وضع داكن
01-12-2024
Logo
الدرس : 01 - سورة البقرة - مقدمة عن اسم السورة ـ الآيات المكية والمدنية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

أسباب البدء بتفسير سورة البقرة:


أيها الإخوة الكرام؛ نبدأ اليوم تفسير سورة البقرة، ولهذا سبب سأوضِّحه لكم قبل أن أشرع بالتفسير.
مضى على هذا الدرس أيها الإخوة بفضل الله جلَّ جلاله أكثر من خمسة وعشرين عاماً، كان التفسير في البدايات آيات مختارة من القرآن الكريم، ثمَّ بَدَأْتُ من سورة لقمان، وتابعت إلى نهاية المصحف، بدأ التسجيل الواضح من جزء عمَّ، وقبل هذا الجزء التسجيلات غير واضحة، ثم رجعت إلى سورة يونس، وتابعت التفسير إلى سورة لقمان، وكان وقتها بحسب الخطة أن أعود إلى سورة البقرة، أي فسرت الثلث الأخير، عشرة أجزاء، ثم الثلث الثاني، ثم الثلث الأول، لسببٍ أو لآخر تابعت التفسير إلى نهاية الجزء التاسع والعشرين، جزء عمّ مُفَسَّر بشكل واضح جداً، ومسجَّل بشكل واضح جداً، فحسب الخطة نعود الآن إلى القسم الأول، من هود إلى نهاية المصحف مفسـَّرة ومسجلة على أشرطة واضحة جداً، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يُمكّنني من تفسير الثلث الأول.
 

الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم:


اليوم نبدأ تفسير سورة البقرة، ولكن أُقَدِّم لكم هذه الحقيقة، أيّ شيءٍ في الدنيا زائل إلا عمل يتصل بالآخرة، وكل واحد من الإخوة الحاضرين إذا لم يكن له عمل متعلق بالآخرة فهناك خسارة كبيرة؛ الدنيا تمضي، البيوت تزول، لاحِظوا الميت ترك كل شيء إلا عملاً صالحاً ينزل معه في قبره، فالله عزَّ وجل يقول:

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾

[ سورة يوسف ]

فكُلُّ من يتبع نبي الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يدعَو إلى الله بطريقةٍ أو بأخرى، وقلت لكم من قبل: استقيموا يُسْتَقَم بكم، الموقف الصادق دعوة، الموقف الأمين دعوة، الوَرَع دعوة، الصدق دعوة، الإتقان دعوة، فكل واحد قد يكون له عمل طيّب، هذا العمل يُسَبّب اتساع دائرة المسلمين، فالدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، والدعوة إلى الله في حدود ما تعلم ومع من تعرِف، وكل إنسان جلس في مجلس علم، واستمع إلى تفسير صار مؤاخذاً، صار مسؤولاً، صار مكلَّفاً أن ينقل هذا إلى الآخرين إما بلسانه، أو بشريط، أو بلقاء، لابدَّ من أن تُلْقي بعد أن استمعت، لابد من أن تعطي بعد أن أخذت، وهذا الذي يبقى، الذي يحَرِّك المؤمن في الدعوة إلى الله حديثٌ لرسول الله، والله أيها الإخوة لو تلوت هذا الحديث على مسامعكم آلاف المرات لا أشبع منه: 

(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه ، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ : أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ: أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟ فقِيلَ: هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قالَ: فأرْسَلُوا إلَيْهِ. فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ.))

[ صحيح البخاري ]

 ((لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس ، خير لك من حُمَر النعم ، خير لك من الدنيا وما فيها)) .
 

الجهاد الدعَوي من أكبر أنواع الجهاد:


الجهاد كما تعلـمون ذِروة سنام الإسلام، ومن مات ولم يجاهد، ولم يحدِّث نفسه بالجهاد مـات على ثلمةٍ من النفاق.
الجهاد الدعَوي من أكبر أنواع الجهاد، والدليل قال تعالى:

﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾

[ سورة الفرقان ]

جميل جداً أن يمتلئ المسجد بطُلاب العلم، والأجمل من هذا أن ينتشر هذا العلم خارج المسجد، جميل جداً أن يفكِّر كُلّ منا كيف ينْقُل الحق إلى أخيه، إلى صديقه، إلى جاره، إلى موظفي محلِّه، إلى زملائه، إلى أقربائه، لأننا جميعاً كل الإخوة الحاضرين طرفٌ واحد، البطولة أن تُدخل إلى هذا المجموع الطيِّب إن شاء الله أطرافاً جديدة، فكل واحد مكلف أن يبحث من أقربائه، من زملائه، من جيرانه، من أتباعه، ممن هم دونه، ممن هم فوقه، بطريقةٍ أو بأخرى لنشر هذا الحق، هذا الذي يبقى، وترون كيف أن الناس يموتون ولا يأخذون معهم شيئاً، إلا عملاً صالحاً ابتغوا به وجه الله عزَّ وجل، فتعليم العلم من أعظم الأعمال الصالحة، نشر الحق هذه صنعة الأنبياء: 

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾

[ سورة فصلت  ]

 

كلما اتسع الحق صارت الاستقامة سهلةً:


بدأ هذا الدرس أيها الإخوة في عام 1976 بأربعة أشخاص فقط، وترون هذا الإقبال، وهذا من فضل الله عزَّ وجل، هؤلاء الذين يأتون لطلب العلم، ولمعرفة كلام الله عزَّ وجل، وسنة رسوله، هؤلاء يبتغون وجه الله عزَّ وجل، فالبطولة أن تتعلم، وأن تُعَلِّم، وأن تستمع، وأن تُلْقي، وأن تتلقَّى، وأن تعطي، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرُكمْ من تعلّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ.))

[ صحيح البخاري ]

خيركم على الإطلاق، خيرية مطلقة، وكلما اتسعت دوائر الحق ضاقت دوائر الباطل، وكلما اتسع الحق صارت الاستقامة سهلةً، قال تعالى: 

﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)﴾

[ سورة النور ]

وقال تعالى: 

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾

[ سورة آل عمران  ]

فالفضل لله عزَّ وجل، وهذا القرآن الكريم مائدة الله، وهذا القرآن الكريم حبل الله المتين، دستوره القويم، الصراط المستقيم، المنهج الصحيح، هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا الكتاب فيه نبأ من قبلكم وذكر مَن بعدكم، فيه الأمر، فيه النهي، فيه الحلال، فيه الحرام، فيه أخبار الأمم السابقة، فيه مشاهد من يوم القيامة، فالحقيقة الفضل لله عزَّ وجل أن سورة يونس والتي بعدها مُفَسَّرَةٌ بشكلٍ مفصل إلى نهاية المصحف، ومسجَّلة بأشرطة واضحة جداً، واليوم نبدأ الثلث الأول من هذا الكتاب الكريم، ونبدأ بسورة البقرة.
 

سورة البقرة سُمِّيت بهذا الاسم تأكيداً على الإيمان باليوم الآخر:


قبل أن نبدأ في شرح هذه السورة لابدّ أن نسأل هذا السؤال: لماذا سميت سورة البقرة مع أن البقرة ليست حيواناً مألوفاً في الجزيرة العربية؟ الحقيقة أن هذه البقرة التي سُمِّيَت بها السورة الأولى في القرآن الكريم بعد الفاتحة، هذه البقرة لها قصة؛ رجل من بني إسرائيل كان غنياً جداً، وكان ثرياً جداً، ولم يكن له أولاد، فقتله ابن أخيه، وألقى الجثة بعيداً في مشارف قريةٍ بعيدة، واتُّهِمَ أهل هذه البلدة بقتل هذا الرجل، ونَشِبَ خلافٌ بين القرية الأولى والقرية الثانية، إلى أن جاء أولياء القتيل ليسألوا موسى عليه السلام عَمن قتل هذا الرجل، فربنا عزَّ وجل في الآية السابعة والستين من هذه السورة الكريمة ذكر قصة هذه البقرة، قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)﴾

[ سورة البقرة ]

الأمر الإلهي أن يذبح بنو إسرائيل أيَّةَ بقرة، فإذا أخذوا أحد أعضائها، وضربوا به هذا القتيل يحيا ويقف ويقول: فلان قتلني، أي كأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُثْبِت لبني إسرائيل الحياة بعد الموت؛ نقف قليلاً لننتقل إلى موضوع اليوم الآخر.
الحقيقة الكبرى أيها الإخوة أنه بعد الإيمان بالله، الركن الأول بعد الإيمان بالله أن تؤمن بالـيوم الآخر، لأن الحياة الدنيا من دون إيمانٍ باليوم الآخر غابة، يأكل القوي فيها الضعيف، يستغلُّ الغني الفقير، والذي يجري في العالم اليوم هو عالم لا يؤمن باليوم الآخر، فالقوي هو الذي يسحقُ الضعيف، والغني هو الذي يستغلُّ الفقير، والأقوى هو الذي يعتدي على الأضعف.
 

لن ينجح مجتمع على وجه الأرض إلا إن آمن بالله واليوم الآخر:


الأحداث كلُّها تشير إلى أنه لن تقوم حياةٌ إلا أن تؤمن باليوم الآخر، وكل ما يقال من كلامٍ لا معنى له؛ ضمير يقِظ، وازع داخلي، هذا كلُّه إن لم يُدَعَّم بالإيمان باليوم الآخر لا جدوى منه، ولم ينجح مجتمع على وجه الأرض إلا مجتمعاً آمن بالله واليوم الآخر؛ فربنا سبحانه وتعالى من خلال قصة البقرة أراد أن يبيِّن لبني إسرائيل أن هذا الذي تراه ميتاً سوف يُحْييِه الله يوم القيامة لينال جزاء عمله، فماذا فعل بنو إسرائيل؟ هذا الأمر لم يستقبلوه بالقبول، ولم يستقبلوه بالرضا، ولم يستقبلوه بالانصياع، بل استقبلوه بالتشكيك والسخرية: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ نبيٌ كريم يستهزئ؟! يمزح !! ﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ هنا ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ وانتهى الأمر، أية بقرةٍ تُجْزِئكم، وأية بقرةٍ لو أخذتم أحد أعضائها وضربتم به الميت لقام، وتكلَّم، وقال: قتلني فلان.
 

الذي يموت ذاتُهُ باقية وسوف يحاسب:


الآن بنو إسرائيل شددوا على أنفسهم: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ كل طرفٍ ألقى التهمة على الطرف الآخر، ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ إذاً هذا الذي يموت، يقولون: الفقيد الفلاني، هذا الذي يموت خلع ثياباً، أما ذاتُهُ فهي باقية، وسوف يُحاسب، وسوف يعيش حياةً أبدية في جنةٍ يدومُ نعيمها، أو في نارٍ لا ينفد عذابها.
 

الآيات التي نزلت في أول الدعوة الإسلامية تدل على شيئين:


إخواننا الكرام؛ تُلحُّ الآيات التي نزلت في أول الدعوة الإسلامية على شيئين؛ أن تؤمن بالله، وباليوم الآخر، صدق أن الإيمان بالله لا معنى له من دون أن تؤمن أنَّه مطلعٌ عليك، وسيحاسِب، وسيعاقِب، إن لم تؤمن أنه مطلعٌ عليك، وسيحاسب، وسيعاقب لن تستقيم على أمر الله، قال تعالى: 

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)﴾

[ سورة الطلاق  ]

أي حينما تعلم أن الله يعلم، وأنَّك في قبضته وسيُحاسب ؛ ولن تجد إنساناً مستقيماً إلا بسبب أنه يُدْخِل في حساباته اليوم الآخر؛ والذي يثير العجَبَ أن الإنسان حينما يأكل المال الحرام، وحينما يعتدي على أعراض الآخرين، وحينما يتفَلَّت من منهج الله عزَّ وجل، كيف ينام الليل؟ كيف يتوازن مع نفسه؟ إذا قرأ قول الله تعالى: 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر ]

 

خصوصية هذه الدنيا أن النعم التي أنت فيها لابدَّ من أن تفارقها عند الموت:


لذلك الإنسان المؤمن حينما يوقن أن كل حركةٍ، وكل سكنة، وكل تصرفٍ، وكل عطاءٍ، وكل منعٍ، وكل وصلٍ، وكل قطعٍ، وكل زيارةٍ، وكل نظرةٍ، وكل كلمةٍ سوف تَدْخُل في ميزان أعماله، وسوف يُسأل عنها يوم القيامة، عندئذٍ يستقيم الإنسان على أمر الله، ولن تجد في الأرض إنساناً مستقيماً إلا إذا كان إيمانه باليوم الآخر عظيماً، هذه الدنيا فيها نِعَم، وفيها مُتَع، وفيها شهوات، وفيها حظوظ، ما الذي يحصل؟ هذه الحظوظ، وهذه الشهوات، وهذه المُتع، وهذه النعم بشكل عام إما أن تفارِقَك وأنت حي، وإما أن تفارقها عند الموت؛ لا بدَّ من الفراق،  خصيصة هذه الدنيا أن النعم التي أنت فيها لا بدَّ من أن تفارقها عند الموت، وقد تفارقك قبل الموت، من هنا كان دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:

(( أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا. ))

[ صحيح الترمذي ]

أما الدار التي لا تفارقك فيها النِّعم ولا تفارقها هي الدار الآخرة. 

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾

[ سورة الصافات ]

وقال: 

﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾

[ سورة المطففين ]

هناك قلق في الدنيا، الإنسان قَلِق على صحته، وكلما تقدَّم به العمر يزداد هذا القلق، يا ترى أُصاب بالمرض الفلاني؟ أو بالمرض الفلاني؟ والأمراض كثيرة جداً، هذا أكبر قلق، قلقٌ على الصحة ؛ يوجد قلق على دخله، هل يبقى هذا الدخل أم يتقلَّص؟ هل أبقى في هذه الوظيفة؟ هل تبقى لي هذه التجارة؟ هل يبقى لي هذا الدخل؟ الحياة الدنيا مشحونة بالقلق، لأنك لابدَّ من أن تُغادر الدنيا، إذاً سوف تُفارق كل النعم؛ وأوضح شاهد إذا تَبِعْتَ جنازةً، ورأيت الميت كيف يدفن، كان ساكناً في بيت، قد تكون مساحته مئتي متر، قد يكون أربعمئة متر، قد يكون بيتاً بأحياء دمشق الراقية، قد يكون بيتاً له إطلالة جميلة، له شرفات مُعْتَنى به، غرف للنوم، غرف للاستقبال، غرف للجلوس؛ فيه كل شيء، فيه تدفئة، تكييف، أين مصير صاحب هذا البيت؟ تحت أطباق الثرى، في حفرةٍ صغيرة؛ هذا مصيرُ كل حي.
 

أكثر ركنين متلازمين من أركان الإيمان هما الإيمان بالله واليوم الآخر:


هذه النعم لابدَّ من أن تفارقها بالموت، وقد تفارقُكَ قبل الموت؛ أما الآخرة فحياةٌ أبديةٌ سرمدية، حياةٌ لا نغص فيها، ولا شيخوخة فيها، ولا حُزْن فيها، ولا قلق فيها، ولا برد، ولا حر، ولا مرض، ولا فقر، ولا غنى، ولا قهر: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ ، وقال: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ إذاً أراد الله جلَّ جلاله حينما كانت هذه السورة تحمل اسم سورة البقرة أن يُذكِّرنا باليوم الآخر، وأن الإيمان باليوم الآخر يأتي بعد الإيمان بالله تماماً، ولو تتبعت الآيات التي تذكر الإيمان لوجدت أن أكثر ركنين متلازمين من أركان الإيمان هما الإيمان بالله واليوم الآخر؛ والحياة الدنيا من دون إيمان باليوم الآخر غابة؛ يأكل القوي الضعيف، يستغل الغني الفقير، شعوبٌ تُقْهَر، شعوبٌ تموت من الجوع، وشعوبٌ تُطعِم كلابها من اللحم ما لا تأكله شعوب بأكملها في جنوبي آسيا، هناك محلات، وهناك رَفاه لكلابهم يفوق رفاه بعض الشعوب؛ حياةٌ القوي فيها هو المسيطر، والضعيف مسحوق، هذه حياةٌ دُنيا من دون يوم آخر، أما انظر إلى مجتمع إيماني صغير، أفراده مؤمنون باليوم الآخر، تجد الإنسان يأخذ ما له ويدع ما ليس له.
قلت مرةً في موضوع الزواج: لماذا ينجح الزواج الإسلامي؟ لأن الله بين الزوجين فقط، لأن كل طرفٍ يخشى أن يظلم الطرف الآخر، يخشى الله، يخاف من الله أن يظلم الطرف الآخر، وكل طرفٍ يرجو رحمة الله بخدمة الطرف الآخر، فكلا الزوجين يرتقيان إلى الله، ويزداد التفاهم والوئام بينهما بسبب إيمانهما بالله واليوم الآخر.
 

فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه:


أنا أُلِحُّ على الإيمان باليوم الآخر؛ يجب أن يدخل هذا اليوم في الحسابات اليومية، وقال لي أخ: في الحسابات الساعيِّة، والأصح أن يكون أن يدخل هذا اليوم في الحسابات اللحظيَّة، كل لحظة، كل عملٍ سوف تحاسب عليه.

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾

[ سورة الكهف ]

هذا الإنسان المؤمن إنسان شخصية فَذَّة؛ ذكرت اليوم في الخطبة أن هذه الشخصية الفَذَّة فيها درجة علمية، من هو المؤمن؟ عرف الحقيقة الكُبرى في الكون، عرف الله، هذا أكبر عالم لأنه عرف الله.
دققوا في هذا القول: فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، القرآن الكريم هذا الكتاب وازن بينه وبين أي كتابٍ آخر، المسافة بينهما كما بين الله وهذا المؤلِّف، لأن هذا كلام الله؛ وازن بين من عرف الدنيا، وبين من عرف الله، بينهما كما بين الله وخلقه؛ هذا الذي عرف الله إنسان كبير جداً، عرف الحقيقة العظمى وانسجم معها فسعد في الدنيا والآخرة، والإيمان درجة أخلاقية، لأن المؤمن محكوم بمنظومة قيمٍ أخلاقيةٍ كثيرةٍ كبيرةٍ جداً، يوجد عنده بحياته منهج دقيق تفصيلي، وذكرت سابقاً أنه ما وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه إلا لأنهم توهَّموا أن الإسلام مجموعة عبادات شعائرية فقط، عندنا الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة،  الإسلام -وأرجو ألا أُبالغ-مئة ألف بند تقريباً؛ بنود في كسب المال، بنود في إنفاق المال، بنود في الزواج، بنود في الطلاق، بنود في المجالس، بنود في أداء الحِرَف، بنود في السفر، بنود في الإقامة، بنود في تربية الأولاد، منهج كامل؛ فحينما فهم المسلمون أن الإسلام بضعة عبادات شعائرية كانوا خلف الأمم جميعاً، أما حينما فهم الصحابة الكرام أن الدين هو الحياة كما أرادها الله عزَّ وجل صار هناك منهج تفصيلي، لذلك طلب العلم فرضٌ على كل مسلم، في حياة المسلمين لا شيء يعلو على طلب العلم؛ إنَّك بالعلم تعرف من أنت، وتعرف موقعك بين الناس، وتعرف ماذا بعد الموت، وماذا قبل الموت، وما المنهج الذي ينبغي أن تسير عليه؟ فلذلك حينما يؤمن المؤمن باليوم الآخر انتهت مشكلته. 

الدين كله محاسبة ذاتية:


هذه قصة نموذجية أرويها دائماً؛ أخ من إخواننا يعمل في لف المحركات قال لي: أنا قبل أن أصطلح مع الله يأتيني محرك محروق، طبعاً أجرة لفِّ المحرك خمسة آلاف تقريباً، قال لي: أفتحه فإذا به قَطْع بسيط جداً في خط خارجي، يُصَلَّح في دقيقة، قال لي: قبل الصلح مع الله أُصَلِّح هذا المحرِّك وآخذ خمسة آلاف عدّاً ونقداً، لأن صاحب المحرك لا يعرف ماذا حدث؟ يعرف أن المحرك واقف عن العمل، إذاً هو محروق، وجاء به للفّه، قال لي: بعد أن عرفت الله عزَّ وجل أقول له: كلَّف خمساً وعشرين ليرة، الشرط خمسة آلاف، دخل بالمحاسبة الذاتية، هذه هي القصة كلّها.
الدين كله محاسبة ذاتية، الدين كله كما قال هذا الأعرابي، هذا البدوي لابن سيدنا عمر، قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، فقال له: ليست لي، قال له: قل لصاحبها ماتت، ليست لي، خذ ثمنها، ليست لي، ثم ألحّ عليه، قال له: والله إنني في أشدّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟ هذا الدين كله، الدين كله أن تؤمن باليوم الآخر، ضبطْتَ لسانك، ضبطت كسبك للمال، ضبطت إنفاقك للمال، ضبطت عَيْنَك، ضبطت أذنك، ضبطت يدك، ضبطت حركاتك وسكناتك.
أيها الإخوة الكرام؛ سُمِّيت هذه السورة التي هي أطول سورةٍ في القرآن، سميت بالبقرة لأن البقرة دليلٌ لبني إسرائيل على اليوم الآخر، كيف أن الله سبحانه وتعالى أحيا هذا الميت،  وقال هذا الميت: فلان قتلني. 
هذه واحدة، فلذلك الإنسان عندما يعصي الله عزَّ وجل يجب أن يعلم أن إيمانه باليوم الآخر ضعيف؛ لو كان إيمانه باليوم الآخر قوياً لما عصى الله أبداً؛ مستحيلٌ أن يعصي الله إذا كان مؤمناً أنه سيُحاسب؛ الآن اذهب إلى بلد مجاور، وجدت في أثناء الذهاب تفتيشاً دقيقاً جداً، ولا يمكن لشيء أن يمر إلا بمحاسبة دقيقة، هل تشتري شيئاً هناك؟ أبداً، شيء طبيعي، ما دام هناك حساب دقيق لا تشتري شيئاً، يقول لك: أخي رخيصة، تقول له: ليست المشكلة أنها رخيصة، ولكن كيف سأنقلها إلى بلدي؟ لا تمر، والمؤمن كذلك، أي شيء قد لا يوجد عليه رقابة، وفي حالات كثيرة أنت موثوق، الطبيب موثوق، المهن الراقية كلها موثوق أصحابها، لو قال طبيب لمريض: تحتاج إلى تحليل، عشرة تحاليل، هل يستطيع المريض أن يناقش الطبيب؟ لا يستطيع، لا يعرف كيف يقول له، تحتاج إلى التحليل الفلاني، انتهى؛ من الذي يعلم أن هذا التحليل ضروري أو غير ضروري؟ هو الله وحده، إذا قال لك المحامي: الدعوى رابحة، وهي خاسرة حتماً، هل بإمكانك أن تناقشه؟ من يعلم ذلك؟ الله وحده، والله أيها الإخوة لو صحّ إيمان المسلمين باليوم الآخر لأغلق قصر العدل أبوابه.
 

الدين منهج كامل وليس عبادات شعائرية فحسب:


بقي سيدنا عمر وزير عدل مع سيدنا الصديق سنتين، لا يَرفع إليه واحد قضية؟! لو أنصف الناس لاستراح القاضي؛ نحن مشكلتنا الإيمان باليوم الآخر، سوف تُسأل: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
مرة ثانية إخواننا الكرام، أكبر وهم نتوهمه أن الذي يأتي إلى المسجد ويصلي فهو صاحب دين، لا؛ تأتي إلى هنا لتأخذ تعليمات الصانع فقط، وتعود مرة ثانية لتقبض الثمن، دينك بعملك، دينك بدكّانك، دينك بمكتبك، دينك بعيادتك، دينك بشركتك، دينك بالحقل، دينك بالمعمل، دينك مع أولادك، هنا تأخذ تعليمات الصانع، وتعود إلى الحياة كي تُمارس هذه التعليمات؛ وأوضح شيء كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيت الله عزَّ وجل يقول: عن أبي حميد،

(( اللَّهمَّ افْتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللَّهمَّ إني أسألك من فضلك. ))

[ صحيح مسلم ]

يا رب أشعر بقرب منك، أما إذا خرج من المسجد فيقول: ((اللَّهمَّ إني أسألك من فضلك)) العمل خارج الجامع، هناك الدين، هناك الاستقامة، هناك ضبط اللسان، هناك ضبط الدخل، هناك ضبط الإنفاق؛ نحن حينما فهمنا الدين خمس عباداتٍ شعائرية صرنا في مؤخَّرة الأمم، وحينما نفهم الدين منهجاً كاملاً، لهذا أكبر شيء يشغل المؤمن ما حكم الشرع في هذا الموضوع؟ 
 

الله عزّ وجل قادر أن يُعيدَنا جميعاً مرةً أخرى:


سميت سورة البقرة لأن الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ليضربوا بها هذا المقتول، فيعيد الله جلّ جلاله له الحياة فيقف، ويقول: فلان قتلني! أي الله عزّ وجل قادر أن يُعيدَنا جميعاً مرةً أخرى، وهذا الذي ذكره القرآن الكريم .
الشيء الثاني: كان في بني إسرائيل رجل صالح، كان مستقيماً، وكان ورعاً، وكان مخلصاً، لم يَدَع لأهله إلا بقرة؛ هذه كل ثروته في الدنيا، ولأنه كان مستقيماً، وكان ورعاً، وكان صالحاً، وكان دقيقاً في مُعاملته ورّث هذه البقرة لابنه الوحيد، هذه الصفات التي في سورة البقرة: ﴿صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ انطبقت جميعها على هذه البقرة، فلم يرض صاحبها ابن هذا الصالح بثمن أقل من أن يُملأ جلدها ذهباً، فكانت ثروةً طائلة؛ يستنبط من هذا أن الإنسان إذا كان صالحاً تولَّى الله مِن بعده رعاية أولاده؛ يقول الله عزّ وجل في الأثر القدسي: عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ يقول هذا العبد: يا ربِ أنفقته على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين، يقول الله عزّ وجل في هذا الأثر القدسي: عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك.
معنى ذلك: تحرِّ الحلال، ولا تأخذ ما ليس لك، ولا تَخْشَ على أولادك من بعدك، الله وليُّهم هو الحافظ الأمين، هو الذي يرعى لك أولادك بعد موتك، هو الذي يسترهم، هو الذي يرزقهم، هو الذي يحفظُهم، هو الذي يُكرمهم؛ كم من أبٍ ترك ملايين طائلة لأولاده كسبها بالحرام من أجلهم، فكانت النتيجة أنهم بدّدوا هذه الأموال في وقتٍ قصير وعاشوا فقراء؟! وكم من أبٍ خاف الله عزّ وجل في كسبه فتولَّى الله من بعده رعاية أولاده؟! لا تقلق على أولادك، اقلق على شيء واحد هو أن تقع في معصية؛ هذا الذي مَكَّنك الله منه؛ معظم الناس الآن يكسبون المال الحرام من أجل أولادهم، من أجل بناء مستقبل أولادهم، شراء بيوت، تزويج أولادهم، يكسبون المال الحرام، ما الذي يحدث؟ هذا المال الذي كسبوه حراماً يُبدَّد، ويذهب كما أتى، ويبقى أولادهم فقراء، تتمة الأثر القدسي يقول الله لعبدٍ آخر: عبدِي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ يقول: يا ربِ لم أنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي، يقول الله عزّ وجل: إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم.
 

الحرص على الدخل الحلال وعلى طاعة الله والله سيتولى أولادك من بعدك:


بقرة مباركة لأن الأب كان صالحاً:

﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)﴾

[ سورة الكهف  ]

بنى سيدنا الخضِر الجدار لأن أباهُما كان صالحاً، فلذلك الحقيقة الثانية في هذه السورة: احرص على الدخل الحلال، احرص على طاعة الله، ولا تفكر في مصير أولادك، الله سيتولى أمرهم، إذا كنت أباً صالحاً سيحفظ الله لك أولادك من بعدك، وسيتولى أمرهم؛ والله كم من قصةٌ مؤثرةٍ ؛ رجل اتقى الله فكان أولاده من بعده أعلاماً، قمماً، وكم من رجل لم يتق الله في كسب المال، ترك أيضاً ملايين مملينة فرأى صديق المتوفى ابن صديقه في الطريق فقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال بالحرف الواحد: إنني ذاهبٌ لأشرب الخمر على روح أبي، روح الميت تُرفرف فوق النعش، تقول: يا أهلي، يا ولدي، لا تلعبَن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلَّ وحرم فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة عليّ.
النقطة الثانية أن هذه البقرة التي جاءت صفاتها مفصَّلةً انطبقت على تلك البقرة التي كانت لرجلٍ صالح فأبى ولده ثمناً لها إلا مِلءَ جلدها ذهباً، أحياناً يَدَع أب صالح قطعة أرض، بيتاً، دُكَّاناً صغيرة، تدرّ هذه الدكان على أولاده من بعـده خيراً كثيراً، لأنه كان صالحاً، لا تقلق على أولادك، اقلق على دخلك، حلال أم حرام؟ أنت لست مكلفاً أن تُطعم أولادك المال الحرام، هذه النقطة الثانية.
 

سورة البقرة سورة مدنيّة:


النقطة الثالثة في هذا الدرس أن هذه السورة سورة مدنية؛ طبعاً القرآن الكريم كما تعلمون مكيٌّ ومدني، والعلماء اختلفوا هل الآية التي نزلت في مكة مكيّة والتي نزلت في المدينة مدنيّة إطلاقاً ولا علاقة للزمن بها راعينا المكان فقط؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام بعد فتح مكة أُنزل عليه القرآن، فالآيات التي أُنزلت عليه في مكة مكيّةٌ أم مدنيّة؟ هناك علماء راعوا الزمن فقط، فكل آيةٍ نزلت بعد الهجرة في أي مكان مدنيّة، وكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة في أي مكان مكيّة، هذا مقياس زمني، يوجد مقياس مكاني؛ كل آيةٍ نزلت في مكة بأي وقت فهي مكيّة، وكل آية نزلت في المدينة فهي مدنيّة.
والذي يعنينا القرآن المكيّ له خصائص، والمدنيّ له خصائص؛ يركِّز القرآن المكي على الإيمان بالله عن طريق الآيات، ويركِّز على اليوم الآخر، اِقرأ سور الأجزاء الأخيرة من القرآن الكريم، سورة عمَّ، النازعات، المرسلات، يركِّز على الإيمان بالله، وعلى الإيمان باليوم الآخر، لأنهما أصلا العقيدة، وعلى الرد على الكفار والملحدين، والمشركين والمنكرين، وعلى ذكر الجنة والنار، تكاد هذه القواسم تتجاذب السور المكية، الإيمان بالله من خلال الآيات، الإيمان باليوم الآخر، الرد على المشركين والكفار والملحدين، ذكر الجنة والنار، لو انتقلت إلى البقرة، إلى آل عمران، إلى النساء، إلى الأنعام، يختلف الأمر، تشريع، اِفعل ولا تفعل: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾

[ سورة البقرة  ]

شيء جميل، تشريع.
 

كل دعوةٍ إلى الله لابد من أن تمر بمرحلتين:


يوجد منافقون.

﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)﴾

[ سورة آل عمران  ]

صـار هناك طبقة منافقين، لم يكن في مكة منافقون لأن الإسلام كان مُضطَهَدَاً، فلا داع لأحد أن ينافق؛ إذا أعلن الكفر يمشي على عرض الطريق، كان المسلمون مضطهَدين، لذلك لا نفاق في مكة، أما حينما أُسس للمسلمين دولة وقوية في المدينة صار هناك نفاق؛ تجد في السور المدنيّة حديثاً عن التشريع، وحديثاً عن المنافقين ليحذِّرهم المؤمنون، وحديثاً عن علاقة المسلمين بغيرهم، هذا في المدينة.
ما الذي يعنينا؟ الذي يعنينا هو أن كل دعوةٍ إلى الله لابدّ من أن تمر بمرحلتين: مرحلة التعريف بالله واليوم الآخر، ومرحلة التعريف بالمنهج، وأية دعوةٍ إلى الله غَفَلَت عن تعريف أتباعها بالله واليوم الآخر دعوةٌ عرجاء، دعوةٌ لا تنجح، فأنت حينما تأمر الإنسان أن يصلي، يصلي لمن؟ تأمره أن يستقيم، يستقيم خوفاً مِمن؟ لا يعرف الله!! وكنت أقول دائماً: إذا عرف الإنسان الأمر ولم يعرف الآمر تفنن في التفلُّت من هذا الأمر، وهذا حال المسلمين، مغنية تسأل عالماً: إنني تبت فهل يوجد مانع أن أغني؟ لا يوجد مانع بموضوعات دينية صار الغناء مسموحاً، والاختلاط مسموحاً، والبنوك مسموحة في مصر، لم يعد هناك شيء، كل شيء له فتوى، وكنت أقول أنا متندراً: إنَّ لكل معصيةٍ فتوى.
إذا عرف الإنسان الأمر ولم يعرف الآمر تفنن في التفلت من هذا الأمر، وهذا حال المسلمين؛ صار الإسلام فولكلوراً، مظاهراً، لباساً إسلامياً؛ آيات قرآنية نزين بها البيت، لكن توجد سهرات لا ترضي الله في هذا البيت، توجد أجهزة لا ترضي الله في هذا البيت، توجد علاقات لا ترضي الله في هذا البيت، أما كله آيات قرآنية، وصورة الكعبة، وآية الكرسي؛ بقي الإسلام مظاهراً، مؤتمرات إسلامية، كتباً فخمة جداً، العنوان على عَرض الكتاب، أناقة بالطباعة، أشرطة مرئية ومسموعة، ومكتبات، وكل شيء بأعلى درجة، لكن لا يوجد استقامة، لا يوجد التزام، وكأن الله عزّ وجل تخلَّى عنا.
 

الآيات المكيّة تُعرفنا بالآمر بينما الآيات المدنيّة تُعرفنا بالأمر الإلهي:


ذكرت هذا في الخطبة اليوم أن شخصاً سألني فقال لي: لِمَ ندعو الله فلا يستجيب لنا؟ قلت له: سُئل الإمام إبراهيم بن الأدهم هذا السؤال، كان مرةً في البصرة قيل له: يا إمام إن الله تعالى يقول: 

﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)﴾

[ سورة غافر ]

ونحن ندعو الله فلا يستجيب لنا؟ قال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء؛ ادّعيتم أنكم آمنتم بالله ولم تنصاعوا لأمره، قرأتم القرآن فلم تعملوا به، ادّعيتم حب نبيَّكم فلم تعملوا بسنَّته، قلتم: إن النار حقّ فلم تتقوها، قلتم: إن الجنة حقّ فلم تعملوا لها، دفنتم موتاكم فلم تعتبروا، ذكر اثني عشر بنداً، قال: فكيف يُستجاب لكم؟!! 
فالذي أريده ما دام هناك مّكيّ ومدنيّ، معنى ذلك أن القرآن المكيّ يدعوك إلى الإيمان بالله واليوم الآخر عن طريق الآيات، أيَّة دعوةٍ إلى الله تُغفل هذا الشطر الكبير من الدين فهي دعوةٌ عرجاء لا تنجح، والآن ترى أننا اعتنينا بالفقه على حساب العقيدة، فالفقه ما أفلح، يجب أن نعتني بالفقه والعقيدة معاً، والشيء الدقيق أن الإنسان حينما يؤمن بالله إيماناً صحيحاً هو يبحث عن أمره ونهيه، يبحث بشكلٍ حثيث، لذلك المؤمن الصادق شغله الشاغل ما حكم الشرع في هذا؟ فهناك تطور طبيعي.
أنت أحياناً موظف في شركة، نُحِّيَ المدير العام السابق عن عمله، جاء مدير جديد، أنت تسأل: من هو؟ فلان، ما ثقافته؟ ما أخلاقه؟ ما طبيعته؟ ما طباعه؟ بعد أن عرفت شيئاً عن شخصيته الآن تنتظر الأوامر والنواهي؛ سلوك طبيعي جداً أن تعرف الآمر أولاً، ثم الأمر ثانياً؛ فنحن في المكِّيّ عرفنا الآمر، الآن في المدنيّ يجب أن نعرف الأمر؛ لذلك أيُّ أمرٍ لم يسبقه تعريفٌ بالآمر هذا الأمر لا قيمة له، لأن شرف الرسالة من شرف المُرسل، وقيمة الأمر من قيمة الآمر، وكلَّما عرفت الله أكثر وَقَّرْتَ أمره أكثر، وكلَّما عرفت الله أكثر صدَّقتَ بوعده أكثر، وكلَّما عرفت الله أكثر صدَّقتَ بوعيده أكثر؛ القضية دقيقة جداً، لذلك لا تحاول أن تُملي على الناس الأوامر الإلهية دون أن تعرِّفهم بمن أمر بها؛ ماذا عند الله لو أطعته؟ وماذا عنده لو عصيته؟ إذا لم يكن هناك فكرة واضحة ماذا ينتظر الطائع وماذا ينتظر العاصي فلا تعبأ لا بالأمر ولا بالنهي، هذا درس بليغ لنا.
 

بالكون تعرف الله وبالشرع تعبده:


لذلك أنا حاولت في أول التفسير أن أبدأ بالقسم المكيّ أي بالثلث الأخير ثم بالثلث الثاني، ورجوت الله عزّ وجل أن يُمَكَّن الإيمان بالله في قلوب الأخوة المؤمنين، يُمَكَّن الإيمان بالله الآن يأتي التشريع تاجاً يتوَّج به المؤمن؛ أنت حينما تعرف الله تبحث عن أمره ونهيه، تبحث عما يرضيه، لذلك بالكون تعرفه وبالشرع تعبده؛ هذان الخطَّان في عهد النبي؛ الأول: التعريف بالآمر، والثاني: التعريف بالأمر؛ الآن الحد الأدنى الآن أن يسير الخطَّان معاً، لذلك لابد من درسٍ تعرف الله فيه، التفكُّر في خلق السماوات والأرض هذا يعني الخط الأول، كل إنسان يأكل، ويشرب، ويتزوج، وينام، ويستيقظ، ويتأمَّل، وينظر، يجب أن تعلم أن أرقى عبادة على الإطلاق تتقرَّب بها إلى الله أن تتفكَّر في خلق السماوات والأرض، من أجل أن تزيد معرفتك بالله، من أجل أن يكون أمر الله عندك عظيماً: 

﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14)﴾

[ سورة نوح ]

إذا فكَّرت في خلق الإنسان أطواراً ترجو لله وقاراً، من أين يأتي الوقار؟ يأتي إذا فكَّرت في خلق الله عزّ وجل: 

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[ سورة فاطر ]

فيا أيها الإخوة الكرام؛ علمتنا كلمة مكيّ ومدنيّ أن الدعوة ينبغي أن تمر بمرحلتين؛ مرحلةٍ نتعرف فيها إلى الآمر، والمرحلةٍ الثانية نتعرف بها إلى الأمر الإلهي. 

الله جلَّ جلاله يُعَلِّمنا أن التوجيه غير المباشر أبلغ أثراً من التوجيه المباشر:


هذه السورة أيها الإخوة سورة البقرة من أطول سور القرآن الكريم، فيها خاصة ثالثة أُسأل عنها دائماً، هذه الخاصة حديثٌ طويل عن بني إسرائيل، وما علاقتنا ببني إسرائيل:

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)﴾

[ سورة البقرة  ]

صفحات طويلة، سيدنا موسى، وعلاقته بفرعون، وعلاقته بقومه، وكيف نجَّاه الله من فرعون؟ وكيف انتقل إلى سيدنا شعيب؟ إلى آخره، الحديث عن بني إسرائيل له مغزى هو أن الأسلوب التربوي الحكيم ينطلق من هذه المقولة: "إيَّاكِ أعني واسمعي يا جارة"، يُعَلِّمنا الله جلَّ جلاله أن التوجيه غير المباشر أبلغ أثراً من التوجيه المباشر، فكل الأمراض التي وقعت بها بنو إسرائيل المسلمون مرشَّحون ليقعوا بها، فأيُّ مرضٍ من أمراض بني إسرائيل نحن مُرشَّحون أن نقع فيه: 

﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)﴾

[ سورة البقرة  ]

هذا يعتقده المسلمون اليوم، يعتقدون بمفهومٍ ساذج للشفاعة، اِفعل ما شئت، النبي عليه الصلاة والسلام يشفع لك: 

﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)﴾

[ سورة المائدة ]

وهذا مرضٌ أصاب المسلمين: 

﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)﴾

[ سورة البقرة  ]

وهذا مرضٌ أصاب المسلمين، لو تتبعت أمراض بني إسرائيل لوجدت كل هذه الأمراض قد تلبّسنا بها؛ فإذا قرأنا قصة بني إسرائيل كي نتعظ، كي نعتبر من هؤلاء القوم الذين خرجوا عن منهج ربهم فاستحقوا لعنة الله عزّ وجل، هذه النقطة الثالثة.
 

ملخص لأهم نقاط الدرس:


نعيد ملخص هذه النقط:
الأولى: سميت هذه السورة بسورة البقرة تأكيداً على الإيمان باليوم الآخر، وأن الناس جميعاً سيحاسبون حساباً دقيقاً جداً، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا رب مُكْرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم، إذاً العبرة باليوم الآخر.
الشيء الثاني أن الذي يحيا حياةً مستقيمة ينبغي ألا يقلق على أولاده من بعده، لأن الله عزّ وجل هو الذي سيحفظ له أولاده من بعده، أي عليك أن تستقيم وانتهى الأمر: 

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾

[ سورة الزمر ]

وقال: 

﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)﴾

[  سورة الأعراف ]

النقطة الثالثة هي أن هذه السورة مدنيّة، والسور المدنيّة فيها تشريعات، والتشريع مكانه الطبيعي بعد معرفة المُشَرِّع، الأمر مكانه الطبيعي بعد معرفة الآمر، فإذا عرفنا الآمر وعرفنا الأمر تكاملنا، ولا تنسَ أن الله سبحانه وتعالى جعل التشريع نصف الدين تماماً.
والنقطة الرابعة في سورة البقرة أن كل قصص بني إسرائيل بأمراضهم، وتقصيرهم، وانحرافاتهم تنطبق علينا، ذكرت اليوم في الخطبة هؤلاء الذين نسوا: 

﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)﴾

[ سورة المائدة ]

معنى ذلك متى تكون بيننا العداوة والبغضاء؟ إذا نسينا حظاً مما ذُكّرنا به، كأن للعداوة والبغضاء قانوناً.

﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)﴾

[ سورة المائدة ]

 

في مجتمعنا قواسم مشتركة كبيرة جداً ومع ذلك هناك عداوة وبغضاء:


﴿فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ معناها قد نكون في مجتمع يوجد قواسم مشتركة كبيرة جداً، ومع ذلك مع هذه القواسم المشتركة  وصف الله عزّ وجل بني إسرائيل فقال: 

﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)﴾

[ سورة الحشر  ]

ممكن نكون بمجتمع فيه عشرات العوامل المشتركة، ومع ذلك عداوةٌ وبغضاء ما بعدها من عداوةٍ وبغضاء، هذا قانون ثالث، فأردت من هذا الدرس أن يكون مقدمةً للدروس القادمة التفصيلية، أي اسم البقرة، والأبُ الصالح، وبنو إسرائيل لماذا كَثُر ذكرهم في هذه السورة؟ والشيء الرابع المكيّ والمدنيّ.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور