وضع داكن
01-12-2024
Logo
الدرس : 07 - سورة البقرة - تفسير الآيات 11-16 أعظم أنواع الفساد إفساد العقيدة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 
 

المنافق يَجْهَدُ في الإفساد بأوسع معاني هذه الكلمة:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السابع من دروس سورة البقرة، ومع الآية الحادية عشرة وهي قوله تعالى:

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)﴾

[ سورة البقرة  ]

ذكرت في الدرس الماضي أن الفساد إخراج الشيء عن أصل تركيبه، عن أصل طبيعته، عن أصل جِبِلَّته، فالمنافق يَجْهَدُ في الإفساد بأوسع معاني هذه الكلمة، إفساد البيئة، إفساد العلاقات، إفسـاد النفوس، إفساد الأسرة، إفساد التجارة، إفساد الصناعة، إفساد الزراعة، إفساد العلاقات، إفسـاد الفتاة، إفساد الشاب، إفساد الجيل، إفساد الماء، إفساد الهواء، إفساد ما يُطْبَع، إفساد ما يُنْشَر، إفساد ما يُبَث، الفساد جزءٌ أساسي من سلوك المنافق، لأن شهوته تُروى مع الفساد، ومصلحته تتحقق مع الفساد، والفساد يحقق له نهمه الشديد إلى النزوات التي أودعت في جسمه والتي يُصَرِّفُها بخلاف ما أمر الله عزَّ وجل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ .
الآن هذا المنافق دقق في حياته الخاصة، لو أن عنده آلةً غالية الثمن، عظيمة النفع، كثيرة الربح وتعطلت، إلى من يلجأ؟ هذا المنافق، هذا المُتَفَلِّت، هذا الذي يَرُدُّ منهج الله، هذا الذي يبحث عن منهجٍ أرضي، هذا الذي يرفض طاعة الله عزَّ وجل، لو أن عطباً أصاب آلةً يملكها عظيمة النفع، غالية الثمن، شديدة التعقيد، إلى أين يلجأ؟ يلجأ إلى الخبير، يلجأ إلى الشركة، أو إلى وكلائها، أو إلى تعليمات الصانع، النشرة التي تُرْفق مع الآلة، هو يعتمد في مصالحه الدنيوية على الخبير، يلجأ إلى الخبير، مُرَكَّبٌ في أعماقه أنه لا يجوز أن نتصرف بهذه الآلة إلا وفْق تعليمات الصانع، فلماذا تلجأ أيها المنافق في حلّ مشكلاتك إلى منهجٍ غير منهج الله؟ إلى منهجٍ لا يتعلَّق بالخالق يتعلَّق بالمخلوق؟ لماذا تستشِر من ليس خبيراً في حقيقة الإنسان؟ 
 

الكلمة الجامعة المانعة للمنحرفين الشاردين العصاة كلمة فساد:


قال تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾

[ سورة الكهف ]

وقال: 

﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾

[ سورة لقمان  ]

فالمنافق متناقِض، يلجأ في أموره الدنيوية إلى الخبير أما في أمور الآخرة فهو يلجأ إلى منهجٍ غير منهج الله، لذلك كان الفساد، صمم الله المرأة لكي تكون أماً أو زوجةً أو أختاً أو بنتاً، أرادها المنافق بصفةٍ أخرى، أراد أن يستمتع بها من دون أن يتحمَّل تبعات هذا اللقاء، هو الزواج مسؤولية، هو أراد المتعة ولم يتحمَّل التبعة فزنى، لما زنى أفسد هذه الفتاة، بلا زوج، بلا أولاد، بلا أقارب، ما دام فيها رمق تأكل بثدييها -إن صح التعبير-فإذا زوت محاسنها أصبحت ملقاةً في الطريق، ألم يفسدها؟ انظر إلى امرأةٍ ساقطة عندما ترى بعينها امرأةً مؤمنة تذوب كالشمعة تمنّياً أن تكون كهذه المرأة الشريفة، من الذي أفسدها؟ المنافق، أفسد فتاةً، أفسد شاباً دلَّه على الانحراف، أفسد عقلاً حين أودَعَ فيه الشبُهات، أفسد علاقةً باعد بين الزوجين، أفسد علاقةً باعد بين الشريكين، أي الكلمة الجامعة المانعة للمنحرفين الشاردين العصاة كلمة الفساد، العلاقة فاسدة، الأمور فاسدة.
كلما أخرجنا الشيء عن قواعده، عن أصل بنائه، عن خصائصهِ، عن وصفه الطبيعي أفسدناه، والشيء الفاسد لا يصلحه إلا الخبير، إلا العليم، إلا الحكيم، فهؤلاء المنافقون يعملون ليلاً نهاراً لإفساد كُلِّ شيء، أحياناً يصنع مادةً فاسدة يبيعها ولا يعبأ، لولا المراقبة الشديدة لأكل الناس سموماً، لكن هناك مراقبة شديدة، طواعيةً لا يصلح إلا بالقهر، فلباع بضاعةً فاسدة، لباع دواءً فاسداً، لابْتَزَّ أموال الناس لأنه فاسد، هدفه المال والمال بأي شكل وبأي طريق. 
 

أعظم أنواع الفساد أن تُفْسِد العقيدة:


﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ كم حرفة مَبْنية على معصية؟ مبنية على مخالفة منهج الله كم حرفة؟ مئات الحرف، هذه المقاصف وما فيها من موبقات ومن خمور ومن تَبَذُّل، هذا مبني على معصية، فلذلك موضوع الفساد موضوع طويل جداً، أنت حينما تُفسد الماء فهذا من صفات المنافق، تفسد الهواء، تفسد البيئة، تفسد المزروعات، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ والحقيقة أعظم أنواع الفساد أن تُفْسِد العقيدة، أن تُفسد دين الإنسان، أن تُعَلِّقَهُ بأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، أن تُعلقه بشفاعةٍ ساذجة. 

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))

[ صحيح  البخاري ]

لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، أن تُعَلِّقَهُ بحديثٍ موضوع، أن تعلقه بحديثٍ ضعيف، أن تعلقه بتأويلٍ غير صحيحٍ لآيات الله، أن تأتيه بقصص لا أصل لها في الدين، أن تأتيه بِقِيَم رفضها الإسلام، لذلك لو استمعت إلى منافق تجد أن كل كلامه غلط، كلامه، منطلقاته، أهدافه، اعتماداته، أدلته كلها غلط، ليست إسلامية، ليست دينية، ليست مشروعة، يأخذ من هذا كلمة، ومن هذا كلمة، ومن هذا تعليق، ومن هذا حكمة، ومن هذا مقياس، بلا ضوابط، المؤمن واضح، واضح وضوح الشمس. 
 

وصف الله عزَّ وجل الكُفَّار بوصفٍ معجز:


﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يَرْكب رأسه، ويُصِّم أذنيه عن سماع التوجيه الصحيح، ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ مُصلِح بنظره، أي كسب المال هو الصلاح عنده، فإذا كان كسب المال أساسه إفساد العلاقات، دخله قليل، يؤجِّر بيته تأجيراً لا يُرضي الله، يقول لك: بالليلة عشرة آلاف، بالليلة عشرون ألفاً، علما أن أجرة النوم في أفخر فندق خمسة آلاف، معنى ذلك أنه يوجد مشكلة بالبيت، ليست قضية نوم، أنت تعرف من السعر، يجيبك: أنا ليس لي علاقة، أنا أريد أن أربح، فلذلك قضية الفساد قضية واسعة جداً، فحركاته، سكناته، حتى لو زار شقيقته يُفسد علاقة أخته بزوجها بكلمة شيطانية لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً، بتعليقات غير صحيحة، بنظرة، بنقدٍ مُرٍّ حادّ.
فيا أيها الإخوة؛ حركة المنافق حركة فساد، حركة إيقاع بين الناس، حركة تقطيع علاقات، حركة قطع ما أمر الله به أن يوصل، حركة تغيير معالم الشيء، وصف الله عزَّ وجل الكُفَّار بوصفٍ معجز، قال: 

﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)﴾

[ سورة الأعراف  ]

الأمور كلها معْوَجَّة، غير صحيحة: ﴿يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ .
 

صفة المؤمن الأساسية الإصلاح وصفة المنافق الأساسية الفساد:


لذلك أحد أكبر صفات المؤمن الإصلاح، يصلحون إذا فسد الناس، أحباب النبي عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان يُصلحون إذا فسد الناس، إذا سألتني عن صفة أساسية للمؤمن قلت: الإصلاح، التوفيق، التقريب، الجَمع، النصيحة، الرحمة، الإنصاف، العدل، إن سألتني عن صفة أساسية في حياة المنافق قلت: الإفساد، طبعاً تحت غطاء، نحن فرضاً ننشئ نادياً للقمار بكلفة خمسين أو ستين مليوناً، يقول لك: يدر علينا دخلاً كبيراً، فالإله هو المال، أي شيء يجلب المال صار بجهله إصلاحاً، مصلحة مبنية على المعصية، يقول لك: هذه مصلحة رائجة الآن يا أخي، يبدِّل مصلحته فوراً إلى مصلحة أو إلى حرفة أساسها الإفساد إفساد الشباب، يقول لك: هذه أربح، يقول لك: أليس العمل عبادة؟ تكون حرفته غلط كلها، فساد كلها، يعُدّ العمل عبادةً!! فقضية الفساد صفةٌ جامعةٌ مانعةٌ للمنافق، حتى في بيته، حتى في تَبَذُّله في البيت، حتى في إلقاء نظراته، نظراته خبيثة، ثيابه بعيدة عن الحشمة، امرأةً كانت أو رجلاً: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ هو يرى الصلاح بكسب المال، يرى الصلاح بتحقيق المتعة، يقول لك: أنا أستخدم فتيات لأنهن أكثر إيناساً، وأقل مَؤونَةً، وأكثر طواعيةً، وأحفظ سراً، عنده ميزات، والناحية الثانية يُغْفِلُها، هذا الشاب الذي ينتظر عملاً ليتزوج صار الطريق مسدوداً أمامه. 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)﴾

[ سورة البقرة  ]

طبعاً لا يشعر، هو في أعماقه يشعر أنه فاسد، ولكن لا يشعر أن هذا العمل له آثار قد لا تَخْطُر في باله.
 

الهدف عند المنحرفين أن تفسد من أجل أن تربح:


قال تعالى: 

﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)﴾

[ سورة يس ]

فرضاً من باب الجدل، لو أن إنساناً أفسد فتاة، يجهل أنه أفسدها، وأخرجها عن طبيعتها، وعن قوامها الذي أراده الله لها، هي زوجة طاهرة تنجب أولاداً، فَلِذة أكبادها، فلما أفسدها أخرجها عن طبيعتها، وجعلها تمتهن الانحراف، هو لا يشعر أنه بعد مئة عام قد يأتي من نسلها مئة ألف، مئة ألف فتاةٍ فاسدة، كلها في صحيفة هذا الذي أفسد الأولى، هذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ لو اطّلع الإنسان على الآثار الوبيلة التي يتركها عمله لارتعدت فرائصه، كل هذا محاسبٌ عليه، يسُنُّ الإنسان أحياناً سنةً سيئةً فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، حتى هذا الذي اخترع البارود، نوبل، شعر بجريمته بعد أن اخترع البارود فرصَدَ كل أمواله كجائزة سنوية لمن يُقَدِّم أعظم بحثٍ يعود على الإنسانية بالخير.
فلذلك أيها الإخوة، الحديث عن الفساد حديث طويل، الهدف أن تفسد من أجل أن تربح، طبعاً الإفساد من أجل أن تربح المال، أو أن تنغمس في الشهوة، الهدف إما ربح مال، والمال مادة الشهوات، أو يوجد تحقيق لذَّة دنيا سفلى، فإما أن يتمتَّع، وإما أن يكسب المال، ومن أجل هذين الهدفين يفعل كل شيء، ويُفسد كل شيء، ويحرِف كل شيء، ويزوِّر كل شيء، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ يركبون رؤوسهم، يتعنَّتون. 
 

قصص من العالم عن انتشار الفساد بما كسبت أيدي الناس:


لكن الله سبحانه وتعالى قوله الحق: 

﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)﴾

[ سورة البقرة  ]

مثل مشهور بأوروبا وأمريكا أن شاباً رأى فتاةً فأعجبته، فاستشار أباه، قال له: لا يا بني إنها أختك، وأمك لا تدري، ثم رأى فتاةً أخرى فاستشار والده، قال: لا يا بني إنها أختك، وأمك لا تدري، ثم أعجبته فتاةٌ ثالثة، فاستشار أباه، فقال له: القول السابق، فضَجِر، حدَّث أمه فقالت: يا بني خذ أياً شئت، فأنت لستَ ابنه، وهو لا يدري، هكذا الحياة، أحياناً يأتي خبير يقيم سنتين ثم يدعو أصدقاءه لحفل بمناسبة أنه رُزِق مولوداً، أنت مقيم هنا منذ سنتين!! لا يهم، لكن جاءه مولود من زوجته، هكذا الحياة، حياة فوضى، أطول زواج يستمر سنتين بعالم الفساد. 

﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾

[ سورة الروم ]

ذكرت لكم هناك شركة كمبيوتر من أرقى الشركات في أمريكا زَفَّت بشرى إلى عُمَّالها وموظفيها أن من كان له شريكٌ مِثْلي، شريكٌ جنسي، أو موظفةٌ لها شريكةٌ جنسية يُعَدُّ هذان الكيانان كيان أسرة، ويستحقُّ الشريكان الأولان والأخريان التعويضات والإجازات والمكافآت، كما لو أنشأا أسرةً، تُعدّ الكيانات الشاذة المنحرفة الآن كيانات صحيحة، هذا هو الفساد.
أجري برنامج في بعض الولايات عن الزنى، فجاء هواتف؛ ملخَّص هذه الهواتف أن ثُلث حالات الزنى زنى محارم، وهذه ظاهرة خطيرة جداً، هذا هو الفساد، فساد علاقات، إباحية، اختلاط أنساب، قد يأخذ الطبيب غير المنضبط حوينات من رجل، يعطيها لامرأة أخرى تنجب، وتسعد بهذا الابن، وهو ليس من زوجها، من زوجٍ آخر، اختلاط أنساب، علاقات، إباحية، هذا هو العالم الغربي اليوم، يقولون: أُلْغِيَ الرقيق، هناك الآن رقيق أبيض، هناك بحوث لا تصدق شركات عملاقة في العالم تشتري الفتيات والصغار من شرق آسيا، وتبيع هذا لأشنع الأعمال وأَخَسِّ الأعمال في بلاد الغرب الغنية، هذا الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
 

الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع فكل ما يَدْعَمها ويقوِّيها هو إيمان:


الحديث عن الفساد طويل جداً، قال الله عزَّ وجل: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ هناك فساد في كل مكان، تركب طائرة تجد فساداً، كلما كانت هذه التي تقدم الخدمات أكثر تفلُّتاً كانت الشركة أكثر رواجاً، تُقدم المشروبات في الجو، في البر، في البحر، في الفنادق، ما معنى فندق الآن بالمفهوم العصري؟ هناك مصطلح جديد اسمه: السياحة الجنسية، يسافر من أجل الجنس أليس هذا فساداً؟ بارت سوق الزواج، وراجت سوق الفساد، وهذا مما يُرضي المنافقين، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ لذلك دعم الأسرة إيمان، وتحطيم الأسرة نِفاق، أي إجراءٍ يَدْعَم الأسرة ويقوِّيها إنها اللبنة الأولى في المجتمع، وأي إجراءٍ يضعفها، يزلزلها، يفككها، هذا عمل من أعمال المنافقين، وهذا هو الفساد، والحديث عن الفساد حديث طويل جداً، كم من بيتٍ تَهَدَّم بفعل الفساد؟! كم من علاقةٍ تحطمت بفعل الفساد؟! كم من مالٍ أُهْدِر بفعل الفساد؟! كم من ضياعٍ مخَرِّبٍ بفعل الفساد؟! والفهم كفاية، الإنسان يتعلَّم حرفاً والتكرار ألف: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ .
 

أروع ما في المؤمن عدم التناقض الذي نجده عند المنافق:


ربنا عزَّ وجل يقرر، وكلامه هو الحق: ﴿هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ النتائج الخطيرة المترتبة على فسادهم هذا :

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)﴾

[ سورة البقرة  ]

أروع ما في المؤمن عدم التناقض، هنا يوجد تناقض، كيف يوجد تناقض؟ هُم يخادعون الله والذين آمنوا، يخادعون الذين آمنوا بقولهم إنهم مؤمنون، إذاً: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ إذا كنتم تعدون الإيمان سفاهةً فلماذا تخادعون المؤمنين بأنكم مؤمنون؟ ولكنه مُركبٌ في أعماق الإنسان أن الإيمان هو الصح، وأن الكفر هو الخطأ الكبير.
 

الوقت هو وعاء كل شيء فإذا أُلْغي هذا الوعاء انتهى كل شيء:


﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ من هو السفيه؟ هو الذي يُضَيِّع النفيس ويأخذ الخسيس، فإذا أتلف إنسان ماله فرضاً، أو أنفق ماله إنفاقاً غير معقول نسميه سفيهاً، والسفيه يُحْجَرُ عليه، أيهما أثمن؟ والآن كلام دقيق، من هو السفيه الحقيقي؟ أنت الآن إذا رأيت إنساناً يمسك مئة ألف ليرة عدَّها أمامك، ثم جاء بعود ثقاب فأحرقها أمامك، ثم ألقى الرماد في سلة المهملات، كم تعتقد أنه مجنون أو أنه سفيه؟ مئة بالمئة، مثل هذا الإنسان الذي يُحْرِق مئة ألف يُحْجَر على تصرفاته لأنه سفيه، قد يكون الإنسان أحياناً مصاباً بمرض، وهناك عمليةٌ جراحية معقدةٌ جداً، باهظة التكاليف، تُجْرى في بلدٍ بعيد، كُلفة هذه العملية ثمن بيته، يبيع بيته ليجري عمليةً يتوهَّم أنها تُمِد له بضعة سنوات في عمره، لماذا فعل هذا؟ لأنه مركبٌ في أعماقه أن الوقت أثمن من المال، ضَحَّى بالمال من أجل الوقت.
إذا أتلف الإنسان أمامك مئة ألف تعده سفيهاً، فإذا ضيَّع الوقت أمامك ألا يُعدّ أشدّ سفاهةً؟ بالتأكيد، أخطر شيء أن تُمضي سهرة إلى الساعة الواحدة؟ بماذا؟ بمتابعة مسلسل؟ شيء سخيف، بمتابعة قصة فارغة؟ بمتابعة حديث فارغ؟ بلعب النرد؟ هذا الذي يقتل وقته، أنت وقت، أنت بضعة أيام فقط، كلما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منك، أثمن شيء تملكه هو الوقت، طبعاً أثمن من المال بما لا يُقَدَّر، ماذا يفعل الإنسان بالمال عندما تنتهي حياته؟ لو ترك ألف مليون انتهت حياته، الوقت وعاء كل شيء فإذا أُلْغي هذا الوعاء انتهى كل شيء، مركبٌ في أعماق كل منا أن الوقت أثمن من المال، فالذي يُتلف ماله يُعَدُّ سفيهاً، والذي يُضَيِّع وقته يُعد أشدّ سفاهةً.
 

قيمة الإنسان في آخر الزمان بقيمة متاعه فقط لا بإيمانه ولا بأخلاقه:


 ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ ولعلهم يتوهمون أن الفقراء هم السفهاء، هنا السفهاء في رأيهم تعني أنهم الفقراء، مقاييسهم ماديَّة محضة، يُقَدِّرون الإنسان بحجم ماله، بمساحة بيته، بموقع بيته، بنوع مركبته، بالرقم الذي على خلف المركبة، أي رقم؟ يوجد ستمئة، يوجد خمسمئة، فحجم الإنسان بحجم متاعه، وقيمة الإنسان في آخر الزمان بقيمة متاعه فقط، لا بإيمانه، ولا بأخلاقه. 
كان الأحنف بن قيس إذا غضب غَضِبَ لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيما غضب، مع أنه كان قصير القامة، أسمر اللون، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، أحنف الرجل، ضَيِّق المَنْكِبَين، ومع ذلك كان إذا غَضِب غَضِبَ لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيما غَضِبْ، فقيمة الإنسان بإيمانه، وأخلاقه، وعمله، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ غاص إنسان في البحر، وتَجَشَّم المشاق، ورأى اللآلئ أمامه تركها وأخذ الأصداف ألا يُعَدُّ سفيهاً؟ 

  صفات المنافقين كما وردت في القرآن الكريم:


هذا الذي يأتي إلى الدنيا، ويخرج منها وما فعل شيئاً، إلا أنه أكل، وشرب، ونام، واستمتع فقط كالبهائم. 

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾

[ سورة الفرقان  ]

قال تعالى: 

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)﴾

[  سورة المنافقون  ]

وقال: 

﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)﴾

[ سورة المدثر ]

وقال: 

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾

[  سورة الجمعة  ]

وقال: 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾

[ سورة الأعراف ]

وقال: 

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾

[ سورة الفرقان  ]

هذه صفات المنافقين في القرآن الكريم، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ .
 

كل إنسان يعصي الله مدموغٌ بالجهل والكفر:


لو ذهب إنسان إلى بلد غربي لكي يحصل على الدكتوراه، وموعود أن يعود إلى بلده ليتقَلِّد أعلى منصب، ويأخذ أجمل بيت، بكل الميِّزات، فنسي مهمته الأساسية، وتَسَكَّع في الطُرقات، وانْدَسّ في الملاهي وعُلَب الليل حتى أصبح متسولاً، ألا يُّعد هذا سفيهاً؟ مُهَيَّأ له أن يكون في أعلى منصب، وفي أعلى درجة، وفي أعلى ميزة، ترك كل هؤلاء وانصرف إلى سفاسف الأمور، قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ لذلك المجنون من عصى الله.
هذا الذي يعصي الله، ولا يعبأ بالموت، ولا يعبأ بما بعد الموت، ولا بالحساب، ولا بالبرزخ، ولا بالجنة، ولا بالنار، يعيش لحظته، يعيش لذَّته، يقتنص المال بأي طريق، بأي أسلوب، هذا سفيه، هذا أحمق، لذلك يُعدّ المنحرف أحمقَ، قال الإمام الغزالي: "يا نفس لو أن طبيباً حذَّرك من أكلةٍ تحبِّينها لا شَكَّ أنَّك تمتنعين، أيكون الطبيب أصدق عندك من الله؟ إذاً ما أكفرَك! أيكون وعيدُ الطبيب أشدَّ عندك من وعيد الله إذاً ما أجهلك!" فكل إنسان يعصي الله مدموغٌ بالجهل وبالكفر.
 

حياة المؤمنين واضحة جداً لا يوجد عندهم شيء يستحيون به:


قال تعالى: 

﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)﴾

[ سورة البقرة  ]

لقوا: في الطريق، في مكان عام، في مسجد، تحت ضوء الشمس، ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾
يكون الإنسان جالساً أحياناً في بيته مع زوجته، يُطرق الباب يفتح الباب بهدوء وبراحة وبشكل طبيعي وبشكل عفوي، فإذا شقيق زوجته، أهلاً وسهلاً تفضل، جلسا يتحدثان، تُقَدَّم له ضيافة، شيء طبيعي جداً، لأن هذا شيء مشروع، هذه زوجته، كان عليه الصلاة والسلام معتكفاً جاءته امرأته بطعام، فلما أرادت أن تعود رافقها عليه الصلاة والسلام، مرَّ صحابيان فاستحيا من رسول الله فأسرعا، قال: 

(( فعن صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكُمَا - أي تمهلا وقفا-إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ!! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا. ))

[ متفق عليه ]

(( عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ : قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ . ))

[ أحمد وابن ماجة: صحيح الجامع الصغير ]

تجد عرساً، سيارات، وأبواق السيارات، شيء علني ومكشوف، يتزوج الإنسان فتحمل زوجته، يفرحون ويهيئون، تنجب هذه الزوجة، تُقام الأفراح، تُقدَّم الهدايا، شيء مكشوف واضح، أما لو أن إنساناً يجلس مع زوجة صديقه دون علم صديقه في خلوةٍ في بيته، طُرِق الباب فذهب ليفتح فإذا صَديقه، يضطرب ماذا يفعل؟ يطفئ الأنوار، قال له: من؟ هناك صوت!! هل هناك باب آخر ليخرجها منه؟ لا يوجد باب آخر، أين يخبِّئها؟ ماذا يقول لزوجها؟ كل هذا الاضطراب، كل هذا الخوف، كل هذا الارتباك لأنه شيء محرَّم. 
 

الباطل يحتاج إلى خَلوة:


﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ انظر: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ لقاء في مكان عام، في مسجد، في الطريق، في مجتمع، في مدرسة، في مستشفى، حياة المؤمنين واضحة جداً، لا يوجد عندهم شيء يستحيون به، لا يوجد عندهم جلوة وخلوة، علانيَّتهم كسريرتهم، جلوتهم كخلوتهم، خلوتهم كجلوتهم، الأمور واضحة: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ أما الباطل فيحتاج إلى خَلوة، ممكن الإنسان يغش الحليب أمام الشاري؟ مستحيل، يتم الغش في خلوة، في غرفة ثانية، في مكان مظلم، كل شيء منحرف يحتاج إلى خلوة، أما كل شيء صح فلا يحتاج إلى خلوة، تفعله على مرأى الناس جميعاً، تفعله وأنت مطمئن، الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يَطَّلع عليه الناس، كل شيء تستحي به فهو باطل وكل شيء لا تستحي به فهو حق، لذلك: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ توجد خلوة مع الشياطين، يوجد سر، أبواب موصدة، كلام بصوت منخفض، شيء غير معقول، حياة المؤمن واضحة، حياة المؤمن معروضةٌ على الملأ، حياته في رابعةِ النَهار، تحت ضوء الشمس، الحق لا يخشى البحث، لا يُستحيا به، لا يحتاج أن تكذب له ولا أن تكذب عليه، ولا أن تبالغ فيه، ولا أن تُضَخِّمَهُ، ولا أن تقلل من خصومه: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) .
 

العمل المشروع لا يُستحيا به ولا تضطرب معه أما العمل غير المشروع فعلى العكس:


أما الأعمال المنحرفة، الخيانات، المؤامرات، هذا كلُّه يحتاج إلى خلوة، وإلى همس، وإلى غمز، وإلى لمز، وإلى مراقبة الطريق، كهذا الزوج الذي يجلس مع زوجة صديقه في خلوةٍ محرمةٍ، يُفاجئهُ زوجها، أين يضعها؟ أين يُخبِئها؟ من أيِّ بابٍ يدفعها؟ فإذا أراد أن يدفعها يراقب هل هناك أحد في الطريق؟ لمَ هذا الاضْطراب؟ لمَ هذا الخوف؟ لمَ هذا الوَجَل؟ لمَ هذه الاحتياطات؟ لأن العمل غير صحيح، غير مشروع.
يمشي الإنسان أحياناً مع زوجته هادئ البال، أما لو أن شاباً يمشي مع فتاةٍ، وسَمِعَتْ همساً ترتعد فرائصها، لعله أبوها، لعله أخوها، هكذا، فالعمل المشروع لا يُستحيا به، لا تضطرب معه أبداً، لا تخاف أبداً، أما العمل غير المشروع، مرة جاء شخص مع فتاة، فقال له الموظف: من هذه؟ قال له: معي، قال له: من هذه؟ أين دفتر العائلة؟ زوجتك؟ قال له: معي، كيف معك؟ طرده طبعاً، أما الذي اصطحب زوجته يُقال له: تفضل، لا توجد هناك مشكلة، طبعاً هذه أمثلة، ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ هذا المنافق، شخصية مزدوجة، كأن معه انفصام شخصية، مؤمن مع المؤمنين، معنى هذا أنه ممثل، من هو الممثل؟ قد يكون أفسق إنسان يمثل أحياناً دور صحابيّ، طُهر، وهدوء، ووقار، وحوقلة، وبسملة، ولا إله إلا الله، هذا كلُّه تمثيل: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ .
 

وصف دقيق للشقي كما ورد في القرآن الكريم:


دقق، أول آية: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ ، ثاني آية: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ ، ثالث آية: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ ، كلام خالق الكون، كلام قطعي: 

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[ سورة الأحزاب ]

القضية منتهية، من هو الشقيّ؟ الذي وصمه الله بأنه فاسق، وصمه الله بأنه سفيه، وصمه الله بأنه مُفْسِد. 
 

العبرة بالعاقبة:


لذلك أيها الإخوة؛ عَلَّم أحد علماء الحديث تلميذاً له الأحاديث الموضوعة أولاً كي يَحْذَرها، وهذا الوصف الدقيق هؤلاء هم المنافقون، أولاً: مفسدون، ثانياً: سفهاء، ثالثاً: عندهم ازدواج شخصية: 

﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)﴾

[ سورة البقرة  ]

يرفع الله عزّ وجل قدر الإنسان، وأحياناً يَفْضَحُهُ: 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)﴾

[  سورة الحج ]

مما ورد في الأثر: ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم.
فالعبرة بالنهاية، العبرة بالعاقبة، العبرة لمن يضحك أخيراً.
 

حينما ترى الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره:


﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ دقق: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ هذه سُنَّة الله في خلقه، أنت إنسان مخيَّر، ولابدَّ من أن تأخذ أبعادك كلَّها، ولابدَّ من أن يسمح لك أن تصل إلى نهاية الطريق، إلى هنا، إلى هنا حدود الفساد، إلى هنا حدود الانحراف، لابدَّ من أن يُرْخي لك الحبل، لذلك حينما ترى الله يُتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره، هناك قصم، إذا وُجِدَت النعم، وُجِدَت القوة، وُجِدَ المال، وُجِدَت الوسامة، هناك انحراف، هناك كفر، هذا الإنسان يحتاج إلى ضربةٍ واحدة: 

﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)﴾

[ سورة يس ]

عندما يُعَالج ربنا عزّ وجل الإنسان بالتدريج هذه نعمةٌ عظمى، عندما يتابعه يُحاسبه على ذنوبه ذنباً ذَنباً, خطيئةً خطيئةً، هذه نعمةٌ كبرى، عندما يغلط الأخ الكريم المؤمن فيأتي العقاب فوراً هذه نعمةٌ ما بعدها نعمة، أي أن الله سبحانه وتعالى يتابعك، ويربِّيك، أما حينما يتابع الإنسان كل المعاصي، والانحرافات، والله عزّ وجل لا يعالجُهُ، هذه علامة خطيرة جداً، أنه سوف يقْصم قَصْماً. 
 

كل إنسان تحت ألطاف الله عزّ وجل:


﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ يُمَدُّ له، يُرْخى له الحبل، لكن دقق في أية لحظة الإنسان في قبضة الله، بأية لحظة تنقلب حياته إلى جحيم، بأي لحظة ينقلب أمنه إلى خوف، خوف مدمِّر، في أية لحظة ينقلب غناه إلى فقرٍ شديد، في أية لحظة تنقلب قوته إلى ضعفٍ شديد، الله هو القوي يقوي الإنسان، وفي أية لحظةٍ يضعفه، الله هو الغني يغني إنساناً وفي أية لحظةٍ يفقره، الله عزّ وجل يُمِدُّ الإنسان وفي أية لحظة يأخذ منه، الإنسان تحت ألطاف الله عزّ وجل، ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ معنى ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ يحتقر عملهم، يحتقر سخافتهم، أحياناً الإنسان بسذاجةٍ، وضيق أفقٍ، وجهلٍ فاضح يظُنُّ أنه إذا خدع الناس فهو ذكي، أنه إذا خدعهم، وأقنعهم بشيء، وهو على خلاف ذلك فهذه حِنْكة ما بعدها حنكة، هذا حَمقٌ ما بعده حمق، علاقتك بالله، وأنت عند الله مكشوف، وهؤلاء الذين تَخْدَعُهم وتوهمهم لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، ولا حياةً ولا نشوراً، تخدع إنساناً ضعيفاً، تصوروا إنساناً عمره أربعون سنة، أمامه طفل فرضاً عمره خمس سنوات يحاول أن يقنعه أنه غني، إذا أقنعتَه أو لم تُقنعه ماذا سيفعل هذا الطفل أمامك؟ شيء لا يُصدَّق، فكل إنسان ينسى الله، ينسى أن الله يكشفه، ينسى أن الله مُطَّلعٌ على سرائره ويخدع الناس، إذا توهَّم أنه حاذقٌ ومُحَنَّك فهو أحمق، لأن هذا الذي تخدعه لا يملك لك نفعاً، ولا ضراً، ولا حياةً، ولا نشوراً، ولا رزقاً، ولا أمناً.
 

سيد الخلق لا يعلم الغيب ولا يملك لكم نفعاً ولا ضراً:


يأمر الله عزّ وجل النبي أن يقول لقومه: ﴿قُلْ﴾ ليس شخصاً عادياً، سيد الأنبياء والمرسلين: 

﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)﴾

[ سورة المائدة ]

أبلغ من ذلك: 

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)﴾

[ سورة يونس ]

وقال: 

﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)﴾

[ سورة الأنعام ]

سيد الخلق لا يعلم الغيب، وسيد الخلق لا يملك لكم نفعاً ولا ضراً: ((يا فاطمة بنت محمد، يا عباس عم رسول الله، أنقذا نفسيكِما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئاً، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه)) .
 

الله تعالى بيده كل شيء:


دقق في هذه الفكرة: أنت من تخدع؟ هذا الذي تخدعُه عبدٌ مثلك لا يملك لك شيئاً، والذي تتجاهله هو الله بيده كل شيء، بيده مقاليد أمرك: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ يَحْتقر عملهم، لأن عملهم سيحجبهم عن مصدر السعادة، سيحجبهم عن الجنة، سيمنعهم من التمتُّع بالقرب من الله عزّ وجل: 

﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)﴾

[ سورة البقرة  ]

العملية في النهاية عملية تجارية، يعيش الإنسان في الدنيا سنواتٍ معدودة فيطيع الله عزَّ وجل، ويلتزم بما أمر، وينتهي عما عنه نهى وزجر، فيستحق دخول الجنة إلى أبد الآبدين، تماماً كإنسان اشترى شيئاً بدراهم معدودات باعه بملايين مملينة، تاجر: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)﴾

[ سورة الصف ]

 

الخاسر الحقيقي هو الذي خسر الآخرة:


التجارة رأس مال ومبيع وربح بينهما، أما مع الله عزّ وجل الشراء بدرهم، والمبيع بمئة مليون، خلقنا الله عزّ وجل لنربح عليه، هؤلاء المنافقون الذين خَدعوا المؤمنين، وفسدوا، واستهزؤوا، وقالوا: هم سفهاء، هؤلاء المنافقون خسروا في تجارتهم، عاشوا سنوات معدودة، لعلهم كانوا في بحبوحة، لعل المال الكثير جاء إليهم بسبب نفاقهم، ولكنهم خسروا الآخرة، ما ربحت تجارتهم، تنعّموا لسنواتٍ معدودة وضيَّعوا الأبد كلَّه، قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ المعنى المخالف أن المؤمن ربحت تجارته، أحد الصحابة كان في طريقه إلى المدينة فيبدو أن الكفار كَمَنوا لهم، أرادوا أن يصرفوه عن الهجرة، قال لهم: خذوا كلَّ مالي في بلدي في مكة، دَلَّهم عليه فأطلقوا سراحه، خذوا كل مالي، خَبَّأ ماله في مكان معين في البيت، قال لهم: مالي في المكان الفلاني خذوه ودعوني، فتركوه، فلما وصل المدينة أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، ماذا قال النبي؟ قال: ربحت التجارة أبا يحيى، ربحت تجارتك، ضَحَّى بماله كلّه من أجل أن يصل إلى النبي، ربحت تجارتك.
فأنت وازن بين الدنيا والآخرة بعقلية تجارية، إنسان كسب الدنيا وقد يكسب مالاً وفيراً، ومكانةً عليةً، وبيتاً واسعاً، ومركبةً فارهةً، ويخسر الآخرة، ربح أم خسر؟ أكبر خسارة: 

﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)﴾

[ سورة الشورى  ]

من هو الخاسر الحقيقي؟ الذي خسر الآخرة، أما هذه الدنيا مهما تكن مُتْعِبة، مهما تكن شاقة، مهما تكن المعيشة فيها خَشِنةً، لكنها تمضي ويبقى المؤمن إلى الأبد في جنةٍ عرضها السماوات والأرض. 
 

الموت عرس المؤمن وهو نقلة نوعية من دار متعبة إلى دار النعيم:


وازن بعقلية تجارية بين الدنيا والآخرة، ألم تدخل إلى بيوت ثمنها ملايين وأصحابها تحت أطباق الثرى؟ ألا يرى الإنسان الجنائز؟ هل هناك إنسان يمكن أن ينجو من ألا يُصلَّى عليه في المسجد؟ أبداً، لابدَّ من يوم تدخل فيه المسجد أفقياً ليُصلَّى عليك، لا ينجو أحد،  كلمة كتبت على محل تجاري: "صَلِّ قبل أن يُصلَّى عليك" ، إذا استعمل الإنسان عقله، وفكَّر في الدنيا الزائلة، لا يوجد ضمانة، الآن توجد أخبار يومية عن حدوث جلطة في عمر الخامسة والعشرين! هذه الأزمات التي كانت تأتي بالستينات، بالسبعينات، أصبحت تحدث بسن الخامسة والعشرين، بالخامسة والثلاثين، شاب في مقتبل العمر مات، لا تملك من ضمانة إلا طاعة الله عزّ وجل، فالمؤمن يصطلح مع الله، ويطيعه، ويُسَلِّم أمره إليه، ومتى يأتي الموت فهو تحفته، والموت عرس المؤمن، والموت نقلة نوعية من دار متعبة إلى دار النعيم، من دار المرض، والقلق، والهم، والحزن، والمشكلات إلى دار لا شيء يُنَغِّصُ الحياة فيها: 

﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)﴾

[ سورة الفرقان  ]

 

تجارة المؤمن رابحة أما تجارة الكافر فخاسرة:


وغير المؤمن: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ عملية تجارية، أنت بسنوات محدودة، إذا قلنا لشخص: تمتع بمئة مليون خلال سنة، وسوف تدخل إلى السجن لتمضي عشر سنوات مع التعذيب، هل يقبل هذا؟ لا أحد يقبل، سنة تمتع، وعشر سنوات تعذيب، لا يقبل، كيف إذا كانت الدنيا من الآخرة ليست بشيء؟ كلمة أبد لا أحد ينتبه لها، إذا كان رقم واحد في الأرض وأصفار إلى الشمس، وبين الأرض والشمس مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر وكل ميلي متر صفر، ما هذا الرقم؟ هذا الرقم إذا قيس باللانهاية قيمته صفر، تصور الرقم واحد بالأرض، وأمامه مئة وستة وخمسون مليون أصفاراً، كل ميليمتر صفر، لو إلى المريخ؟ لو إلى المشتري؟ هذا الرقم إذا قيس باللانهاية الآخرة قيمته صفر، فهؤلاء الناس من أجل عشر سنوات معدودات؛ فسق، وفجور، وانحراف، وأكل مال حرام، وساعة الموت خارج كل حساباته، يأتي الموت فجأةً فالإنسان في قبضة الله عزّ وجل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور