- ندوات إذاعية
- /
- ٠03برنامج فيه هدى للناس - إذاعة دمشق
مقدمة :
الأستاذ جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمدٍ بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم إلى هذه الحلقة المتجددة من لقائنا الأسبوعي: "فيه هدىً للناس".
أيها الأعزاء: كنا في الأسبوع الماضي كنا قد تحدثنا عن سورة التكاثر، بسم الله الرحمن الرحيم:
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
كنا قد التقينا مع صاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، ونتابع اليوم اللقاء مع سماحته، دكتور السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
الدكتور راتب:
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته أستاذ جمال، جزاك الله خيراً.
الأستاذ جمال:
دكتور،
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾
كيف نبدأ ونفهم هذا المعنى في كتاب الله عز وجل؟
الموت نهاية كل حيّ :
الدكتور راتب:
الحقيقة، سيدنا عمر يقول: كفى بالموت واعظاً يا عمر.
أستاذ جمال، ماذا بعد الغنى؟ الموت، ماذا بعد القوة؟ الموت، ماذا بعد الانغماس بكل ملذات الحياة؟ الموت، ماذا بعد الزواج؟ الموت، الموت ينهي كل مخلوق، أي كتب الله على عباده الموت، والموت نهاية كل حي، والموت قطع، أي من أعلى درجات الغنى إلى القبر، من أعلى درجات القوة إلى القبر، من أعلى مستويات الاستمتاع بالحياة إلى القبر، القبر فيه موعظة ما بعدها موعظة.
لكن القبر للمؤمن روضة من رياض الجنة، المؤمن يشبه طالباً عُرض عليه أن يأتي بدكتوراه، وبعدها يعين في أعلى منصب، ويسكن أجمل بيت افتراضاً، ويقتني أجمل مركبة، هو حينما نال هذه الدكتوراه انتهى وقت التعب، والسهر، والدراسة، والهموم، بدأت النتائج، بدأ الاستمتاع بالحياة، بدأت المكانة الكبيرة، بدأ المنصب الراقي، المركبة الفارهة، القصر الجميل، فالموت ينهي حياةً دنيا وتبدأ به حياة عليا.
لذلك قرأت تاريخ سبعين صحابياً، الشيء الذي يلفت النظر ما منهم واحدٌ إلا كان في أسعد لحظات حياته عند فراق الدنيا.
واكربتاه يا أبتي، سيدنا بلال قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
الموت عرس المؤمن :
الموت عرس المؤمن، الموت تحفة المؤمن، مرة ثانية: إنسان عُرض عليه وهو فقير جداً أن يدرس على حسابه ليشغل أعلى منصب بعد أن ينال الدكتوراه، اشتغل في المطاعم، غسل الصحون، اشتغل حارساً، ودرس، سبع سنوات أمضاها لا يعرف الراحة ولا دقيقة، من عمل مضن إلى دراسة مضنية، أخذ الدكتوراه وأخذ المصدقة وصدقها، وقطع تذكرة الطائرة، انظر الآن هذا الطالب الموعود بأعلى منصب في بلده، يقتني أجمل مركبة، يتزوج أجمل امرأة، وعنده أجمل بيت، الآن يضع رجله على سلم الطائرة، هذا الوضع على سلم الطائرة أنهى حياة التعب، بدأ حياة التكريم، هذا الوضع، فالموت تحفة المؤمن، الموت عرس المؤمن، الموت بداية السعادة الأبدية، الموت بداية العطاء الإلهي، لذلك قيل:
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي ﴾
في بعض الآثار النبوية: أن المؤمن حينما يرى مكانه في الجنة، مقامه في الجنة، يعرق عرق الخجل، فيقول: لم أرَ شراً قط، كل المتاعب التي ساقها الله له في الدنيا ينساها، وحينما يرى الذي غفل عن الله مكانه في النار يقول: لم أرَ خيراً قط، كل اللذائذ التي اقتنصها ينساها عند هذه اللحظة.
فالبطولة أستاذ جمال، أن نعيش المستقبل، وأخطر شيءٍ في المستقبل مغادرة الدنيا، الله عز وجل يقول:
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾
لكن ماذا بعد التكاثر؟ الموت، ماذا بعد الغنى؟ الموت، ماذا بعد القوة؟ الموت، فالموت نهاية كل حي، فالموت إما أن يكون تحفةً بل عرساً، وإما أن يكون شقاءً ما بعده شقاء، مأتماً، أو عرساً.
الأستاذ جمال:
إذاً، يعني
﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾
مغادرة الدنيا أخطر شيءٍ في المستقبل :
الدكتور راتب:
الحقيقة عن كلمة زرتم، الإنسان في القبر إلى حين، إلى يوم القيامة، القبر اسمه برزخ، البرزخ الوقت الذي بين موت الإنسان وبين يوم القيامة، لذلك الله حدثنا عن هذا البرزخ بآية تقول عن آل فرعون:
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾
مثل إنسان محكوم بالإعدام، كلما فتح باب زنزانته يتصور أنهم جاؤوا ليعدموه:
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾
أستاذ جمال، البطولة لا أن تعيش الماضي، الأغبياء يتغنون بالماضي، والبطولة ألا تعيش الحاضر، الذكاء، والعقل، والبطولة أن تعيش المستقبل، وأخطر حدث في المستقبل مغادرة الدنيا:
(( إن أكيسكم ))
أي أعقلكم:
((قال رجل : يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً، قال : يا رسول الله هل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال : نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت))
(( أكثروا ذكر هادم اللذات ))
مفرق الأحباب، مشتت الجماعات.
(( عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به))
التفكر بالموت له معنى إيجابياً وليس معنى سلبياً :
أستاذ جمال، الموت إذا ذُكر جعل الكثير قليلاً، والقليل كثيراً، كيف؟ الذي معه ملايين مملينة، الموت يعني انتهاء هذه الثروة، دخل إلى القبر، والفقير له أعمال صالحة كثيرة، الموت يعني أنه موعود بالجنة، فما ذُكر الموت في كثير إلا قلله، وما ذُكر في قليل إلا كثره، النبي قال:
(( أكثروا ذكر هادم اللذات ))
أنا لا أصدق، أو أنا لا أتصور، أنك ينبغي أن تدع العمل، تعمل، وتدرس، وتنجز، وتتفوق، وتؤسس شركة، وتقيم دعوة كبيرة، لكن وفق منهج الله، التفكر بالموت لا من أجل أن تدع الحياة، ولكن من أجل أن تنضبط في الحياة.
أنا كنت مرة في بلد بأمريكا والقصة قديمة جداً، وهناك شريط متحرك في المطار، وقفت عليه فهو يمشي، فأنا واقف ماشٍ، فلما سرت عليه، تضاعفت سرعتي، وكان عن يميني حاجز وعن يساري حاجز، تصورت أن هذا الشريط يشبه الموت، يسرع الخطا إلى الله، ويمنعك أن تعصيه يمنةً ويسرةً.
فالتفكر بالموت له معنى إيجابياً، وليس معنى سلبياً، اشتغل، واعمل، وادرس، وخذ شهادات، وتزوج، وتفوق بعملك، وخذ أوسمة، لا يوجد مانع، هكذا الحياة، لكن من أجل ألا تعصي الله، الموت يمنعنا أن نعصيه، فكأن الموت أصبح رادعاً، مستمراً.
(( أكثروا ذكر هادم اللذات ))
الله قال:
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾
كنت أقول: ثم ماذا؟ مرة ألقيت درساً حول كلمة ثم ماذا؟ أصبحت أغنى أغنياء البلد، ثم ماذا؟ الموت، أصبحت أقوى أقويائه، ثم ماذا؟ الموت، أصح أصحائه، الموت، الموت إذا ذُكر قلب كل شيء، فالبطولة أن نستعد له قبل أن نفاجأ به، الآن الأذكياء دائماً لا يفاجؤون، الأغبياء يعيشون الماضي دائماًً، يتغنون بالماضي، الأقل غباء يعيشون الحاضر، أما الأذكياء والعقلاء على مستوى الأمم والشعوب يعيشون المستقبل، المستقبل في هذا الحدث، أخطر حدث مستقبلي مغادرة الدنيا، لا ينجو من الموت لا ملك، ولا وزير، ولا أمير، ولا فقير، ولا حقير، ولا غني، نهاية كل حي لذلك:
(( أكثروا ذكر هادم اللذات ))
والله قال:
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾
من أدخل الموت في حساباته نجا من مفاجآته :
((بادِرُوا بالأعمال الصالحة ))
حديث دقيق جداً، أستاذ جمال، فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ تصور إنسان عائش:
((هل تُنْظَرون إلا فَقْراً مُنْسياً))
فقر شديد ينسيك كل شيء:
((أو غِنى مُطغياً))
الغني على بصره غشاوة، غناه أنساه سرّ وجوده، وغاية وجوده، أنساه العمل الصالح، استعلى على الناس:
(( بادِرُوا بالأعمال سبعاً: هل تُنْظَرون إلا فَقْراً مُنْسياً، أو غِنى مُطغياً، أو مَرَضاً مُفسِداً، أو هَرَماً مُفنِداً، أو موتاً مُجْهِزاً، والدجالَ؟ والدَّجَّالُ شَرُّ غائب يُنَتظَرُ، والساعةَ ؟ والساعةُ أدْهَى وأمرُّ ))
لذلك أستاذ جمال، الإنسان إذا أدخل الموت في حساباته نجا من مفاجآته.
الآن إنسان أحياناً للتقريب: يسافر إلى بيروت، أوضح مثل، وهو في الحدود رأى محاسبة على البضائع مذهلة، تضع كل شيء معك على طاولة لتحاسب عليه مثلاً، بعد أن رأى هذا المنظر وهو ذاهب إلى بيروت، هل يشتري آلات كبيرة؟ لا لن تدخل.
فالبطولة أن تقول: هذا العمل هل يقبله الله مني بعد الموت؟ هذه الوظيفة إن كانت في إيذاء الناس فرضاً، أو هذا العمل إذا كان فيه إفتان الناس، فيه أعمال لا ترضي الله، فيه أعمال مبنية على المعاصي والآثام، فيه أعمال مبنية على ابتزاز أموال الناس، فيه أعمال مبنية على إفساد علاقاتهم، يا ترى قبل أن تفعل شيئاً، قبل أن تحترف حرفة، قبل أن تقوم، قبل أن تصل، قبل أن تقطع، قبل أن تعطي، قبل أن تمنع، قبل أن ترضى، قبل أن تغضب، هل فكرت أن الله سيحاسبك؟ البطولة كلها أن تتصور وأنت مقدم على أي عمل أن الله سيسألك، لماذا فعلت هذا؟ ماذا تبتغي من هذا؟ والله:
﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾
الخيار مع الإيمان ليس خيار قبول أو رفض إنما خيار وقت فقط :
لذلك:
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا ﴾
ليست كلا أداة نفي،
﴿ كَلَّا ﴾
أداة ردع،
﴿ كَلَّا ﴾
لا تكونوا كذلك، لا تكونوا قد التهيتم بالدنيا، وغفلتم عن الآخرة،
﴿ كَلَّا ﴾
الله يردعنا،
﴿ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾
ستعلمون مرتين، مرة عند الموت:
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾
أكفر كفار الأرض الذي قال:
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
والذي قال:
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
هذا الكافر العنيد، ماذا قال عند الموت عندما أدركه الغرق؟
﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وأنا منَ المُسلمين﴾
أستاذ جمال، هناك قضية دقيقة جداً، أنت مع مليون موضوع مخير، خيار قبول أو رفض، عرضوا عليك سفراً، والسفر غير مريح، والتعويضات قليلة جداً فرفضته، عرضوا عليك بيتاً غالياً، وصغيراً، وبحيّ غير لائق، رفضته، قد يعرض عليك آلاف الأشياء ترفضها، إلا الإيمان الخيار مع الإيمان ليس خيار قبول أو رفض، خيار وقت، إما أن تؤمن قبل فوات الأوان، وتنتفع بإيمانك، أو أنه لابد من أن تؤمن بعد فوات الأوان، الذي قال:
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
والذي قال:
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
عندما أدركه الغرق قال:
﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾
الإنسان إذا أدخل الموت في حساباته نجا من أخطاره :
أقول لك أستاذ جمال: كل أهل الأرض على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، ومذاهبهم، وطوائفهم، وتياراتهم، هؤلاء جميعاً سوف يكتشفون الحقيقة التي جاء بها الأنبياء عند الموت.
هناك إنسان أستاذ جمال، دهسته سيارة، وغاب عن الحياة لدقائق، ثم ردت له الروح، أي حالات الموت المؤقت، فذكر ماذا رأى بعد أن مات، كتب كتاباً جاء عالم كبير، بحث عن هذه الحالات في العالم كله، فوجدها سبعين حالة، ألّف كتاباً، الحياة بعد الموت، أي كل واحد مات لفترة محددة، ثلاث دقائق، أربع دقائق، ماذا رأى؟ الشيء الذي لا يصدق، أن هؤلاء الذين ماتوا موتاً مؤقتاً، على اختلاف دياناتهم، واختلاف طوائفهم، وأعراقهم، وحالاتهم الثقافية، والاجتماعية، والعلمية، تكلموا كلاماً واحداً، أنهم عرفوا أن الله خلقهم في الدنيا للعمل الصالح، وأنهم غفلوا عنه، الكتاب باللغة الإنكليزية، تُرجم للغة العربية، اسمه "الحياة بعد الموت"، سبعون أو ثمانون حالة، من أشخاص ماتوا موتاً مؤقتاً لدقائق، ثم عادت لهم الحياة، ماذا رأوا؟
فلذلك الإنسان إذا أدخل الموت في حساباته نجا من أخطاره، أما إذا غفل عن هذا الموت داهمته أخطاره،
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾
الأستاذ جمال:
إذاً:
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
كل إنسان يعرف الحقيقة عند الموت :
الدكتور راتب:
أستاذ جمال، لو فرضنا طعاماً فيه سُم، والسم قاتل، والطعام له رائحة طيبة، وهناك مواد دسمة لها رائحة فواحة، وشيء مشهي، فالبطولة أن أتجاوز هذه الرائحة الطيبة للطعام، وأن أدرس السُّم الذي فيه.
فالإنسان أحياناً يكون بسذاجة، يتحرك بلا دراسة، بلا وعي، بلا مبادئ، بلا قيم، يقتنص الملذات، والشهوات، ثم يفاجأ أنه خسر الأبد:
﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا ﴾
إياكم أن تفعلوا هذا، لأنه
﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾
لكن متى؟ عند الموت، لكن عند الموت يوم:
﴿ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ﴾
والحقيقة الآن كإنسان لم يدرس، دخل الامتحان، ولم يكتب ولا كلمة، الآن رجع للبيت، وفتح الكتاب المقرر، وقرأ الإجابة الصحيحة، لكن هذه القراءة جاءت في غير وقتها، متأخرة، لا قيمة لها إطلاقاً، فالبطولة أن تعرف الإجابة أثناء الامتحان.
فلذلك الإنسان عند الموت يعرف الحقيقة، عرفها فرعون، الذي قال:
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
هو أكفر كفار الأرض، عرفها فرعون وكل إنسان سيعرفها، والله قال:
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ﴾
الشهوة غطاء، الشهوة تعمي، وتصم،
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾
ترى الحقيقة ناصعةً، ترى الحقيقة التي جاء بها الأنبياء جميعاً عند الموت.
الأستاذ جمال:
إذاً المطلوب كما سألتك مع بداية حديثي، المطلوب من خلال كلامكم، وملاحظاتكم، المطلوب من الإنسان أن يكسب في كل لحظةٍ من حياته عملاً طيباً صالحاً.
الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه :
الدكتور راتب:
نعم، لأنه بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، والله أستاذ جمال، ما وجدت تعريفاً للإنسان جامع، مانع، رائع، كهذا التعريف، هذا تعريف الحسن البصري، قيل له ما الإنسان؟ قال: هو بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، فرضاً الإنسان له عند الله ثلاث وثمانون سنة، وسبعة أشهر، وثلاثة أسابيع، وأربعة أيام، وثماني ساعات، وأربع دقائق، وست ثوان، الآن كلما تحرك العقرب ثانية واحدة قرب من أجله، قال له: لأنه أنت بضعة أيام، هذا المفهوم للوقت مفهوم الإنسان الزمني، مفهوم خطير جداً، أنا سوف أرحل، ألقِ نظرة على سوق الحميدية في الشام قبل خمسين سنة هناك طقم آخر، أصحاب محلات، بكل مكان كل خمسين سنة هناك تبدل، البيوت والمتاجر، فالله جعلنا خلفاء بعضنا بعضاً، فالموت لابد منه، عند الموت لا ينفع إلا العمل الصالح.
الأستاذ جمال:
فهذه الدنيا لا تبقي على أحدٍ، ولا يبقى على حال لها شأن:
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ من سره زمنٌ ساءته أزمان
***
أيها الأعزاء نتابع مع حضراتكم، مع صاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، بموضوع لقائنا الأسبوعي هذا "فيه هدىً للناس"، وصلنا إلى الآية الكريمة:
﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾
عين اليقين و حق اليقين :
الدكتور راتب:
أستاذ جمال، للتوضيح: أنا أقف أمام جدار، ويصعد خلف الجدار دخان، أنا بحسب معلوماتي التي أعرفها أقول: لا دخان بلا نار، حقيقة، هذا اسمه استنباط منطقي، مستوى من الحقائق، لو تحركت نحو وراء الجدار لرأيت الدخان بعيني، قال: هذا
﴿ عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾
اقتربت من النار فشعرت بوهجها، هذا حق اليقين، أي في علم اليقين استنباط، هناك عين اليقين، وهناك حق اليقين
﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾
مثلاً إنسان يركب مركبة، والطريق منحدر انحداراً شديداً، و بنهاية الطريق انعطاف حاد، تسعون درجة، هذا السائق يفرح بهذه السرعة الرائعة لو علم عِلْمَ الْيَقِينِ أن المكبح معطل، يقول لك: انتهينا.
بطولة الإنسان أن يعد لكل سؤال جواباً يوم القيامة :
﴿ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
هذا الغارق في الملذات، في المعاصي والآثام، يتوهم نفسه سعيداً، هذا لو يعلم ماذا ينتظره من حسابٍ دقيق، من سؤالٍ دقيق، يحاسب عن أعماله، عن كسب ماله، عن إنفاق مال، عن علاقاته، بنى مجده على أنقاض الناس، بنى حياته على موتهم، بنى غناه على فقرهم، لو أن هذا الإنسان يعلم
﴿ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾
أنه سيحاسب عن كل شيء:
﴿ فَوَرَبِّكَ ﴾
أقسم الله تعالى:
﴿ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
هذه الآية أنا أقول: قاصمة الظهر، سوف نُسأل عن كل شيء، فالبطولة أن نُعد لكل سؤالٍ جواباً،
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
أي إنسان ـ عفواً ـ إذا تاجر بالمخدرات، هو بعيد عن تصور نتائج هذه التجارة، الآن من يتاجر بالمخدرات يعدم، المتعاطي غير المتاجر، فهذا الذي تاجر بالمخدرات ربح أرباحاً طائلة، وغفل عن عقاب التجارة بالمخدرات، ثم سيق إلى حبل المشنقة، متى يعرف الحقيقة؟ عند حبل المشنقة، فالبطولة أن تعرف النهاية قبل أن تأتي:
﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ ﴾
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
هذا عند الموت،
﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾
يوم القيامة،
﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
هذا المال الذي أعطاك الله إياه ماذا فعلت به؟ أنفقته على الملذات والآثام والمعاصي أم أنفقته في طاعة الله؟ أنفقته على علاقةٍ بأنثى لا تحل لك أم على زوجتك التي أحلها الله لك؟ أنفقته على أولادك أم على أخلالك في الملاهي الليلية؟ على من أنفقته هذا المال؟ المال تُسأل عنه، والصحة تُسأل عنها، أي شيءٍ تنعمت به تُسأل عنه، لذلك الإنسان حينما يتحرك وفق منهج الله، كل أعماله صالحة، حتى لو أطعم أولاده، لو أكرمهم، لو أخذهم نزهةً، لأن المؤمن عاداته عبادات، بينما المنافق عباداته سيئات، ولا يطؤون موطئاً إلا كتب لهم به عملٌ صالح، أنت حينما تعرف الله كل حركاتك وسكناتك أعمالٌ صالحة، تبتغي بها وجه الله، تبتغي منها إكرام الزوجة، إكرام الأم والأب، إكرام الأولاد، نفع المجتمع، أن ترقى بمجتمعك، أن ترق بأمتك، المؤمن نيته خيرٌ من عمله.
الأستاذ جمال:
يقودنا هذا إذاً إلى حفظ حقوق الجار دكتور محمد راتب النابلسي.
حفظ حقوق الجار :
الدكتور راتب:
أتدرون ما حق الجار؟ إذا استعان بك أعنته، وإن استقرضك أقرضته، وإن مات شيعته، وإن مرض عدته، وإن أصابه خيرٌ هنأته، إن أصابته مصيبةٌ عزيته، ولا تستطل عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهةً فأهدِ له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك، إلا أن تغرف له منها، هذا حق الجار.
الأستاذ جمال:
كم من الجارات دكتور النابلسي نراها تصلي، وتدّعي أنها ملتزمة بحقوق ربها عز وجل، ونراها تتلفظ بالنميمة، والوشاية، والغيبة، أين هي هذه من موضوع
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾
الدكتور راتب:
النبي قال عن هذا:
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ ))
لأن العبادة شيء، والاستقامة شيء آخر، لابد أن تستقيم على أمر الله.
(( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ))
الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان، والله عز وجل حينما أثنى على النبي الكريم، أثنى عليه بخلقه العظيم، والإيمان إذا لم يُتوصل منه إلى خلقٍ كريم فلا قيمة له.
الأستاذ جمال:
أيها الأعزاء نتابع مع حضراتكم تفسير الآية الكريمة سورة التكاثر، وصلنا سيدي إلى
﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
ماذا نقول؟.
سؤال الإنسان عن أي نعيم تنعم به في الدنيا :
الدكتور راتب:
أيُّ نعيمٍ تنعمت به تُسأل عنه، وليكن نعيم المال، من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟ نعيم الجاه، أنت في جاهٍ كبير، هذا الجاه ماذا فعلت به؟ استخدمته لنصرة الضعيف أم التباهي على الناس؟ أي شيءٍ أعطاك الله إياه، يمكن أن يكون سُلماً ترقى به عند الله، أو دركاتٍ تهوي بها عند الله، فأي عمل، أي شهوة، أي حظ، المال، الوسامة، الذكاء، طلاقة اللسان، العلم، النسب، الحسب، أي شيءٍ منحك الله إياه، يمكن أن يكون سُلماً ترقى به، أو دركاتٍ تهوي بها، بينما هذه الشهوات التي أودعها الله فينا، ما أودعها فينا إلا لنرقى بها إلى رب الأرض والسماوات، فالشهوة إذا سارت في قناتها النظيفة كانت عملاً صالحاً، وإن سارت في قناةٍ أخرى كانت عملاً سيئاً، لأن الإنسان مخير إذاً كل شهواته حيادية، يمكن أن تكون سلماً يرقى بها، أو دركات يهوي بها، وكل حظوظه حيادية، أي حظ الذكاء، وطلاقة اللسان، والوسامة، وما إلى ذلك، هذه سلم نرقى بها، أو دركات نهوي بها، والإنسان دائماً مع الشهوات، إما أن يرقى بها إلى الله، وإما أن يسقط عند الله بها، هو إنسان مخير.
الأستاذ جمال:
ألا تقودنا هذه الآية الكريمة سيدي إلى الأمانة التي عجزت السماوات والأرض عن حملها، فحملها الإنسان؟.
من عرّف نفسه بربها وحملها على طاعته وزكاها فقد نجح وأفلح في الدنيا والآخرة،:
الدكتور راتب:
هو معظم العلماء رأوا الأمانة أن الله ملكك نفسك التي بين جنبيك، جعلها عندك أمانة، وقال لك:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
الذي يُعرف نفسه بربها، ويحملها على طاعته، ويزكيها، فقد نجح، وأفلح في الدنيا والآخرة، والذي يهملها، ولا يُعرفها بربها، ولا يحملها على طاعته، يطلق لها العنان، تشقيه في الدنيا والآخرة، قضية دقيقة جداً، هذه النفس أمانةٌ بين جنبيك،
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾
بالمناسبة هناك آيتان بالقرآن
﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾
فالفلاح النجاح في الدنيا والآخرة، أما النجاح فقد يكون في الدنيا فقط، والنجاح في الدنيا لا يسمى نجاحاً إلا إذا كان شمولياً، معنى شمولي أي نجحت في معرفة الله، وطاعته، والقرب منه، ونجحت مع أهلك وأولادك، ونجحت مع عملك واختصاصك، ونجحت مع صحتك.
الأستاذ جمال:
كل هذا يصب في مصلحة المجتمع الذي نعيش به أمانةً.
صلاح الأسرة أساس صلاح المجتمع :
الدكتور راتب:
إن المجتمع مجموعة أفراد، فإذا كان كل فرد بأسرته قائداً، وبطلاً، وربى أولاده، وهذب بناته، ووجه زوجته إلى ما فيه الخير، الأسرة هذه لبنة في بناء عملاق، في بناء مئة طابق، فإذا صحت هذه اللبنة صحّ البناء، أنا أقول: أساس صلاح المجتمع صلاح الأسرة، لذلك كل الأنظمة التي تستقي من الله عز وجل مبادئها ترعى الأسرة، وكل المبادئ الهدامة التي نستوردها أحياناً من بلاد أخرى تفسد الأسرة، صلاح الأسرة صلاح المجتمع، وإفساد الأسرة إفساد المجتمع بأكمله.
الأستاذ جمال:
إذاً هذا يقودنا اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
الدكتور راتب:
أي هو الذي يقابل هذا الكلام:
(( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا أن يتزود منهما معاً فإن الأولى مطيةٌ للثانية ))
الأستاذ جمال:
هذه الآية الكريمة:
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
بحثنا في موضوعها على مدى حلقتين، ماذا نقول بدقائق عن هذه الآية الكريمة؟.
بطولة الإنسان أن يتحرك وفق منهج الله عز وجل :
الدكتور راتب:
البطولة أن نتعلق بالآخرة، والبطولة أن نتحرك وفق منهج الله، و ألا ننسى الدنيا، والبطولة أن نجعل الدنيا مطيةً للآخرة، وأن نجعل الدنيا طريقاً للآخرة، هذا الذي أتمنى أن يكون.
الأستاذ جمال:
وموضوع الأمانة شيء هام في حياتنا، المهندس أثناء بنائه لمشروع، والمحامي عند الموكل، وأيضاً باني الجسور.
الأمانة و تعريفها :
الدكتور راتب:
أصحاب الحرف جميعاً، هذه الحرف أمانة في أعناقهم، أصحاب الاختصاصات، أصحاب الدرجات العلمية، المعلم في صفه، الأمانة مفهوم واسع جداً يطال كل شيء، لذلك:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
فعلة وجودنا أداء الأمانة،
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
في الحقيقة
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
قد نفهمها بالمعنى الاستفهامي، هل كان ظلوماً جهولاً حينما قَبِل حملها؟ الجواب لا، أما إذا حملها ثم لم يؤدِ حقها
﴿ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
فالأمانة أستاذ مفهومها واسع جداً، هناك مفهوم ضيق للأمانة نتوهمه أن إنساناً وضع عندك مبلغاً ثم استرده، هذا معنى جزئياً جداً، الأمانة نفسك أمانة، أولادك أمانة، حرفتك أمانة، المريض عند الطبيب أمانة، هل نصحه؟ الموكل عند المحامي أمانة، الطالب عند المعلم أمانة، والله أستاذ جمال مفهوم الأمانة يحتاج إلى ندوة خاصة، لأنه كل إنسان عمله، وحرفته، ومن حوله، ومن فوقه، ومن دونه، أمانة، ينبغي أن تنصح الأقوياء والضعفاء، الصغار والكبار، ومن حولك، ومن يلوذ بك أن تنصحه، ينبغي أن تؤدي عملك ببراعةٍ، وبحرفيةٍ عاليةٍ جداً، مقابل هذا الذي تأخذه من الناس، فأي شيءٍ اختل في مجتمعنا هو من ضعف الأمانة، والأمانة بالمعنى الواسع هو أن تعرف سرّ وجودك، وغاية وجودك.
الأستاذ جمال:
هل نستطيع أن نقول في نهاية حديثنا: إذا أدينا الأمانات إلى أهلها نستطيع أن ننقذ أنفسنا من ظلمة القبر؟.
القبر يلخص عمل الإنسان في الحياة الدنيا :
الدكتور راتب:
طبعاً، لأن القبر أستاذ جمال إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، القبر يلخص عملنا في الحياة الدنيا، والقبر شيء خطير جداً، النقلة من بيت كبير إلى قبر، من مكانة عالية إلى قبر، من متع الحياة إلى قبر، من بيت فيه زوجة وأولاد وبنات وأصهار إلى قبر، فالقبر نقلة مخيفة، فالذي يخفف من مشكلته أن نستعد له، ما منا واحدٌ يجرؤ على أن ينكر حدث الموت إلا إذا كان مجنوناً، لا أحد ينكر حدث الموت، ولكننا نتفاوت في مدى الاستعداد للموت، نتفاوت لا في تصديق الموت وتكذيبه، الموت حق، ولا يمكن لواحد أن يكذبه، ولكننا نتفاوت في مدى الاستعداد له لذلك:
(( أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ))
مفرق الأحباب، مشتت الجماعات.
(( عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))
خاتمة و توديع :
الأستاذ جمال:
صدق الله العظيم،
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
في الختام أيها الأعزاء كل الشكر لفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، دكتور شكراً جزيلاً لكم، وعلى كل الملاحظات القيّمة التي تفضلتم بها.
الدكتور راتب:
بارك الله بك أستاذ جمال، جزاك الله خيراً.
الأستاذ جمال:
أيها الأعزاء، إن شاء الله نلتقي في الأسبوع القادم مع حلقةٍ جديدة، ومتجددة من لقائنا الأسبوعي "فيه هدىً للناس".
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته