وضع داكن
28-11-2024
Logo
الدرس : 16 - سورة البقرة - تفسير الآيتان 28-29 الموت والحياة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

لا يوجد في الكون شيءٌ إلا ويشير إلى الله موجوداً وواحداً وكاملاً:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السادس عشر من دروس سورة البقرة، و مع الآية الثامنة والعشرين وهي قوله تعالى: 

﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)﴾

[ سورة البقرة ]

يقول علماء اللغة: إن ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام، يُستفهم به عن الحال، تقول لأخيك: كيف حالك؟ اسم استفهام يُستفهم به عن الحال، ولكن الاستفهام أحياناً يخرج عن أصله إلى معانٍ أخرى، فإذا أردت أن توبِّخ إنساناً تقول له: كيف تفعل هذا؟ أردت أن توبِّخه، أو إن أردت أن تُنْكِر عليه، أو إن أردت أن تردعه، فالاستفهام هنا هو استفهام إنكاري، كيف يكفر هذا الإنسان وقد خلقه الله عزَّ وجل من ماءٍ مهين؟ كيف يكفر وقد خلق له ما في الأرض جميعاً؟ كيف يكفر وقد منحه نعمة العقل؟ كيف يكفر وقد خلق له من نفسه زوجةً؟ كيف يكفر وقد خلق له من نفسه أولاداً يتحركون أمامه وهو يعلم علم اليقين كيف تمّ خلق هؤلاء الأولاد من نطفةٍ من ماء مهين؟ كيف يكفر وكل ما حوله يدل على الله عزَّ وجل؟ كيف يكفر وما في الكون شيءٌ إلا ويشير إلى الله موجوداً وواحداً وكاملاً؟ فهذا الاستفهام استفهام توبيخي، واستفهام إنكاري: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ ، قال علماء التفسير: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً﴾ أي كنتم في حالة العدم، الموت الأول موت العدم: ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ جاء بكم إلى الدنيا، ثم أماتكم بعد انتهاء الحياة، ثم يحييكم يوم القيامة لتلقوا نتائج أعمالكم، موت العدم، إحياء الدخول في الدنيا، موت الخروج من الدنيا، ثم إحياء يوم القيامة للحساب والعقاب والجزاء.
 

الحياة التي تنعُم بها إنما هي من الله عزَّ وجل:


أيها الإخوة الكرام؛ حياة الإنسان بيد الله، الله عزَّ وجل مُتَحَكِّمٌ بإيجاده، متحكمٌ بحياته، الله عزَّ وجل هو الذي منحه نعمة الحياة، أنت كائن حيّ تتحرك، ترى، تسمع، تتحسس، تأكل، تشرب، تذهب إلى بيتك، هذه الحياة التي تنعُم بها إنما هي من الله عزَّ وجل، هو الذي منحك الحياة ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ منحك نعمة الإيجاد، ومنحك نعمة الإمداد، ومنحك نعمة الهدى والرشاد، وهذه هي النعم الكبرى. 

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾

[ سورة الإنسان  ]

منحك نعمة الحياة، منحك نعمة الإمداد، منحك نعمة الهُدى والرشاد. 
﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ فأنت بين قَوْسين قوس الحياة وقوس الممات، الله عزَّ وجل هو المتحَكِّم بالحياة، واهب الحياة، الله عزَّ وجل هو المميت، هو الذي ينهي حياة الإنسان، فإذا كانت البداية من خلق الله والنهاية من خلق الله لم لا تكون الحياة لله؟ "الدنيا ساعة اجعلها طاعة" .
 

عظمة الله في خلقه:


الدنيا ساعة، الزمن يمضي سريعاً، الإنسان زمن، الإنسان بضعة أيام كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، والإنسان العاقل يَعُدُّ عمره عدّاً تنازلياً يقول: كم بقي لي من عمري؟ كيف مضى الذي مضى؟ مضى الذي مضى كلمح البصر، فإذا مضى ثُلثا العمر فالثلث الباقي يمضي كلمح البصر أيضاً، الإنسان فجأةً أمام حسابٍ دقيق، وجزاءٍ دقيق، وعقابٍ دقيق. 
﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً﴾ كنتم في طور العدم ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ الإنسان من ماء مهين، هناك خمسمئة مليون حوَين في اللقاء الزوجي، حوين واحد يدخل إلى البويضة، والبويضة لا تُرى بالعين، صغيرةٌ جداً، هذه الحوين وهذه البويضة يتلاقحان ثم تنقسم البويضة إلى عشرة آلاف قسم وهي في طريقها إلى الرحم، تنشأ لها في الرحم استطالات كالأرجل من أجل أن تعلق في جدار الرحم، إذا علقت بدأت تأخذ الغذاء من جدار الرحم في تسعة أشهر وعشرة أيام، هذه البويضة التي لا تُرى بالعين، وهذا الحوين الذي لا يُرى بالعين يشكلان كائناً بداخل دماغه ما يقرب من مئة وأربعين مليار خلية استنادية لم تعرف وظيفتها بعد، هناك في قشرة الدماغ أربعة عشر مليار خلية، يحوي العصب البصري تسعمئة ألف، الشبكية تحوي مئة وثلاثين مليون عُصية ومخروط، الشم يوجد عشرون مليون نهاية عصبية شمِّية، لكل نهاية سبعة أهداب، الأهداب مغمَّسة بمادة معينة تتفاعل مع الرائحة، تصبح الرائحة شكلاً هندسياً تُشحن إلى الدماغ، في الدماغ تعرض على ملف فيه عشرة آلاف رائحة من أجل أن تعرف الروائح، ومن أجل أن ترى الأشخاص بحجمها الحقيقي، بلونها الدقيق، وتفرق العين البشرية بين درجتين من ثمانمئة ألف درجةٍ من اللون الواحد، لو درجنا لوناً واحداً ثمانمئة ألف درجة تدرك العين البشرية السليمة الفرق بين درجتين.
 

خلق الإنسان من آيات الله الدالة على عظمته:


في رأس الإنسان ثلاثمئة ألف شعرة، لكل شعرة وريد، وشريان، وعصب، وعضلة، وغدة دهنية، وغدة صبغية، شعر الإنسان، دماغ الإنسان، السمع، البصر، الشم، السمع قضية معقدة جداً، جهاز التوازن، الغدة النخامية وزنها نصف غرام تفرز اثني عشر هرموناً، ملكة الغدد، تسيطر على كل الغدد الصمَّاء في الجسم، ملكة وزنها نصف غرام تفرز اثني عشر هرموناً، لو تعطَّل إفراز أي هرمون لأصبحت حياة الإنسان جحيماً، هرمون النمو، هرمون الجنس، هرمون توازن السوائل، شيء لا يصدَّق، الغدة الدرقية مسؤولة عن الاستقلاب، تحول الغذاء إلى طاقة، الكظر مسؤول عن مواجهة الأخطار، الخطر الداهم، يعطي أمراً للقلب برفع نبضه، وأمراً للرئتين بزيادة وجيبهما، وأمراً للكبد بطرح كمية سكر إضافية، وأمراً للأوعية تضيق لمعتها، وأمـراً للكبد بإفراز هرمون التجلُّط، شيء لا يصدَّق هذا الكظر، والمعدة يوجد فيها خمسة وثلاثون مليون عصارة تفرز في وجبة الطعام لتر ونصف لتر حمض كلور الماء من أجل هضم الطعام، والبنكرياس، والطحال، والكبد فيه خمسة آلاف وظيفة، وتقوم كل خليةٍ من خلايا الكبد بكل هذه الوظائف، والعظام، والعضلات، والأعصاب، والقلب، والشرايين، هذا كلُّه يُصَنَّع في أكمل صناعة في تسعة أشهر، فالحياة منحنا الله إياها، والموت بيد الله، إنسان ملء السمع والبصر، غني، قوي، يصبح خبراً بثانية، نعوة، أبداً ينتهي. 

﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)﴾

[  سورة المؤمنون ]

واهب الحياة هو الله، المميت هو الله، وحياتك بين هذين القوسين، فلمَ لا تكون لله عزَّ وجل؟ "الدنيا ساعة اجعلها طاعة"
في أول ليلةٍ يوضع الإنسان في قبره يُنادى أن رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت.
 

مثال عن استحالة إيجاد مخرج في معصية الخالق:


الآية الكريمة: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ طلب إنسان من عالم أن يجد له مخرجاً في معصية الله، فقال له: خمسة أشياء إن فعلتها لا تضرُّك معصية -شيء رائع جداً-ما هي هذه الأشياء؟ قال له: إن أردت أن تعصيه فلا تسكن أرضه، قال له: وأين أسكن إذاً؟ قال له: أتسكن أرضه وتعصيه؟!! معقول هذا؟! إذا أدخلك إنسان إلى بيته وأنت ضيفه، معقول أن تضرب له ابنه وأنت في بيته؟ معقول أن تضع السم في الطعام وأنت في بيته؟ تسكن أرضه وتعصيه؟ قال له: هات الثانية؟ قال: إن أردت أن تعصيه فلا تأكل من رزقه؟ قال له: وماذا آكل إذاً؟ قال له: تسكن أرضه وتأكل رزقه وتعصيه؟! معقول؟! قال له: هات الثالثة؟ قال له: إن أردت أن تعصيه فاعصه في مكانٍ لا يراك فيه، قال: 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[ سورة الحديد  ]

قال: تسكن أرضه وتأكل رزقه وتعصيه وهو يراك؟ 

أما تستحي منا ويكفيك ما جـرى             أما تختشي من عتبنا يوم جمعنا

أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً             وتنظـــر ما به جــــاء وعدنـــــا

[ علي بن محمد بن وفا ]

* * *

قال له: هات الرابعة؟ قال: إن أردت أن تعصيه وجاءك ملك الموت فلا تذهب معه، قال له: لا أستطيع، قال: تسكن أرضه وتأكل رزقه وتعصيه وهو يراك ولا تستطيع أن تدفع عنك ملك الموت؟ قال له: هات الخامسة؟ قال له: إن أردت أن تعصيه وجاء الملكان بك إلى النار فلا تذهب معهما، قال له: لا أستطيع، قال: تسكن أرضه وتأكل رزقه وتعصيه وهو يراك ولا تستطيع أن تدفع عنك ملك الموت ولا ملائكة العذاب؟ قال له: كُفيت؟ ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ .
 

الله يمهل ولا يهمل:


وجودك من الله، سمعك، بصرك، نُطقك، ذكاؤك، عضلاتك، أمعاؤك، جهاز الهضم، جهاز الدوران، جهاز التصفية، العظام، الأعصاب، كلها بيد الله، أيعقل أن تعصيه بِنِعَمِهِ؟ أيعقل أن تعصيه بالأعضاء التي منحك الله إياها؟ كيف؟ هذا استفهام إنكاري، واستفهام توبيخي، واستفهام تعجُّبي في آن واحد، ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ لم أر أشدّ غباءً من الذي يتجاهل وجود الله ويفعل ما يشاء، والله عزَّ وجلٍ يمكن أن ينهيه في كل ثانية، هذا الذي يتجاهل القوة الوحيدة في الكون، الحقيقة الوحيدة في الكون إنسان أحمق، وهناك آلاف القصص، إنسان مشى في طريق العدوان فدمَّره الله عزَّ وجل، مشى في طريق المعصية فدمره الله عزَّ وجل، ولكن الله يمهل ولا يهمل.
بعد ذلك: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي إذا غلب على يقينك أن كل حركةٍ، وكل سكنةٍ، وكل كلمةٍ، وكل ابتسامةٍ وكل عبوسٍ، وكل وصلٍ وكل قطعٍ، وكل عطاءٍ وكل منعٍ، مسجلٌ عليك وسوف تسأل لماذا فعلت هذا؟ قال تعالى: 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر  ]

 

ما دام في العمر بقية فالصلح مع الله سهلٌ جداً:


ما دام في العمر بقية فالصلحة بلمحة، ما دام في العمر بقية فالصلح مع الله سهلٌ جداً لأنه هذا الأعرابي الذي ركب ناقته وعليها زاده وشرابه: 

(( عن أنس بن مالك: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. ))

[ صحيح مسلم ]

الفرح الذي لا يحتمل، الفرح الذي ردّ إليه روحه، الفرح الذي أفقده توازنه، من شدة فرحه قال: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ)) فقال عليه الصلاة والسلام: ((لله أفرح بعبده التائب من هذا البدوي بناقته)) :

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]


الغنى والفقر بعد العرض على الله:


إذا قال العبد: يا رب وهو راكع، قال الله: لبَّيك يا عبدي، فإذا قال العبد: يا رب وهو ساجد، قال الله له: لبَّيك يا عبدي، فإذا قال العبد: يا رب وهو عاصٍ، قال الله له: لبيك ثم لبيك ثم لبيك.

فيا خجلي منه إذا هو قال لــــي:            أيــا عبدنــــــــا ما قرأت كتابنـــا؟

أما تستحي منا ويكفيك ما جـرى             أما تختشي من عتبنا يوم جمعنا؟

أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً             وتنظــر ما بــــــه جــاء وعدنـــا

[ علي بن محمد بن وفا ]

* * *

إلى متى أنت باللذات مشغول                وأنت عن كل ما قدمت مسؤول

[ البوصيري ]

* * *

تعصي الإله وأنت تظهر حبه                    ذاك لعمري في الــمقال شنيع

لـو كان حبك صادقا لأطعتــه                    إنّ المـــحب لمن يحب يطيــع

[ الشافعي ]

* * *

كيف؟ خالق الكون يعجب؟ ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ أنت حي، هذه الحياة منحةٌ من الله عزَّ وجل، وبعد الحياة موت، وبعد الموت حسابٌ دقيق، فكيف؟ من هنا قال سيدنا علي كرَّم الله وجهه: "الغنى والفقر بعد العرض على الله"، بعد العرض على الله يكون الغني غنياً والفقير فقيراً، والغنى غنى العمل الصالح.
فخالق الكون يعجب كيف؟ منحتُ نعمة الإيجاد، نعمة الهدى والرشاد، نعمة الإمداد، التقيت رجلاً فقلت له: ألا ترى أن الله خالق السماوات والأرض إلهٌ عظيم؟ قال: لا، والله، قلت له: هل في جسمك شيءٌ غير مُتقن؟ قال لي: نعم الزائدة الدودية، قلت له: ما رأيت من جسمك إلا الزائدة الدودية؟ اسمها الذائدة المدافعة، خط دفاعٍ كاللوزتين، قال لي: اللوزتان متعبتان أيضاً. ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ .
 

القلب السليم فيه تعظيم وخوف وحبّ لله:


كيف يعرف الإنسان الله؟ من صنعته، من نعمته، من عقابه، ورد بالأثر القدسي أن يا رب أيّ عبادك أحبّ إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحبّ عبادي إليّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا رب إنك تعلم أني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائي.
ذكرهم بآلائي كي يعظموني، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني، وذكرهم ببلائي كي يخافوني. 
القلب السليم فيه تعظيم وخوف وحب معاً، تعظيم مع خوف مع حب، التعظيم من خلال الآيات الكونية، مجرة تبعد عنا ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، وتحتاج أربع سنوات ضوئية إلى خمسين مليون عام كي نصل إليها بمركبة أرضية، الأربع سنوات ضوئية تحتاج إلى خمسين مليون عام فثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية كم نحتاج كي نصل إليها؟ وأين هي؟ 

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾

[ سورة الواقعة  ]

هذا الإله العظيم يُعصَى؟ لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت.
 

كل ما في الأرض خُلِق خصيصاً للإنسان:


إذاً الموت الأول موت العدم، الإحياء الأول إحياء الدخول في الحياة الدنيا، الموت الثاني الموت عقب انتهاء العمر في الحياة الدنيا، والإحياء الثاني هو إحياء يوم القيامة للحساب والجزاء، ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)﴾

[ سورة البقرة ]

دقق ﴿خلق لكم﴾ أنت أحياناً تقيم مأدبة أو وليمة، هناك ضيف شرف هو الأساسي، تدعو معه صديقه، جاره، ابنه، الأساس هذا الضيف الأول، صُنِع هذا الطعام خصيصاً لهذا الضيف، وهو يأكل الطعام يُطرَق الباب، يأتي طارق، تقول له: ادخل، كُلْ معنا، هذا دخل وأكل، لكن هذا الطعام صُنِع خصيصاً للضيف الأول وليس للطارق، هذا المعنى المستفاد من كلمة ﴿لكم﴾، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ كم معدن موجود في الأرض؟ معادن تصدأ تصبح أملاحاً، معادن لا تصدأ، معادن ثمينة تصلح لأن تكون قِيَماً كالذهب والفضة، معادن مُشِعَّة، معادن خفيفة، الفلزات والمعادن لا يعلم خصائصها ودقائقها وأنواعها وعددها إلا الله، وأشباه المعادن، والمواد العضوية، وأنواع النباتات، يوجد في البحر مليون نوع من السمك، من حوتٍ يزيد وزنه عن مئة وخمسين طناً إلى سمكة تزيينية في أحواض السمك لا يزد طولها عن سنتيمتر واحد، فسفورية، سوداء، شفافة أحياناً، شيء لا يصدق، مليون نوع من السمك في البحر، كم نوع من الطيور؟ كم نوع من النباتات؟ أذكر أنني اطلعت على كتاب مؤلف من ثمانية عشر جزءاً، كل صفحة فيها نوع من الأبصال، هذا الكتاب كله أبصال فقط غير الورود، والورود، والنباتات، وأزهار الزينة، شيء لا يصدق، هذه كلها ليست للأكل، لمتعة العين فقط.
﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ أنواع النباتات، والحيوانات، والأطيار، والأسماك، والخضراوات، والفواكه، وأشجار الزينة لا تعَدُّ ولا تحصى.
 

النبات أيضاً من آيات الله الدالة على عظمته:


النبات؛ هناك نباتٌ صنع خصيصاً من أجل أثاث بيتك، خشب الزان، وهناك خشب  صناعي، تزيد أنواع الأخشاب عن مئة نوع، هناك آلات لا تعمل إلا على قاعدة من خشب التوت لأن ألياف هذا الخشب مرنة ومتينة، فحركة المكوك تمتصها القاعدة، هناك أخشاب تصلح أساساً للأبنية الضخمة، هناك بناء في ساحة المرجة أساسه من الخشب، يزداد حجمه مع الماء، هناك خشب لا يتأثر بالماء، والهواء، والحر، والبرد إطلاقاً، هذا خشب النوافذ، مصمم للنوافذ، لا يتغير مع الأمطار، والرياح، والبرد، والحر، والتبدلات، ولا ميليمتر، ولا يصلح الخشب الأغلى منه لو وضعته للنوافذ، الخشب الزان، الزان لأثاث البيوت، وهناك خشب طري كخشب الكبريت، للأعمال الصناعية التعامل معه سهل جداً، الأشجار التي صنعت لأن تكون خشباً لك، هذه باب قائم بذاته، هناك أشجار زينة هدفها أن تمتع عينك بها، هناك أشجار مظَلات، هناك أشجار حدودية، هناك أشجار تعطيك الكاوتشوك، أشجار تعطيك الفلِّين، نباتات تعطيك الأدوية، نباتات تعطيك الأصبغة، نباتات تأكل منها، نباتات تعطيك أوان، نباتات تعطيك حبات المسبحة؛ كرة مثقوبة، جاهزة، نباتات لتنظِّف أسنانك بها، نباتات لتنظف ما بين الأسنان؛ الخُلَّة، نباتات لتكون ورقاً ورق البُردي، قال الله عزَّ وجل: 

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)﴾

[ سورة الأنعام ]

هناك نبات ورق، هناك نبات سواك، هناك نبات نكَّاشة أسنان، هناك نبات ليفة، وجه ناعم ووجه خشن؛ الخشن على الخشن، والناعم على الناعم، أنواع النباتات لا تعد ولا تحصى، كلها مخلوقةٌ من أجلك، تكريماً لك. 
 

كل شيء خلقه الله جعله مذلّلاً للإنسان:


﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ الجبال، الوديان، الصحارى، السهول، البحار، الأنهار، البحيرات، الينابيع، الجبال العالية، أنواع الحيوانات، كم خروفاً يستهلك البشر في اليوم الواحد؟ أعداد فلكية، من خلقها؟ كم دابة تُستخدم لطعام الإنسان في اليوم الواحد؟ أرقام فلكية. 
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ ولكن عندنا قاعدة أن الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به، أنت من الممكن أن تنتفع بمكيِّف دون أن تفقه شيئاً عن تركيبه، ولا عن آلية عمله، وهذه من نعم الله العظمى، تنتفع بكل ما في الأرض دون أن يكون هذا الانتفاع مبنياً على معرفةٍ به، إذاً هو مُذلل لك، هناك أجهزة معقَّدة جداً إن لم تعلم طريقة تشغيلها كأن الجهاز ليس له قيمة، أما كل شيء خلقه الله جعله مذللاً لك، ولكن أحياناً تصبح الرياح المذللة أعاصيرَ مدمرة، والأمطار المنعشة تصبح فيضانات مدمِّرة، والأرض المستقرة تصبح زلازَل مدمِّرة، ما حكمة الزلازل والفيضانات والعواصف؟ قال: إذا توهَّم الإنسان أنها تعمل بأمره أو تعمل بإرادته، أو أنه هو الذي استغلها وسيَّرها فهو واهم، هو لا يملكها، تأتيه أحياناً فتنفعه وأحياناً تدمِّره، إذاً الله عزَّ وجل هو الذي ذلّلها، جنَّت بقرة في الغوطة فقتلت رجلين وجرحت الثالث، ما كان من صاحبها إلا أن أطلق عليها النار فقتلها، لأنها جنَّت، علماً أن ثمنها سبعون ألف ليرة، من جعلها مذلَّلة؟ الجمل لا تخاف منه أما العقرب فإنك تخاف منه لأنه غير مذلَّل، الأفعى غير مذلَّلة، الضبع غير مذلَّل، أما الجمل فمذلَّل، الحصان مذلّل، الدواب مذلَّلة قال تعالى: 

﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾

[ سورة يس  ]


الأصل في الأشياء الإباحة:


أيها الإخوة الكرام؛ استنبط العلماء من هذه الآية أن الله عز وجل حينما قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ الأصل في الأشياء الإباحة، لمن خُلِقت؟ للإنسان، إلا ما ورد فيه نص تحريمي، فالأصل في الأشياء والأفعال الإباحة، ولا يُحرَّم شيءٌ منها إلا بنصٍّ صحيحٍ قطعي الدلالة، دينُنا منهجي، الأصل في الأشياء الإباحة، والتحريم يحتاج إلى نص صحيح قطعي الدلالة، أما في العبادات فالعكس، الأصل فيها الحظر ولا تُشرع عبادةٌ إلا بنص صحيح قطعي الدلالة، فالأشياء أصلها مُباحة، العبادات أصلها محظورة، لذلك الذي يُحرِّم ما خلق الله للإنسان هو إنسان جانب الصواب: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ أنت تقول: الله عزَّ وجل يعلم، والإنسان يعلم، تقول: الله عزَّ وجل قدير، والإنسان يقول لك: رجل قدير، فهل يُعقل أن تكون قدرة الإنسان كقدرة الله؟ وأن يكون علم الإنسان كعلم الله؟ واستواء الإنسان كاستواء الله؟ الله عزَّ وجل ليس كمثله شيء، كل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك، لذلك أكمل شيء أن نوكل إلى الله المعنى الدقيق للآيات القليلة جداً المتعلقة بذات الله، كيف استوى الله إلى السماء؟ الله أعلم بهذا الاستواء، الاستواء معلوم والكيفُ مجهول، والسؤال عنه بدعة، الاستواء معلوم لكن الكيفَ مجهول، استواء الله غير استواء الإنسان، استوى زيدٌ على بلاد الشام أي ملكها، إذا قلنا: ملكها، بيد من كانت قبله؟ هذا المعنى لا يليق بحضرة الله عزَّ وجل، فالاستواء إذا نُسِب إلى الله هناك معنى لا يمكن أن يكون كالمعنى البشري، لأن الله ليس كمثله شيء، لذلك قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال بدعة" ، هذا متعلقٌ بذات الله، الأكمل أن نَكِلَ إلى الله المعنى الدقيق للأشياء المتعلقة بذات الله، أو أن نُؤوِّلها تأويلاً وفق ما يليق بكمال الله: 

﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)﴾

[ سورة الفجر ]

أي جاء أمره: 

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾

[ سورة الأنفال  ]

أي علمه، وهكذا. 
 

الآية التالية تشير إلى المجموعة الشمسية:


قال تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)﴾

[ سورة البقرة ]

هناك تفسير دقيق، وجيد، ومقنع، وراجح، هو أن هذه السماوات السبع سبعٌ بشكل دقيق، ولكن علماء التفسير خلال ألف ومئتي عام أحصوا الكواكب فوجدوا أنها: عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل، خمسة، والآية سبعة، أضافوا الشمس والقمر فصار العدد سبعة، أما قول الله عزَّ وجل: 

﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16)﴾

[  سورة نوح  ]

في هذه الآية لا علاقة للشمس والقمر بالسماوات السبع، اكتُشف بعد ألف ومئتي عام أنه يوجد نجم سادس هو أورانوس، ونجم سابع هو نبتون، فكأن هذه الآية تشير إلى المجموعة الشمسية، الشمس مركز هذه المجموعة، والقمر تابع للأرض، هي سبعة نجوم: عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل، وأورانوس، ونبتون.
 

كل شيء يزهو الإنسان به موجود في الأرض ومسخَّر ومذلّل:


هناك تفسير آخر؛ كلمة سبعة تفيد التكثير في اللغة العربية، والقرآن حمَّال أوجه، لك أن تَعُد أن هناك سماوات كثيرة، ولك أن تقول: هي سبع سماوات، هي سبعة نجوم سيّارة حول الشمس: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .
 على كلّ هذه الأشياء مسخَّرةٌ لنا، ونحن ما فعلنا شيئاً إلا أننا انتفعنا بها، كل شيء ظن الإنسان أنه قدَّمه هو موجود في الأرض، كشفه فقط، هل هناك إنسان صنع معدناً؟ اكتشف المعدن، نحن عندنا وهم كبير أن الإنسان حقق معجزات، لم يفعل الإنسان شيئاً إلا أنه اكتشف واستفاد، أما الأشياء فهي موجودة، المعادن موجودة، البترول موجود، كل شيء يزهو الإنسان به موجود في الأرض، ومسخَّر، ومذلل. 
 

ما بين الحياة والموت ينبغي أن يكون لله عزَّ وجل:


الشيء نفسه أحياناً يستعصي، الأرض مذلّلة فإذا اهتزت انتهى كل شيء، والرياح مذلّلة فإذا هاجت دمَّرت كل شيء، والماء مذلّل فإذا زاد عن حدِّه المعقول دمَّر كل شيء، معنى هذا أن فيضان الأنهار، وانتشار العواصف المدمِّرة، وزلزال الأرض هذا يؤكِّد أن الإنسان ضعيف، وأن هذه الأشياء المذللة له أرادها الله مذللة، فإذا أخرجها عن طبيعتها، أي مرض جنون البقر في بريطانيا، تملك بريطانيا أكبر قطيع بقر في العالم، الدولة الأولى المصدّرة للحوم البقر وتوابع هذه اللحوم، أطعمت البقر طحين لحم الجِيَف، علماً أن البقر مصمم ليكون غذاؤه نباتياً، فأطعموه طحين اللحم، فجنَّ البقر، هذا الجنون اسمه: الاعتلال الإسفنجي الدماغي، حينما جنَّت لم تعد مذللة، ومرضها قد ينتقل إلى الإنسان، وهذا شيء خطير جداً، فتوقفت كل هذه التجارة، فالأشياء مذللة إذا ظنّ الإنسان أنه سخَّر الطبيعة، وسيطر عليها، واستغلَّها، وهي تعمل بإمرته، هذا كلام فيه جهل كبير جداً، لا يوجد شيء مذلل إلا بلحظة من اللحظات يستعصي على أن يكون مذللاً لك، وهذا الشيء نراه كل يوم، بلحظة الإنسان يُشلّ، يرى بلحظة يفقد بصره، يسمع بلحظة يفقد سمعه، يفكر بلحظة يفقد عقله، بلحظة يموت فجأة.
شابٌ في الثانية والثلاثين من العمر، توفَّاه الله عزَّ وجل لسبب صغيرٍ جداً، أصابه سعال شديد، وارتفع ضغطه، فسبب له سكتة دماغية، اثنتان وثلاثون سنة، من منَّا يضمن أن يعيش ثانيةً واحدة؟ الله عزَّ وجل هو الذي خلق حياة الإنسان، وهو يخلق الموت، فهو: 

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

[  سورة الملك  ]

فما بين الحياة والموت ينبغي أن يكون لله عزَّ وجل، القوس الأول للحياة، والقوس الثاني هو الموت، وأنت بين قوسين، وخالق الحياة هو الله، وخالق الموت هو الله، وهو معك دائماً كيف تعصيه؟ هذا شيء مستحيل. 
 

مهما اعتنيت ببيتك القبر هو المثوى الأخير:


اليوم درسنا أيها الإخوة؛ ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ استفهام تعجُّبي، استفهام إنكاري، استفهام توبيخي: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ والله أيها الإخوة الموت وحده أكبر درس، كل شيء تملكه تفقده بثانية، يكون للميت درج خاصّ فيه، عنده بعض التحف، يُفتح هذا الدرج وتؤخذ مقتنياته، يؤخذ مفتاح سيّارته، لا يوجد شيء بحياته حريص عليه إلا ويفقده بعد موته، يُصبح جثةً هامدةً، يكون معه مئات الملايين، الخام أسمر وليس مقصوراً لأن  المقصور حرام، الكفن خام أسمر، والقبر؛ لا يوجد قبر خمس نجوم، ولا نجمة، يوجد نجوم الظهر، هذا القبر، هذا القبر هو المثوى الأخير، مهما اعتنيت ببيتك القبر هو المثوى الأخير، "كفى بالموت واعظاً يا عمر"، هذا الحدث الذي لابدَّ منه، العاقل، والذكي، والموفَّق الذي يُعِد لهذه الساعة التي لابدَّ منها، هذا الحدث حدث الموت ينبغي ألا تفاجأ به، ينبغي أن تسعى ليلاً نهاراً إعداداً له، لأن القبر سيكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران؛ آل فرعون: 

﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾

[ سورة غافر ]

منذ ستة آلاف سنة: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ .
 

من نعم الله علينا نعمة التنفس الآلي:


هذا القبر، والقبر مصير كل حيّ، كان ملء السمع والبصر توفاه الله عزَّ وجل وأصبح رهين عمله، وكلنا على هذا الطريق سائرون، والموت مصير كل حيّ: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ كنا في طور العدم أحيانا الله، ثم أماتنا، ثم يحيينا للحساب والجزاء، ثم كل ما في الكون خُلِق لنا، خُلِق لنا تكريماً، وخلق لنا تعريفاً، خُلِق لنا تكريماً وتعريفاً، ويمكن أن تنتفع بهذه الأشياء دون أن تعلم عنها شيئاً، أبداً.
إنسان ينام يتنفَّس طوال الليل، يوجد مركز في البصلة السيسائية هذا مسؤول عن تنبيه الرئة النوبي، هذا لو تعطَّل تصبح حياة الإنسان جحيماً، ينام فيموت، يحتاج إلى التنفُّس الإرادي، يُقَلِّص ويضغط، هذا المرض يصيب بعض الأشخاص، طبعاً من يصابون به يموتون على الفور، لأنه ينام يموت، المركز مُعطَّل، يتوقف التنفس فيموت الإنسان، وجد له دواء الآن، ولكنه غالٍ جداً، يجب أن تأخذه كل ساعة بالليل، يضع المريض أربع منبهات، يستيقظ الساعة الحادية عشرة يأخذ حبة، ثم يصحو الساعة الثانية عشرة إلا ربع ويأخذ حبة الساعة الثانية عشرة والساعة الواحدة حبة، والساعة الثانية حبة، والساعة الثالثة حبة، والساعة الرابعة حبة، هل تعرفون نعمة التنفُّس الآلي؟ نعمة الهضم الآلي، يحتاج الطعام خمس ساعات ليُهضم، آلية معقدة جداً؛ حمض كلور الماء، والبنكرياس، والصفراء، والكبد، أنت كُل وامشِ فقط، كُلْ واذهب إلى النوم. 
 

فضل الله علينا ونعمه لا تعد ولا تحصى:


لو كان الهضم بأيدينا؛ عندي هضم لا أقدر!! لا أقدر أن أذهب عندي هضم، الهضم كُلْ وارتح، يعمل القلب آلياً، لو كان القلب بيدك، الانتحار صار سهلاً جداً، ليس القلب بيدك، ما ربطه لك القلب، والرئتين كذلك، ملايين النعم هذه نعيشها ولا نعرف عنها شيئاً، أنت تمشي متوازناً على قدمين، لو اختلّ جهاز التوازن: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هذا فضل الله علينا، ما علينا إلا أن نطيعه، وأن نحبَّه، وأن نُعظَّمه، وأن نخافه، وأن نُخلص إليه، وأن نشتاق إليه، وأن نجعل: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي:

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾

[ سورة الأنعام ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور