وضع داكن
01-12-2024
Logo
الدرس : 04 - سورة البقرة - تفسير الأيات 3-5 عالم الشهود و عالم الغيب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 
 

عالم الشهود:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع من سورة البقرة، ومع الآية الثالثة.
أحد أكبر صفات هؤلاء المتَّقين أنهم يؤمنون بالغيب، ما هو الغيب؟ هناك عالَم الشهود، وهناك عالَم الغيب، عالَم الشهود ما تشاهده، ما تسمع به، ما تشُمُّه، أو تُحِسُّ به، أو تتذوَّقه، المعلومات التي تأتينا عن الحواس الخمس، عالم الشهود، هذا الضوء متألق، وهذه المروحة تدور، وهذا الصوت يُكَبَّر نعرفه بآذاننا.
أيها الإخوة الكرام؛ لذلك قالوا: ليس مع العين أين، ليس مع العين أين الدليل؟ لا نحتاج مع العين إلى دليل، لا يختلف البشر جميعاً على المحسوسات، لذلك العلوم المادية متَّفق عليها في كلِّ قارات الأرض، علم الفيزياء، والكيمياء، والضـوء، والميكانيك، والحرارة، وعلم المستحاثات، العلوم المادية ليس بين علماء الأرض خلافٌ حولها إطلاقاً، لأن الحس يقيني، هذا هو عالَم الشهود، الشيء الذي تدركه بسمعك، تسمع صوته، أو تراه بعينك، أو تلمسه بيدك، أو تشُمُّه بأنفك، أو تتذوَّقُه بلسانك، هذا عالم الشهود.
قد تتوهم أن الحـواس خمس، الحقيقة الحواس أكبر من خمس بكثير، أمامك وعاءان مغلقان، أيهما ممتلئ وأيهما فارغ لا تعرف بأذنك، ولا بعينك، ولو وضعت يدك على الوعاء، ولا بيدك، ولا بأنفك، ولا بلسانك، تحمل أحد الوعاءين تراه خفيفاً، تحمل الثاني تراه ثقيلاً، هذه حاسة إدراك الثقل، أحياناً إذا وضعت وعاء تحت الصنبور، كلّما ازداد الماء في الوعاء تشعر أن يدك تقاوم أكثر، يزداد الوزن، تشعر من خلال عضلاتك أن الوزن يزداد، هذه حاسةٌ أيضاً، تُعطى قماشان من مستوى واحد، بالشكل واللون، أيُّهما أَرَقّ؟ تأتي بإصبعين، تعرف من خلال الإصبعين سماكَة الشيء، هذه أيضاً حاسة، تنام على السرير نوماً مديداً، تضغط العضلات مع الهيكل العظمي على العضلات التي تحت الهيكل العظمي، هناك مراكز ضغط في العضلات تُنْبئ الدماغ أن الضغط اشتد، والأوعية ضاقت لمعتها، والتروية ضعفت، وحدث تنميل وخدر، تذهب هذه المعلومة إلى الدماغ، يعطي الدماغ أمراً، يتقلَّب النائم ثمانٍ وثلاثين مرة ذات اليمين وذات الشمال، فإدراك الضغطِ هذا قوةٌ إدراكية عند الإنسان، إدراك الثقل قوة إدراكية، إدراك الثخانة قوة إدراكية، غير السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، نحن ألفنا أنَّ الحواس خمس، لكن هناك قوىً إدراكية في الإنسان كثيرة جداً.
 

استواء البشر وغير البشر في عالم الشهود:


أحياناً الإنسان يجوع كيف شعر أنه جائع؟ يا ترى المؤشر صوتي؟ لا، جائع وهو ساكت، المؤشر كيماوي؟ لا نعرف، ضوئي؟ لا نعرف، عصبي؟ لا نعرف، نعرف أننا جائعون، نريد أن نأكل، هذا أيضاً إدراك؛ يحس الإنسان بالعطش أحياناً، فالإحساس بالجوع، والإحساس بالعطش، وتقدير سماكة الشيء، وتقدير وزن الشيء، والمُدركات الأُخرى هذه كُلُّها من عالَم الشهود.
أيها الإخوة؛ هذه الحواس الخـمس، وغير الخمس الكثيرة جداً هذه من هداية المصلحة، هدانا إلى مصالحنا، الإنسان يتوازن، راكـب الدرَّاجة إذا مال درجتين يدرك فيصحّح، لولا جهاز التوازن لما استطاع أحد أن يركب دراجة، لا يوجد إنسان يمشي على قدمين إطلاقاً، انظر إلى المجسَّمات في محلات بيع الألبسة تستند إلى قاعدة كبيرة جداً، لا يوجد ميت يقف على قدميه، من يقدر أن يوقف ميتاً؟ يقع لأن جهاز التوازن تعطل، أما الإنسان فيمشي بقدمين لطيفتين، يتنقل، متوازن، فالتوازن إحساس، اختلّ التوازن، الإنسان أحياناً يأكل أكلة متفسِّخة، يتقيَّؤها رأساً، من أدرك أن الطعام فاسد؟ حدث القيء، القيء أساسه إدراك، التوازن أساسه إدراك، الجوع أساسه إدراك، العطش أساسه إدراك، معرفة وزن الشيء أساسه إدراك، معرفة ثخانته إدراك، تتم معرفة أشياء كثيرة هذه كلها عن طريق الإدراك، هذا عالَم الشهود، يستوي فيه البشر جميعاً، ويستوي فيه البشر وغير البشر.
 

عالم الغيب:


ما هو عالَم الغيب؟ كل شيءٍ غاب عن حواسِّنا ومدركاتنا، يؤمن الحيوان بحواسِّه، أما الإنسان فهو مُكَرَّم أعطاه الله قوةً إدراكية تزيد عن حواسه الخمس وعن مدركاته الحسِّية، أعطاه الله عقلاً، بالعقل تؤمن بالغيب، الشيء الذي غاب عنك تدرِكُه بعقلك، تمشي في طريق ترابي تجد أثر عجلتين، تقول: مرَّت من هنا سيارة، ولعلها صغيرة لقلة المسافة بين العجلتين، ولعلها كبيرة، ولعلها شاحنة كبيرة، أنت لم تر السيارة، ولكن رأيت آثارها، فعن طريق العقل أيقنتَ بأن هناك سيارةً مرت، البعرةُ تدل على البعير، والماء يدلُّ على الغدير، أفسماء ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج ألا تَدُلان على الحكيم الخبير؟
 

المدرِكات الحسية تجعل الإنسان مع عالم الشهود وجهاً لوجه لأن أساسه الحواس الخمس:


الآن انتقلنا من عالك الشهود الذي أساسه الحواس الخمس وكل أدوات الإدراك الحسية، من وزن، من ثخانة، إحساس بالجوع، إحساس بالعطش، إحساس بالتوازن، إحساس بفساد الطعام، إحساس بانضغاط.
أحياناً وأنت نائم يزداد اللعاب في فمك، وأنت نائم، وأنت غارق في النوم، وأنت ترى مناماً معيناً، تذهب إشارة من الفم إلى الدماغ، زاد اللُّعاب عن حده المعقول، يعطي الدماغ أمراً للسان المزمار، يُغلق فتحة الهواء إغلاقاً محكماً، ويفتح فتحة المريء فتحاً واسعاً، فالإنسان يبتلع ريقه وهو نائم، لولاها لوجدت ريق الإنسان على الوسادة، وأنت نائم هناك عملية معقدة جداً للسان المزمار، وأنت نائم تتم عمليَّات أخرى كالتقَلُّب يُمْنَةً ويُسرةً، فالمدركات الحسية، وأدوات الإدراك الحسية، والحواس الخمس هذه أداتُك إلى عالَم الشهود، وهذه من نعمة الله الكبرى، هذه هداية ولكنها هداية المصالح.
أنت تعلم ما حولك، تقول: توجد رائحة كريهة في البيت، الرائحة أحد وسائل إدراك الأشياء، في البيت تنتهي وظيفة عينك عند الجدار، بينما تمتد أذنك إلى ما بعد الجدار، فتقول: هناك حركة في البيت، من دخل إلى البيت؟ من فتح الباب؟ وأنت جالس في غرفتك عينك لا تكشف أما الأذن فقد كشفت، أما لو أن حشرةً ماتت، أو فأرةً ماتت تحت السرير، فلا تسمع صوتها، ولا ترى جُثَّتَها، لكن تشم رائحتها بعد حين، تقول: هناك رائحة كريهة، حتى الغاز الذي نستعمله، الرائحة الكريهة في الغاز أُضيفَتْ له قصداً، ليست من أصل الغاز، الغاز ليس له رائحة، هذه الرائحة الكريهة في الغاز أُضيفت له من أجل أن نشعر بالتسرب فلا يحترق البيت، فهذه المدرِكات الحسية تجعلك مع عالم الشهود وجهاً لوجه، ولكنك مخلوقٌ مكرم زُوِّدتَ بعقلٍ يُدرك ما غاب عنك.
 

الغيب الشهودي غيبٌ له آثار ووسيلة إدراكه العقل:


الآن الله جلَّ جلاله لا تدركه الأبصار، الله جلَّ جلاله غَيبٌ عنك، لكن الكون كله من آثاره، فعن طريق العقل إذا أعملته تتعرف إلى الله عزَّ وجل بهذه المخلوقات، هذا عالم الغيب، عالم الغيب شيءٌ غاب عنك ولكن له آثار، أنت يوجد عندك حواس، وأدوات إدراك لهذه الآثار، فهذه الحواس وأدوات الإدراك تَنقل إلى الدماغ معطيات الآثار، فالدماغ يحكم على الذي غاب عنك، فأول خصيصة للإنسان المؤمن أنه يؤمن بالغيب، يؤمن بالله ولا يرى الله، يؤمن بعظمة الله من خلال عظمة خلقه، يؤمن بتسيير الله من التسيير الذي يراه بعينه، يؤمن بالمسيِّر من التسيير، يؤمن بالحكيم من الحكمة، يؤمن بالمنظِّم من النظام، يؤمن بالخالق من الخَلْق، يؤمن بالمُبْدِع من الإبداع، فلذلك أكبر قضية في حياة المؤمن أن الله أعطاه عقلاً، والكون كلُّه أثر من آثار الله عزَّ وجل، فهذا العقل إذا وَجَّهْتَه إلى هذه الآثار دلّك على المؤثر.
القضية بسيطة جداً، أنت أمام جدار، وراء الجدار دخان، والقاعدة: لا دخان بلا نار، فإذا ذهبت إلى خلف الجدار رأيت النار بعينك، ليس مع العين أين، لا نريد دليلاً، أما إذا ابتعدت عن الجدار ورأيت الدخان، الآن يحكم عقلك من أثر النار على وجود النار، تقول: لا دخان بلا نار، ما دام هناك دخان إذاً يوجد نار، مع أنَّك لم ترَ النار، هذا أحد أنواع الغيوب، غيبٌ له آثار، شيءٌ غاب عنك وله آثار، فوسيلة إدراكه العقل، يمكن أن نسمي هذا الغيب بالغيب الشهودي، الغيب الذي له في عالم الشهود آثار.

وفي كل شيءٌ له آيةٌ                     تدل على أنَّه واحدٌ

[ لبيد بن ربيعة ]

* * *

 

كل ما في الكون ينطق بوجود الله وبوحدانيته:


كل ما في الكون ينطق بوجود الله، كل ما في الكون ينطق بوحدانية الله، كل ما في الكون ينطق بكمال الله، كل ما في الكون ينطق برحمة الله، ينطق بلطف الله، ينطق بقوة الله، ينطق بعلم الله، كل ما في الكون ينطق بأسماء الله الحسنى، لذلك الطريق الواضح الصارخ القصير هو أن ترى الله، أن تعرف الله من خلقه.

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[  سورة آل عمران ]

لا زلنا في عالم الشهود، تشعر بالحاجة إلى النوم، هذه حاسة، يقول لك: نعست لا أستطيع الاستمرار، ما الذي أشعرك أنك بحاجة إلى النوم؟ تَعِب الجهاز العصبي، كيف ينقل لك هذا الجهاز أنه تَعِب وبحاجة إلى النوم؟ هذا إدراك، نمت ثماني ساعات، استيقظت، ما الذي أشعرك أنك أنت أخذت قسطاً من الراحة؟ الاستيقاظ أيضاً إدراك، الأمثلة دقيقة وكثيرة جداً؛ عالم الشهود العالم المحسوس، إنْ صوتاً، أو شكلاً، أو رائحةً، أو ذوقاً، أو ملمساً، أو ثِقَل الأشياء، وثخانة الأشياء، والإحساس بالتوازن، والإحساس بالجوع، والإحساس بالعطش، والإحساس بالحاجة إلى النوم، والإحساس بالحاجة إلى الاستيقاظ، وما إلى ذلك من مدركات لا يعلمها إلا الله، الإحساس بأنه يجب أن نتقلب بالفراش، الإحساس بأنه لابدَّ من أن نبتلع اللُّعاب في فمنا، إحساسات لا تنتهي.
 

أنواع الغيب:


إذا انتقلنا إلى عالَم الغيب، كل ما غاب عنك، كل ما غاب عن حواسك الخمس ومدركاتك الحسية، هذا عالم الغيب، أعظم غيبٍ يجب أن تؤمن به الله، غابت عنك ذاته وأمامك آثاره، والأدوات العقل، لذلك صار هناك معرفة عقلية ومعرفة حسية.
لكن يوجد شيء غاب عنك وليس له آثار، الملائكة غائبةٌ عنا لكن ليس للملائكة آثار، الجن مخلوقاتٌ غابت عنا وليس لها آثار، اليوم الآخر غاب عنا وليس له آثار، هذه معرفة ثالثة.
الغيب الأول، غيبٌ له آثار أداته العقل.
الغيب الثاني غيب الأخبار، غيبٌ ليس له آثار، أداته الأخبار فقط، فالخبر أساسه أن يكون صادقاً، فإذا كان الخبر صادقاً هذه معرفة من نوع ثالث، إما أن ترى بعينك، وإما أن تستدل بعقلك، وإما أن تُصْغي بأذنك، أخبرنا الله عزَّ وجل أن هناك ملائكة، هذا نوع ثالث، أخبرنا أن هناك عالماً هو عالم الجِن، أخبرنا أن هناك يوماً آخر، أخبرنا أن في هذا اليوم نار جهنم، وجنة عرضها السماوات والأرض، كل هذه الغيوب التي لا أثر لها، والتي لا يستطيع العقل أن يصل إليها أخبرنا الله عنها.
فالغيب الثالث غيب إخباري، الغيب الثاني غيب استدلالي، وهناك غيبٌ استأثر الله به لا يعلمه أحدٌ إلا الله.

﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ (27)﴾

[ سورة الجن  ]

فإذا أخبرنا النبي عن شيءٍ في المستقبل فهو من إعلام الله له لا يعلم بذاته.
 

من رحمة الله بالإنسان أنه ترك له علامات لكل شيء:


فيا أيها الإخوة؛ طريق الإيمان القصير ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ شيء غاب عنك، لكنك تعرف آثاره، أنت الآن أمام أداة كهربائية معطلة، يا ترى التيار الكهربائي معطل؟ تأتي بأداة أخرى تضع شريطها في هذا المأخذ، فإذا عملت معنى ذلك أن المأخذ سليم، حصرت العطل، يا تُرى هذه المِكواة معطلة بسبب شريطها؟ تأتي بشريط جديد تضعه تجدها تعمل، إذاً العطل من الشريط، كل الحضارة قائمة على الفكر، شيء لا يراه الإنسان ولكن يرى آثاره، لا يرى الطبيب الجراثيم، يقول لك المريض: عندي ارتفاع حرارة، معي قيء، معي إسهال، يقول لك الطبيب: معك الجرثوم الفلاني في الأمعاء، قال الله عزَّ وجل:

﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)﴾

[ سورة النحل  ]

من رحمته بنا ترك ربنا عزَّ وجل علامات، أعطانا علامات، علامات للنباتات، علامات للأمراض، علامات للجراثيم، علامات لكل شيء، ﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ الآن سمعنا في الأخبار أنه ستأتي موجةٌ حارة بعد يومين مثلاً، هل يُعَدُّ هذا غيباً؟ لا ليس غيباً، هذا واقع، لكن غيب عندنا، وواقع في بلاد أوروبا، والرياح لها سرعة، فنحن بعد يومين تصلنا هذه الموجة، ليس هذا غيباً بالمعنى الذي استأثر الله به، هذا غيبٌ سمح الله للإنسان أن يكشفه إما بمعرفة سرعة الرياح، أو باتصالات لاسلكية عن طريق الأقمار الصناعية تعرف ما سيكون بعد يومين، هذا ليس من علم الغيب الذي استأثر الله به، هذا من علم الغيب الذي سمح الله به.
أحياناً مسألة رياضيات، تأخذ بعض المُعطيات تصل إلى المجهول، المجهول ليس غيباً، غيبٌ سمح الله أن تعرفه من طريق المعطيات، المسلمات، أحياناً يُسرَق بيت، وهناك من يتعامل مع الجن، ويَكشف الجني لعميله الإنسي أين المسروقات مثلاً، هذا غيبٌ سمح الله به.
 

تَعَرف العقل إلى الله عزَّ وجل عن طريق نظام السببية والغائية وعدم التناقض:


نحن يجب أن نعرف أن هناك عالم الشهود، الواقع المحسوس المادي، وأن لهذا عالم الشهود أدوات لمعرفته، يوجد عندنا حواس خمس، ويوجد عندنا عشرات الأدوات الإدراكية الحسية في الجسم، أما الذي غاب عنا فهو من عالم الغيب، وأهم شيء في عالم الغيب الله جلَّ جلاله،

﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)﴾

[ سورة الأنعام ]

ما دام الكون أحد آثار الله عزَّ وجل، ما دام الكون تجسيداً لأسمائه الحسنى، ما دام الكون مظهراً لأسمائه الحسنى، فالكون من أثر الله عزَّ وجل، ويوجد عقل، والعقل عن طريق نظام السببية والغائية وعدم التناقض يتعرَّف إلى الله عزَّ وجل.
لكن أن هناك جنة وناراً هذه لا تُرى بالاستدلال، أنَّ هناك ملائكة وجناً هذه لا تُرى بالاستدلال، أنَّ هناك صراطاً، وهناك حوضاً، ولوحاً محفوظاً، وإن أصل البشر آدم وحوَّاء، هذا كلُّه من عالم الغيب الذي ليس له آثار فينفعنا عقلنا بها، هذا من عالم الغيب الذي ليس له آثار، أداته الوحيدة الإخبار، الإخبار لا بدَّ من أن يكون صادقاً حتى يكون صحيحاً، فإذا أخبر الله عن شيء فهو حقٌ كأنك تراه لذلك: 

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾

[ سورة الفيل  ]

من منكم رأى ذلك؟ مع أن الله يُخاطبنا، قال: معنى هذه الآية أن الله إذا أخبرك عن شيء فينبغي أن تؤمن به كأنَّك تراه.

﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

[ سورة البقرة  ]

آمنا بالله هناك غيبٌ استأثر الله به لا يعلمه أحدٌ من خلقه، وغيبٌ استأثر الله به، وسمح لبعض الأنبياء أن يعرفوه، فكل أحاديث آخر الزمان، ومجيء سيدنا عيسى، هذه كلها من الغيب الذي سمح الله لنبيِّه أن يَعلَمه، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ وأما الغيب الذي أخبرنا الله به، الإيمان بالملائكة، الإيمان بالجن، الإيمان بالجنة، الإيمان بالنار، الإيمان بالصراط، الإيمان بالحوض، الإيمان باللوح المحفوظ، هذه كلُّها من الغيب الذي غاب عنا، وليس له آثار، لكن الله أخبرنا به.
 

على الإنسان أن يعرف هوية أية قضية تُعرض عليه:


إخواننا الكرام؛ الآن الشيء الدقيق جداً يجب أن تعرف هويّة أية قضيةٍ تُعرض عليك، هذه قضية حِسِّية مرجعها العلماء، علماء الفيزياء، أستاذ أعمَلُ عملية؟ أقول له: ماذا قال لك الطبيب؟ هذه قضية علمية تحتاج إلى طبيبٍ حاذقٍ ورعٍ مسلم، إخبار الطبيب الحاذق الورع المسلم هو الحَسم، هو الفيصل؛ القضية حسية، قضية تُقاس بمقاييس، يوجد ميزان حرارة، يوجد ميزان ضغط، يوجد إيكو للقلب، يوجد مِرنان، يوجد أدوات، يوجد تحليلات، الأمور الحسيِّة لها مقاييس حسية، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)﴾

[ سورة الأنبياء ]

الأمور الغيبية إن كان لها آثار أداتها الوحيدة العقل، نقول: غيبٌ استدلالي، الأمور الغيبية التي ليس لها آثار، وسمح الله أن نعرفها أداتها الأخبار، صار عندنا يقينٌ حسي، يقينٌ عقلي، خبر صادق، وهناك غيب استأثر الله به، فأية قضيةٍ في الدين يجب أن تعرف هويَّتها، من النوع المحسوس أم المعقول أم الإخباري.
 

على الإنسان أن يبتعد عن القضايا الإخبارية أثناء حواره مع الآخر:


أكبر مطب يصيب بعض المسلمين في أثناء الحوار مع غير المسلمين يأتون بقضية إخبارية يجعلونها عقلية، يقول لك: أَثْبِتْ لي أنه يوجد جن؟ لا يوجد معي دليل، أَثبت لي أنه يوجد جهنم؟ هذه قضية إخبارية، ليست قضية حسية ولا قضية عقلية، أنت بعد أن تؤمن بالله، وتؤمن بكلامه أن كلامه حق، أخبرك الله أن هناك داراً آخرة، وهناك ناراً، وهناك جنة، إياك أن تخطئ، القضايا الحسية أداتها الحواس، القضايا الغيبية التي لها آثار أداتها العقل، القضايا الغيبية التي ليس لها آثار أداتها الإخبار، أعلى خبر القرآن الكريم، قال لك: بدأت البشرية بآدم وحواء، لذلك تركل بقدمك كل نظرية علمية أساسها أن الإنسان أصلُه قرد، اركلها بقدمك، لأن أعلى خبر عندنا كلام الله، قضية بدء الخليقة هذه غيب ليس له آثار، طريقه الوحيد الإخبار، أخبرنا أصدق القائلين أنَّ البشر بدؤوا بآدم وحواء، انتهى الأمر.
 

منهج البحث في الإسلام دقة الحواس وصحة الاستدلال وصدق الخبر:


أنا عندي قضايا إخبارية أعتني بصحة الخبر فقط، وعندي قضايا العقلية أعتني بصحة الاستدلال، وعندي قضايا الحسية أعتني بدقة الحواس، دقة الحواس، وصحة الاستدلال، وصدق الخبر؛ هذا منهج البحث في الإسلام، حسية دقة الحواس، فلان يوجد عنده عمى ألوان، هذا أداته فيها خلل، فلان عنده ضعف في الشم لا يستطعم مثلاً، فلان عنده ضعف في خلايا الذوق، المعرفة الحسية أداتها دقة الحواس، والمعرفة العقلية أساسها صحة الاستدلال، كل إنسان فان، علمونا إياها في الثانوي، سقراط إنسان سقراط فان، هذا استدلال عقلي، القضايا الغيبية التي ليس لها آثار أداتها الوحيدة صحة الأخبار، أعلى خبر كلام الله، بعده الحديث المتواتر، بعده الحديث الصحيح ، بعده الحسن، إلى حد هنا يكفي، الضعيف له إشكال.
 

قيمة الإيمان بالغيب:


الآن: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ جيَّد، ما قيمة الإيمان بالغيب؟ آمنت أن لهذا الكون خالقاً، آمنت أن لهذا الكون مسيَّراً، آمنت أن لهذا الكون مربيَّاً، آمنت أن هذا الخالق عظيم، ما قيمة هذا الإيمان إن لم تتصل به؟ أنا أكاد أموت عطشاً، وعلمت أن هناك ماءً عذباً بارداً سائغاً، ما قيمة هذا الإيمان إن لم أتحرك إليِّه؟ الإيمان النظري لا قيمة له إطلاقاً، "العلم ما عُمل به فإن لم يُعمل به كان الجهل أولى" .
 

إقامة الصلاة بعد الإيمان بالغيب:


لذلك بعد الإيمان بالغيب: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ ، الفرض الذي لا يسقط بحال، الشهادة تؤدَّى مرة واحدة، والحج يسقط عن الفقير والمريض، والصيام يسقط عن المسافر وعن المريض، والزكاة تسقط عن الفقير، الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسْقط بحال، يؤدى قائماً، أو قاعداً، أو مضطجعاً، أو بالإيماء، تؤدى الصلاة برموش العين، الفرض الذي لا يسقط بحال لأنك إذا ألغيت الصلاة ألغيت الدين، بين المرء والكفر ترك الصلاة فإن تركها فقد كفر، ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ أنت بأمسِّ الحاجة للمال، وعلمت أن هناك إنساناً عظيماً، وغني، وهو يحب أن يعطيك، ما الذي يمنعك من أن تصل إليه؟ ما الذي يحجزك عنه؟ إن أيقنت أنه يعطيك ويحب أن يعطيك، وأنت في أمسِّ الحاجة إليه، لابدّ بعد أن عرفته أن تذهب إليه. 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110)﴾

[ سورة الكهف ]

ثمن هذه الصلاة: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ ، هذه هي القصة، هذا الدين كله.
 

الدين كلّه يقوم على الإيمان بالله وإقامة الصلاة والإنفاق:


الدين كله في هذه الكلمات الثلاثة: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ أوسع آية بالإنفاق، أعطاك الله جاهاً أنفق هذا الجاه وانصر الضعيف، أعطاك الله علماً أنفق هذا العلم وعلِّم الجاهل، أعطاك مالاً أنفق هذا المال وارحم الفقير، أعطاك حكمةً أصلح بين شخصين، أعطاك عضلاتٍ قوية شُدَّها في معاونة الضعيف، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، يقول لك: أنا طبيب، ممكن أن أعالج الفقراء، بارك الله بك، أنا محلل، ممكن أن أجري تحاليل للفقراء، ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يبذل المحامي اختصاصه، والطبيب يبذل اختصاصه، والمهندس يبذل اختصاصه، والبائع يبذل اختصاصه، والغني يبذل اختصاصه، والعالم يبذل اختصاصه، ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ أنت ما هويتك؟ غني، أنفق من مالك، أنت عالم أنفق من علمك، أنت قوي انصر الضعيف، باب الإنفاق مفتوحٌ على مصارعه كلها، ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ .
 

 العمل الصالح وسيلة الإنسان للاتصال بالله عز وجل:


إخواننا الكرام؛ آية مذهلة، آمنت بالغيب، لأنك آمنت بالغيب لابدّ من أن تتصل بالله عزّ وجل، الوسيلة العمل الصالح، الآية دقيقة، ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ هذا الدين، الدين بسيط جداً، نحن عَقَّدناه، نحن جعلنا الدين عُقَداً، وعقبات، آمن بالله من خلال خلقه، في رأسك عقل، وهناك كون معجز، إذا أعملت العقل قليلاً عرفت أن لهذا الكون خالقاً.
 

من لوازم الإيمان بالله وكتبه ورسله أن نؤمن أن رسالات الله غير منقطعة:


إخواننا الكرام؛ الآن هناك إنجازات علمية مذهلة، ما يحدث في مكان في العالم يراه كلُّ الناس في القارات الخمس، نقل الصورة عن طريق الأقمار الصناعية شيء سهل؟ والملوَّنة، والآن ذات الأبعاد الثلاثة، نقل الرسالة بجهاز، بمجرد أن تضع الرسالة في هذا الجهاز يظهر في أقصى بلاد الدنيا، بالفاكس، هذا الهاتف الخلوي قليل؟ لو أعمَل الإنسان عقله في الكون بجهد واحد بالمليار مما أنجز هذه المنجزات لعرف الله، آمنتَ بالغيب، أقمت الصلاة، ثمن هذه الصلاة الإنفاق، أنفقْ أُنْفِق عليك؛ من هم المتقون؟ الذين اتقوا الخطر، هم: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ الله عزّ وجل خالق الكون، والخلق كلُّهم عياله منذ أن خلَّقهم، وحتى قيَّام الساعة، فلا معنى أن تؤمن أن الله أرسل نبيَّاً لنا وحدنا، قال: لا: 

﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)﴾

[ سورة البقرة ]

نؤمن بالأنبياء جميعاً، نؤمن بالكُتب السماوية كلِّها، نؤمن أن الله لا يدع عباده من دون رسل وأنبيَّاء.

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)﴾

[ سورة الرعد ]

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)﴾

[ سورة غافر  ]

فمن لوازم الإيمان بالله، والإيمان بالكتاب، والإيمان بالنبيَّ أن تؤمن أن رسالات الله عزّ وجل غير منقطعة، على مدار الزمان هناك رسالات، وهناك أنبيَّاء، وهناك هداية، لأن الله عزّ وجل قال: 

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)﴾

[  سورة الليل ]

صار هناك انسجام، ليس إنسان آمن بشيء طارئ ليس له علاقة بما قبله، لا.

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾

[ سورة آل عمران  ]


الإسلام هو الخضوع لله عز وجل:


لـو تتبَّعت آيـات القرآن نـبيَّاً نبيَّاً لوجدت أن الله وصف كل نبي بأنه مسـلم، فالإسلام بالمعنى الواسـع: الخـضوع لله، بالمعنى الضَيِّق: آخر رســالة نزلت على رسول الله، أما المعنى الواسع أي انصياع لله هو الإسلام، حتى فرعون حينما أدركه الغرق قال: 

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس ]

أي أنا خضعت لهذا الوحي الذي جاء به موسى، ولكن بعد فوات الأوان، قال: 

﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)﴾

[ سورة يونس ]

 

المشكلات التي يعانيها المسلمون اليوم نتيجة ضعف إيمانهم باليوم الآخر:


﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ والله أيها الإخوة الكرام؛ في نفسي عن هذه الكلمة معانٍ كثيرة جداً، كل مشكلاتنا التي نعانيها لضعف إيماننا باليوم الآخر، لو أنَّك آمنت أنك سوف تُحَاسب حساباً دقيقاً: 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر ]

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾

[ سورة الزلزلة ]

لا يمكن أن تأخذ ما ليس لك، ولا يمكن أن تعتدي على حق أحد، ولا يمكن لك أن تستطيل على إنسان، ولا أن تَبْتَزَّ مال إنسان، ولا أن تحتال على إنسان، كل ما ترى عينك من معاصٍ يفعلها الناس لضعف إيمانهم باليوم الآخر، أي ثاني أكبر ركن في الدين اليوم الآخر.
 

الإيمان بالله واليوم الآخر يبعدان الإنسان عن معصية الله تعالى:


لا يُعدّ ذكياً الآن مجتمعات قوية تنتهك حُرمات الشعوب، تستغل خيراتها، تعتدي على حُريَّاتها، ماذا يتوهم هؤلاء الأقوياء؟ أنهم أذكياء، وأنهم عندهم العلم، والسلاح الفَتَّاك، والإعلام والمصارف، بمقياس اليوم الآخر أغبياء، وسوف يحاسبون حساباً عسيراً.

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[  سورة إبراهيم ]

لمجرد أن تؤمن أن هناك يوماً، هذا اليوم لن تُغَاَدرُ صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الله عزَّ وجل.

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾

[ سورة الكهف ]

لمجرد أن تؤمن أن هناك يوماً آخر، وأن الله سيَسْأل كل الخلق عن الكلمة، وعن النظرة، من سابع المستحيلات أن تعصي الله.

العاقل والمتفوق من آمن بالله وعمل لليوم الآخر:


﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾

[ سورة البقرة ]

هذا الهدى رَفَعَهم، ﴿على﴾ تفيد الاستعلاء، رفعهم إلى أعلى عليِّين، رفع قدرهم، ورفع مكانتهم، ورفع اسمهم. 

﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾

[  سورة الشرح ]

﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ هم الأذكياء، هم المتفوِّقون، هم العقلاء، هم الناجحون، هم الفائزون.

اتباع منهج الله عز وجل أساس الوِقاية من أخطار الدنيا والآخرة:


إخواننا الكرام؛ هذا المقطع من سورة البقرة يُمَثِّل المؤمنين، لأنك كائن متحرك والسبب الشهوات التي أودعت بك، والشهوات تحتاج إلى منهج، إلى هدى من الله، فهناك خطر كبير أن تنطلق بدافعٍ من شهواتك من دون منهج، هذا الخطر كيف يُتَّقى؟ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ من أراد الوِقاية من أخطار الدنيا والآخرة، من أراد الوقاية من مصائب الدنيا ومن نارِ جهنم فعليه باتباع هذا المنهج، ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ من عند الله ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ .
 

خصائص المتقين:


هؤلاء المتَّقون أولى خصائصهم: يؤمنون بالغيب الذي له آثار عن طريق العقول، وبالغيب الذي ليس له آثار إلا عن طريق الإخبار، وبغيبٍ استأثر الله به لا يعلمه أحدٌ إلا هو؛ الإيمان بالغيب، أي أعظم شيءٍ في هذا الغيب الله جلَّ جلاله، بعد أن آمنت به لابدَّ من أن تتصل به وإلا ليس للإيمان معنى، لو فرضنا أنَّ شخصاً مصاباً بمرض جلدي، علاجه الوحيد التعرض لأشعة الشمس، بقي جالساً في غرفة مظلمة قميئة، فيها رطوبة عالية، فيها عفونة، قال: أنا مؤمن بالشمس، الشمس ساطعةٌ، الشمس مضيئةٌ، الشمس شافيةٌ، لماذا تجلس هنا؟ اخرج من هنا، ما لم تخرج إلى أشعة الشمس ليشفى هذا المرض فكلام فارغ، ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ .
 التقيت مرة في سهرة مع شخص يحمل دكتوراه في العلوم، ودكتوراه في الآداب، وله مؤلَّفات، وذكي، وطليق اللسان، ومتحدث لبق، والله أنا أُعجبت به، قال لي في آخر السهرة: لكن أنا لا أصلي، سبحان الله! سقط من عيني، كل هذا العلم، وكل هذا الفهم، ولا تُصلي؟!﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ كيف؟ الثمن؟ الطريق؟ السبب؟ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ تؤمن فتنفق فتصلي، هذا هو الدين كله.
 

الإيمان بالله يرفع الإنسان ويعلي شأنه ويحفظه:


الدين الذي أنت مؤمنٌ به ليس حلقةً في فراغ، حلقة في سلسلة، أرسل الله عزّ وجل سيدنا عيسى، وسيدنا موسى، وسيدنا إبراهيم، وسيدنا نوح، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ ، ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كل الخلق عباده ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ بالمصير ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ .
البداية: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ وبالنهاية: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى﴾ إيمانك يرفعك، يُعلي قدرك، يرفع شأنك، يعزُّك، يحفظك، ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ دقق، الهدى قيود.

  التقيد بالقيم الدينية يجعلك حراً والتفلُّت منها يجعلك مقيداً محروماً:


يوجد عندك منظومة قيم، هذه حرام، هذه لا تجوز، هذه معاونة على المنكر، المنهج مئة ألف بند، وفي كل بند أمر ونهي، ومباح ومندوب، وسنة مؤكدة، وغير مؤكدة، ومستحب، مع أن الهُدى كله قيود لكنه يجعلك حراً.
 دقق مُواطنٌ ينضبط بكل الأنظمة، حُر، جالس في بيته وهو مرتاح، يحب أن يسافر، يحب أن يقيم، يحب أن يأخذ تأشيرة خروج، يذهب أينما شاء، لأنه مقيد نفسه بالقوانين فصار حراً، أما لو ارتكب أحدهم مخالفة كبيرة لَفَقَدَ حُريَّته، هناك أشياء فيها علاقة عكسية، التقيد بالقيم الدينية يجعلك حراً.

﴿ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)﴾

[  سورة الأحقاف ]

أي أن آخرته إما كآبة، ومرض نفسي، أو في السجن، ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ الهدى يرفعك، والتفلت يسقطك ويضلّك.

الإيمان بالله والاتصال به أساس الوقاية من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة:


أولئك الذين أرادوا الوقاية من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فبحثوا عن المنهج فوجدوه في كتاب الله، فآمنوا بالله غيباً، واتصلوا به عن طريق الإنفاق مما رزقناهم، وآمنوا بسلسلة الرسالات، وآمنوا بالآخرة هذا اليوم الفصل، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فما قولكم إذا كنا ممن تنطبق علينا هذه الآيات؟ والله هذا هو الفوز العظيم، هذا هو العقل، هذا هو التفوق، أن تكون من الصفوة المختارة، ممن رضي الله عنهم، ممن ألقى في قلوبهم الهدى، ممن دلَّهم عليه، هذا هو الفوز، هذا هو النجاح، هذا هو التفوق، هذا هو الفَلاح: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ .
الآيات المكية آيات كونية، قضايا دقيقة جداً مفصَّلة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهذا الدرس، وأن ينقلب إلى واقع، وإلى سلوك، إيمان بالغيب، إنفاق، اتصال بالله، هذا هو الفلاح، وهذا هو النجاح.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور